20/07/2020 - 16:44

"عن المسبات" والمقاومة بالحيلة وحساب الخسائر

نحن في مسباتنا نكون ظالمين ومظلومين وبين نارين. الرواية الإسرائيلية تقوم باستفزازنا على صفحاتها، لتستغلنا وتستغل عجزنا ورغبتنا بالسباب عليها، لتقوم بذلك بنشر خطابها في العالم العربي.

كتبت هذه المقالة في إطار "ورشة المقالة الصحافية" التي نظمها موقع "عرب 48" بالتعاون مع جمعية الثقافة العربية، مؤخرًا، وقدّمها أستاذ الإعلام في جامعة بير زيت، صالح مشارقة.


عند انتقالك بين أقبية العوالم الزرقاء الافتراضية هاربًا من واقع يأبى أن يتغير، باحثًا عن أمل ما لم تجده في الخارج، لكنك سرعان ما تستبدله بنقيضه، وفي اللحظة التالية تعود إلى الواقع لتستبدله بخيبة جديدة.

هذا التقلب الحاصل هو عند مصادفتك لإحدى الصفحات الإسرائيلية التي تستخدم اللغة العربية في وسائل التواصل الاجتماعي، كحساب المتحدث باسم آلة الإجرام الإسرائيلية أفيحاي إدرعي، أو في صفحة "إسرائيل تتكلم العربية" أو "إسرائيل في الخليج" وغيرها العديد من الصفحات المشابهة.

مصادفتك لأية صفحة من هذه الصفحات قد تختطف منك أي أمل جئت لتبحث عنه هنا؛ كم هائل من المتابعين والمعلقين والمشاركين على الصفحات؛ عشرات الآلاف من المتابعين وفي بعضها هناك مئات آلاف؛ لتتولد في داخلك الكثير من الأسئلة حينها، ألهذه الدرجة توغل التطبيع في عقول شبابنا؟ هل تخلت الشعوب العربية عن ثقافتها الوطنية علانية؟ هل تخلت الشعوب كما حكومتها في السابق عن فلسطين؟ لكن سرعان ما يتبخر هذا الخوف، ويتغلغل فيك شعور الأمل من جديد. دخولك إلى واحدة من منشورات هؤلاء، تُحييك من جديد. هذه الصفحات لا تحتوي إلا على العشرات بل المئات من المسبات والشتائم التي تتلقاها إسرائيل والذين يديرون هذه الصفحات من الشعوب العربية.

السباب والشتيمة، وبعيدًا عن صدقية وأحقية مطالبة الجهات النسوية لعدم تحويل أعضاء النساء التناسلية لمسبة، بالإضافة إلى قيامنا بتفريغ مفاهيم هذا الكلمات من قيمتها الأخلاقية، تبقى هذه المسبات هي راحتنا الأخلاقية، إذا قمنا بتجريد القوي والمستضعف من مناصبهم.

كيف نقوم بذلك وما هو الثمن الذي ندفعه في المقابل؟ أتيح لنا ذلك بسبب التغيير الحاصل في المشهد الإعلامي في العقد الأخير، مع صعود الإعلام الرقمي الذي أتاح للجمهور الذي قضى جُل حياته متلقيًا للمعلومة لا مؤثرًا فيها ولا معلقًا عليها. هذا ما يُعرف بالمسار الأحادي في الإعلام، وهذا ما يحدث في التلفاز أو في الجرائد مثلا. مع صعود هذه منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت الشعوب العربية تستطيع أن تبدي مواقفها بشكل واضح ومباشر. أتاحت وسائل الإعلام الرقمية لنابأن نرد على من يعتقد بأن بإمكانه أن يصف قتل أطفالنا الذين يلهون على الشاطئ بأنه خطأ، وبعدها يستغل أعراف الإعلام التقليدي ليخرج على منصاتنا ليحدثنا أنه خطأ قد وقع لحظة محاولة التخلص من الإرهاب.

مرة في طفولتي قام خالي برمي منفضة السجائر صوب التلفاز وكسره، لأنه لم يستطع على حده قوله أن يسحب أحد المتحدثين الإسرائيليين في إحدى الفضاءات العربية من التلفاز، ويهشم رأسه لينتقم لأطفال قانا الذين استشهدوا في القصف الإسرائيلي خلال حرب تموز/ يوليو في عام 2006. كنت قد نظرت إليه وسألت نفسي لماذا لا يسافر خالي إلى تل ابيب التي تبعد عنا ساعة ونصف ليهشم رأسه كما ادعى، وما كنا قد اضطررنا أنا وابنه للعودة إلى بيتنا لمشاهدة المسلسل الكرتوني "هزيم الرعد".

