31/10/2010 - 11:02

تركيا المتحجبة.. تركيا السافرة: تجليات الهوية الضائعة وصراع المشروعين!../ عبداللطيف مهنا

تركيا المتحجبة.. تركيا السافرة: تجليات الهوية الضائعة وصراع المشروعين!../ عبداللطيف مهنا
ربما لم يسبق أن تسنّى لرجل أن يحكم بلداً من قبره، ولمدة زادت على ثلاثة أرباع القرن سوى لرجل واحدٍ... ذاك هو آتاتورك، أو أبو الأتراك، مصطفى كمال. وقد لا يكون قد حدث مثل هذا إلا في بلدٍ واحدٍ هو تركيا ما بعد العثمانية... ربما تكون كلمة يتحكم أكثر دقة من كلمة يحكم، لأن الأتاتوركية التي سادت تركيا منذ إلغاء صاحبها للخلافة العثمانية، قد واجهت عقب وفاته الكثير من التحديات، وشابها مع الزمن وبفعل تقلباته بعض التغيير الذي، على الأقل، انتقص من حدة نقائها، وأخيراً، هاهي اليوم تبدو في مرحلةٍ أشبه بالاحتضار، لكنما ظِل الرجل الطاغي لازال يلاحق تركيا الحديثة ويبدو لمريديه ومعارضيهم على السواء أن لا سهولة في الإنفكاك منه. نحن هنا لسنا بصدد تقييم التجربة الأتاتوركية، التي فصلت بين الأتراك وجذورهم الثقافية، محاولةً إخراجهم من جلدهم، فالبستهم القبعة بدلاً من الطربوش، لكن هذه التوطئة ربما تكون مدخلاً لا بد منه لمقاربة الأزمة الراهنة التي تعصف بالساحة السياسية التركية راهناً، تحت عنوان قضية الحجاب، أو "تعديلات الحجاب" التي أقرها البرلمان الحالي ذو الأغلبية العائدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، الموصوف بالإسلامي، ومشاركة من حزب الحركة القومية اليميني.

كان يظن أن عاصفة الحجاب قد خفّ عجيجها نسبياً إلى حين بانتظار ما قد يسمح به الوقت من مساومات بين طرفي الأزمة، أو تعديلات دستورية محتملة قد يقدم عليها حزب العدالة والتنمية لطرحها للإستفتاء الشعبي، قبل أن يصدر حكم المحكمة الدستورية الفصل في القضية المرفوعة ضدّه بغية معاقبته على المسّ بالمحرمات الأتاتوركية، لكن هذه العاصفة لم تلبث وإن عادت إلى سابق ثورانها مجدداً بعد أن رفضت هذه المحكمة التعديلات الدستورية المتعلقة بالسماح بارتداء الحجاب لمن يرغبن ارتداءه في الجامعات، بل زادت فقضت بعدم دستوريتها، وأفتت بتعارض الحجاب مع العلمانية، مانحةً نفسها صلاحيات إضافية وصلت حد التشريع والتفسير المفترض أنه حق حصري بالبرلمان أو السلطة التشريعية. والحقيقة أنه ما كان لهذه العاصفة أن تهدأ لا اليوم ولا غداً، وبصرف النظر عن حكم المحكمة هذا، لأن تحت حجاب تركيا المثير هذا تمور معركة هوية قلقة، ويحتدم صراع مرير بين مشروعين لن تقوى مرونة إسلاميّي تركيا الفائضة وتراجع قوة شوكة الأتاتوركية على التخفيف من حدّته، أو التوفيق بين نقائض توجهيهما اللذين من الصعب أن يلتقيا. أو بلغة أخرى سوف لن يكون من السهل، بل ربما هو المستحيل بعينه، حلّ هذه المتحارجة المتمثّلة بمحاولة المصالحة بين العلمانية الأتاتوركية والإسلام الأردوغاني، الذي ما انفك يبشّر بحلها زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم.

