ما أقذر القيم التي تؤسس أخلاقيات السياسة الدولية في هذه الأيام، وما أحطَّ المعايير التي بمقتضاها تشتغل. وما أبعد “الكبار” عن أن يكونوا كباراً وإن رجحت كفة الميزان لهم في الاقتصاد والعلم والتقانة والسياسة والقدرة الحربية! يكفي أن يقع جندي غاز في الأسر، حتى تقوم قيامة “العالم الحر” استنكاراً ل “الإرهاب”، ومطالبة بالإفراج الفوري عن الجندي الأسير، وإجازة ل “حق” “إسرائيل” “في الدفاع عن نفسها” بالطائرات والصواريخ وقذائف الدبابات والبحرية: تدمر الجسور ومحطات الكهرباء والمؤسسات الوطنية، وتطلق حفلة النار في اللحم الفلسطيني الحي.
ما هم إن كان ثمن العربدة العسكرية “الإسرائيلية” أنهاراً من الدماء وأكوام البيوت المدمرة والجثث المبعثرة. فهو ثمن رخيص لممارسة “إسرائيل” “حق الدفاع” عن النفس الذي أقرته لها شريعة البيت الأبيض بعد أن بات “الكبار” الآخرون من “سدنة” القانون الدولي خرساً لا ينطقون.
وما هم إن أقدم الاحتلال على خطف الوزراء والنواب ورؤساء البلديات من بيوتهم، فالحرمة والحصانة مفروضة الاحترام على غير “إسرائيل”. أما هذه، فلا جناح عليها ولا ضير إن وصلت الى أي “رأس” في فلسطين أو حلّقت فوق أي “رأس” في المدى العربي الرحب المفتوح أبداً أمام استباحتها! فعلى أعتاب أفعالها تقف أحكام القانون الدولي فلا تسري أو تطول.
وما هم إن كان في سجون “إسرائيل” عشرة آلاف أسير، فلها أن تحتجزهم مثلما شاءت، وأن تنزل بهم الأحكام التي شاءت، وأن تنتهك آدميتهم، لأنهم حملوا السلاح في وجه جيشها او رشقوا جنودها بالحجارة. وليس مهماً أنهم فعلوا ذلك من أجل تحرير وطنهم أو رد العدوان عنهم. الأهم أنهم حملوا السلاح في وجه دولة لا يجوز تهديدها بالسلاح أو بالحجر.. أو حتى بالاحتجاج اللفظي.
ما هم شيء من ذلك أمام “الأهم”: عودة الجندي الأسير الى هوايته في القتل والتدمير، بل قل الى أداء رسالته “الحضارية” التي خلقت من أجلها “إسرائيل”! وكل ما تأتيه هذه من أفعال أمر مشروع لقاء عودة الجندي الغائب.
هو أكثر من جندي، ولا يقبل أن يوضع في كفة الأرقام فيقال مثلاً إن لدى “إسرائيل” آلاف الأسرى، فهؤلاء “كم” بشري وهو “نوع” لا يتحدد بلغة التكميم والحساب! هو يهودي من “شعب الله المختار” والآخرون عرب (مسيحيون ومسلمون) لم تخترهم السماء. وهو “ضحية” لأنه فُرض عليه أن يدافع عن “أرض إسرائيل”، وهم “مذنبون” لأنهم يدفعونه الى قتالهم. ثم إن حربه على الفلسطينيين “مقدسة”، والاحتلال وجه من وجوه “قداستها” (أليس تمسكاً ب “الوعد الإلهي” في “الأرض الموعودة؟”)، أما حربهم، ف “إرهاب” يستدعي القصاص.
لا يعلو الجندي الأسير على مراتب الأسرى والناس من أهل فلسطين إلا لأن دولته “إسرائيل” تعلو على سطح الدول والكيانات في الأرض جميعاً. فلها دون سواها أن تحتل وتقتل وتشرد دون أن تلقى العقاب، بل دون أن تلقي بالاً الى ما تعارفت البشرية على أنه قانون دولي ينظم العلاقات بين الأمم والدول ويرسم حدود الوصل والفصل بين الممنوع والمسموح به. ولها دون سواها أن تملك أسلحة الدمار فتهدد السلم والأمن العالميين دون أن يكون لأحد حق في المطالبة بالرقابة على سلاحها! العالم دول، أما هي، فدون سواها الدولة. والمسافة بين النكرة والتعريف هي عينها المسافة بين الكم والنوع.
“إسرائيل” ليست من الأرض، “إسرائيل” “من السماء”! وهل لقانون (دولي) صنعه البشر أن يسري أحكاماً عمن هم “فوق البشر”؟! تلك عقيدة “إسرائيل” منذ قامت على أشلاء الفلسطيني وتراب أرضه. رددتها طويلاً بألسنة الحاخامات، وطبقتها طويلاً سياسات الجنرالات. ثم لم تلبث أن وجدت من يردد معها لغة الاستعلاء ومفرداتها من المشايعين لها من المحافظين الجدد ومن أساطين المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة، لتنتقل مفرداتهم سريعاً الى الكونجرس والبيت الأبيض والصحافة ومراكز الدراسات.
وقد يكون مفهوماً أن تكون “إسرائيل” ميتا تاريخية في العقل الصهيوني (“الإسرائيلي” والأمريكي) فتعلو على القانون والاحتساب، ويتولاها الشعور بمطلق الحرية في إنفاذ شريعتها على الناس أجمعين في هذا العالم (وهل تفعل أمريكا شيئاً آخر غير هذا؟). لكن الذي يعصى على الفهم أن تزدرد أوروبا هذه الهلوسة، فتبدي من “ردود الفعل” ما يشي بأنها في غير ما اعتراض على علو قامة “إسرائيل” على القانون والشرعية الدولية! فما معنى أن يتملك أوروبا صمت القبور، فلا يجد الخرس من قادة دولها ما يقولونه أمام همجية العدوان الصهيوني واختطاف الوزراء والنواب إلا أن على الفلسطينيين أن يطلقوا سراح الجندي الأسير؟
أما العرب، ففاغرو الأفواه يتفرجون على القتل “الإسرائيلي” كما لو كانوا يتفرجون على “فيلم أمريكي طويل”! ولكن لا بالمعنى الدراماتيكي الرحباني (نسبة الى زياد الرحباني) في التقاطه ما هو فجائعي في ذلك “الفيلم” “الأمريكي الطويل” الذي حملته مسرحيته عنواناً وإنما بالمعنى “الفرجوي” حيث يتنقلون بين قنوات المونديال الكروي وقنوات الكرنفال الدموي، وهم عن مصيرهم ساهون!
التعليقات