بكلمات أخرى، هذا ما تبقى لنا، هذا الذي تبقى لنا من خطنا المباشر والوحيد مع الكيان الاستعماري على أرض فلسطين: تعليقات السباب على هذه الصفحات. توجيه هذا النقد الملفع بالسباب تجاه آلة الإجرام هذه على الملأ، هو الذي ينقذنا من شعورنا بالضعف. إن "المسبات" من هذا المنظور تتحول إلى راحتنا الأخلاقية الأكبر. فقد فقدنا كل قدراتنا على مواجهة إسرائيل بسبب الحكومات التي تحول بيننا وبينهم، أو فقداننا للحاضنة الشعبية التي استفردت فينا حتى قضت على خيالنا بمواجهة إسرائيل. إذًا كيف تكون خسارتنا الفلسطينية الأكبر؟

من دون التطرق إلى كون هذه التعليقات ما هي إلا مسكنات تجعلنا نصب غضبنا في مكان خاطئ؛ إلا أن لكل مسار إعلامي مهما بلغ من التعقيد حاجة لثلاثة مركبات أساسية: ناقل المعلومة، والمعلومة والمتلقي. ففي النظرية الإعلامية التي تُسمى "بناء الواقع"، التي ابتدأت بالتشكل على يد وزير الإعلام الألماني النازي، جوزيف غوبلز. خُلدت إحدى مقولات هذا الوزير، "أكذب وأكذب حتى تُصدق". تقوم هذه النظرية على مقولة أن كثرة المعلومات التي يقوم ناقل المعلومة بعرضها على المتلقي بشكل مكثف، ستتغلغل في اللاوعي الخاص به، ومن ثم يتحول الخطاب الذي يرغب تثبيته بالمتلقي لجزء منه، ليستعمل مصطلحاته ويبني الواقع في عقله/ بالتالي التلاعب بواقعه، وخلق وعي جديد يحتل مكانه. مثال من إحدى الشركات الاستهلاكية الموجودة في محيطنا، التي تتواجد إعلاناتها في كل مكان، الشارع والتلفاز والهاتف الخاص، لتخلق لك حاجة لم تكن تعلم عنها، وتقوم بدعوتك لشراء منتوجها.

لا تختلف دعاية إسرائيل بقدر كبير عن هذا الأسلوب من الدعاية. حظنا بأن العالم تغير ما بعد الحرب العالمية الثانية، حتى أن أحد الصحافيين في موقع صحيفة "هآرتس" كان قد كشف قبل فترة عن مخططات لمعسكرات اعتقال (جيتوهات شبيهة بالتي استخدمتها النازية لاعتقال وإبادة اليهود والشيوعيين المثليين وغيرهم). هذا التشابه شمل أيضًا الطريقة الإعلامية نفسها، فإسرائيل تحاول أن تبني لنا واقعًا جديدًا عن حقيقتها، وهذا مطب وقع فيه الكثيرون في السنوات الأخيرة. وهذا بالضبط ما تحتاجه إسرائيل منا... "مسباتنا".

تبدو الرواية الإسرائيلية أنها تحارب في معركة خاسرة على المدى القصير، بينما قد تكون رابحة على المدى البعيد. فمثلاً قام إدرعي على صفحته بتهنئة مغنية لبنانية بيوم ميلادها، وهي التي غنت للمقاومة اللبنانية، ومع أنه مدرك بأنها ألد أعداء إسرائيل، ومن ثم دعاها من خلال إلى زيارة إسرائيل لتقدم فنها. يدرك المذكور أعلاه بأن هذه المعركة خاسرة، لكنه دخلها بكل الحالات، وذلك لإدراكه أن جوليا بطرس ستقوم بتبرئة نفسها من هذه التهنئة وتنعته بالوقح. وهذا فعلا ما حدث، فقد أعادت جوليا بطر نشر هذه التهنئة وبالتالي رسالته، بأن إسرائيل هي دولة سلام مُحبة للفن، وقد ساهمت من خلال مشاركتها تغريدته بوصول رسالته لعشرات الآلاف من متابعيها في وسائل التواصل الاجتماعي.

إذًا، نحن في مسباتنا نكون ظالمين ومظلومين وبين نارين. الرواية الإسرائيلية تقوم باستفزازنا على صفحاتها، لتستغلنا وتستغل عجزنا ورغبتنا بالسباب عليها، لتقوم بذلك بنشر خطابها في العالم العربي. إسرائيل تقوم بالكذب والكذب حتى تُصدق، لكنها تحتاجنا لكي تصل روايتها إلينا؛ تحتاج الى رغبتنا بمحاورتها بهذه الطريقة لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس. هذا هو صراعنا الذي نخسره حين نرد على هؤلاء، لكننا مجبرين على الرد، لكي لا نترك لهؤلاء الساحة للعب دور الضحية التي فقدنا عناصر روايتها كفلسطينيين وكشعوب عربية.

* معتصم زيدان، طالب إعلام وفلسفة في جامعة حيفا.

التعليقات