20/07/2020 - 18:10

"الترامبية": رئيس يكره الصحافيين

على ترامب وأمثاله الاقتناع بأن الإعلام الموضوعي يُعتبر السلطة الرابعة والجدار المتين الذي يحافظ على حقوق الناس والمنظومة الديموقراطية، وأن كل المحاولات لإخراسه بطرق ترامبستية ستفشل وستجعل صوت الحقيقة في مرحلة "ما بعد الحقيقة" أعلى.

كتبت هذه المقالة في إطار "ورشة المقالة الصحافية" التي نظمها موقع "عرب 48" بالتعاون مع جمعية الثقافة العربية، مؤخرًا، وقدّمها أستاذ الإعلام في جامعة بير زيت، صالح مشارقة.


منذ تقلد دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في عام 2016، بدأت تظهر معالم جديدة لأساليب وطرق التعامل مع الإعلام الأميركي والعالمي في البيت الأبيض، يمكن تسميتها "المدرسة الترامبية"، وهي مدرسة عنيفة وحتى بذيئة لغويًا وترفض الآخر بشكل علني فاضح؛ ترفض الانتقاد، وترفض التفاعل والحوار، وتحتقر المختلف وتوبخه بهدف نقل معلومات بشكل انتقائي، إذ تكون أحيانًا بعيدة عن الحقيقة وغير موضوعية، وتتنافى مع الأخلاق الإعلامية والذوق العام.

فمثلا كل من تابع طُرق وأساليب تعامل ترامب مع الإعلام بعد أزمة فيروس كورونا، أصبح على يقين أقوى بأنه لم يتبق لترامب فعالية يقوم بها خارج عتبات البيت الأبيض سوى الشجار مع الصحافيين لفرض مواقفه ورفض حتى أسئلة شككت بأقواله ومواقفه.

لا يمكننا إنكار هوس ترامب للكاميرات أو تجاهل نسب المشاهدة المرتفعة للقاءاته مع الصحافيين التي تجاوزت الساعتين، خلالها لم يقم "نجم" البيت الأبيض بالإجابة على أسئلة الصحافيين كما هو مفترض، إنما مارس فنون الرد التي وصلت حد الوقاحة لا اللباقة والحنكة. ترامب كعادته لم يتردد للحظة في توبيخ جميع الصحافيين غير المنتمين لحزبه وسياساته ومصالحه الشخصية.

منذ يومه الأول سبق كلامه تفكيره، وصار مصطلح الأخبار الكاذبة أو المضللة (fake news) لصيقًا باسمه؛ ففي العام 2016 الذي خاض فيه ترامب الانتخابات تلاعب بكلمة "أخبار كاذبة" حتى بدأ يستفيد منها عبر التفاعل الكبير حولها في مواقع التواصل الاجتماعي.

والأخبار الكاذبة تهدف الى نشر معلومات مضللة عبر وسائل الإعلام المختلفة، لتخدم مصلحة الجهة الناشرة المعنية على حساب الخصم المُستهدف. وشكلت وسائل التواصل الاجتماعية، خصوصًا فيسبوك، بيئة خصبة لتكاثر وتناقل هذه المعلومات كونها تصل للمستخدمين بشكل سريع، مع إمكانية متاحة وسهلة لمشاركة المضمون، والأهم من ذلك هو صعوبة مقاضاة الحساب الناشر بسبب عدم معرفة هوية صاحبه في الكثير من الأحيان.

تتميز الأخبار الكاذبة غالبًا بمضمون جذاب "أصفر" يجعلها أكثر لفتا للانتباه من أي خبر موثوق من قبل جهات رسمية، واجتاح هذا المصطلح أذهاننا بعدما تم اتباعه كإستراتيجية مركزية في الانتخابات الأميركية.

فخلال حملة ترامب الانتخابية عام 2016، تمكن من تعديل وتوسيع هذا المصطلح حتى يشمل جميع الأخبار السلبية الناقدة له، والتي لا تخدم أهدافه الشخصية. وهكذا أضحى كل خبر "لا ترامبي" يعتبر خبرًا مزيفًا، وعار عن الصحة ومن المصداقية بالنسبة لترامب والحزب الجمهوري وفريقه الانتخابي.

نتيجة لكل هذه التغييرات المؤثرة على الرأي العام، أجبر معجم أوكسفورد إيجاد مصطلح يصف هذا العصر، لذا جرى اعتماد مصطلح "ما بعد الحقيقة" (بوست تروث - Post-truth) ليصبح سياسة تتبعها أكثر دول العالم ديموقراطية حتى. تستند هذه السياسة والتي تعرف بسياسة تجاوز الحقائق إلى تأجيج المشاعر والسخرية، وإثارة الخوف والحرص على جعل المتلقين يصدقون وعود القائد الكاذبة، لتصبح الحقيقة والواقع أمر ثانوي وغير مهم.

بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، قام ترامب بنشر ما يقارب 2140 خبرا كاذبًا ومضللًا خلال عامه الأول في منصبه كرئيس، أي بمعدل 5.9 خبر يوميًا. شملت مضامين هذه الأخبار تحقيقات في التدخل الروسي بالانتخابات، بالإضافة إلى أخبار عن شعبيته وإنجازاته وانتقاد لنظام العدالة والاستخبارات، وكذلك غالبية تصريحاته شملت مهاجمة الصحافة بشكل دائم.

نتيجة لإهانة الصحافيين المستمرة، أصبح ترامب يحظى بتغطية سلبية مؤخرًا، في ظل التوتر الداخلي بعد مقتل جورج فلويد وفشله في التعامل مع وباء كورونا. لاحظ مستشارو ترامب خطورة هذه الخطوة التصعيدية من قبل الصحافيين في هذا الوضع الحساس، ومع اقتراب الانتخابات طالبوه "بأخذ استراحة" من مهاجمته للصحافيين، وطبعًا كعادته لم ينصع لطلب مستشاريه معتقدًا أن نسب المشاهدة ستترجم لأصوات انتخابية قريبًا.

من ناحية نظرية، يعتقد ترامب أنه فاز على خصمه الديموقراطي جو بايدن بعد إقصائه عن شاشات التلفاز، إذ لم يترك له سوى تسجيلات عن بعد تُنشر من بيته، فكورونا ومن بعدها الاحتجاجات غيرت قواعد اللعبة السياسية.

يعتقد البعض أن ما يحصل اليوم في عصرنا الحالي، "ما بعد الحقيقة"، ليس إلا طفرة لطرق الكذب وتزوير الحقائق القديمة السابقة، فاليوم على الكذب أيضًا التماهي والتماشي مع التطور التكنولوجي، في المقابل على كل طرف مستفيد من نشر الأكاذيب والمعلومات الزائفة إدراك وجود صحافيين يقودهم ضمير حي ينبض بالبحث عن الحقيقة ونشرها على الملأ.

على ترامب وأمثاله الاقتناع بأن الإعلام الموضوعي يُعتبر السلطة الرابعة والجدار المتين الذي يحافظ على حقوق الناس والمنظومة الديموقراطية، وأن كل المحاولات لإخراسه بطرق ترامبستية ستفشل وستجعل صوت الحقيقة في مرحلة "ما بعد الحقيقة" أعلى.

* فاطمة خمايسي، طالبة ماجستير إعلام سياسي.

التعليقات