لقد كانت مسألة "تعديلات الحجاب" مجرد الشعرة التي قصمت ظهر البعير لا أكثر، وتركيا اليوم إنما هي على مفترق طرق، ويتنازعها رجلان، واحد يتحكم من قبره، وآخر يحكم بمباركة شعبية، لكنما الأخير يحكم تحت طائلة أصفاد أحكام الراحل ذي الظل الباقي نسجها من حول سدّة الحكم فأورثها قسراً من يأتي بعده. بعبارة أخرى، فإن تركيا التي تخلّت عن ماضيها العثماني، تعيش صراعها المحتدم بين ماضيها الأقرب الأتاتوركي، ومستقبلها الغامض، أو حاضرها الأردوغاني على الأقل. ومن هنا يمكن النظر لما يعتمل فيها راهناً من صراعٍ سياسي، ويمكن أيضاً فهم ما رمى إليه رئيس وزرائها حالياً، رجب الطيب أردوغان، عندما يقول:

"إن تركيا لن تعود إلى الوراء"... وبالتالي يمكن فهم هذه السابقة القضائية التاريخية، هذه المتمثلة في محاولة الإطاحة بحزب سياسي يحكم بأغلبية برلمانية وله شعبية كاسحة، أو على الأقل كبيرة. إذ هي إنما محاولة أشبه ما تكون بالإنقلاب القضائي، ما حكم المحكمة الأخير الصادر إلا مجرد محطة في مساره متعدد المراحل الذي قد لا ينتهي إلا بإعدام سياسي لحزب مطلوب حلّه وحرمان واحد وسبعين شخصية قائدة فيه من ممارسة السياسة لمدة جمسة أعوام، وأول القائمة يأتي رئيس الجمهورية عبدالله غل، رغم أنه وفق الدستور لا تجوز محاكمته أصلاً إلا في حالة إرتكابه الخيانة، والذي هو الآن، وفق المتّبع، لم يعد عضواً في حزبه بعد أن أصبح رئيساً... وبالطبع، رئيس الوزراء رجب الطيب أردوغان، أو زعيم الحزب وراسم توجهاته. أو هذا ما ترمي إليه وتنشده شكوى المدّعي العام بدايةً، التي قبلت المحكمة الدستورية بإجماع أتاتوركييها النظر فيها سابقاً، ومن ثم أصدرت لاحقاً حكمها المشار إليه بأغلبية 9 من 11 عضواً. والطريف هنا، أن مسألة التعديلات المقرة، أومجرّد السماح للمحجبات أن يرفلن في أحجبتهن في الجامعات، قد شارك في إقرارها، كما أشرنا، حزب طوراني يميني هو الحركة القومية، ولكن لم يعن هذا للمدعي العام بأساً يستحق أن يضمنه شكواه على حزب العدالة والتنمية طارح مقترح التعديل الذي أقره البرلمان، أو ما يدعوه إلى المطالبة بحظره أسوة بمن شاركه في إقراره... الحزب المحظوظ أعلن أنه لا يعترض على قرار المحكمة وإن لا يوافقها الرأي!

إذن، نحن إزاء صراع توجهات وهوية وثقافة وتاريخ، يختزله صراع سياسي يفتقر إلى النزاهة... صراع بين مشروعين وذهنيتين مختلفتين، ظاهره قضائي وباطنه سياسي، يفصح عن مأزق تركي... صراع طرفاه جاز أن يوصفا بحق: ثورة طورانية مضادة، ضد ثورة أردوغانية "دستورية" صامتة، باعتبار الأخيرة نقيض للأولى يتهدد هيمنتها المستمرّة على بلدٍ لما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، وبالتالي يستفز ما يطلق عليه الأتراك "السلطة العميقة"، وإذا ما فصلنا نقول:

الأولى: تعبر عنها صفوة سادت وكان لها مصالحها التي ترسخت واستمرت لثمانين عاماً خلت، واليوم، وقد غدت أقلية لا يتعدى تمثيلها أكثر من 20% في البرلمان، تشعر بما يتهددها من هبوب رياح تغيير تمسّ هذه المصالح التي غدت تحت طائلة إرهاصات لعودة تركية لتلمس حقائق تاريخ وجغرافيا وأبجديات هوية لم تقو هذه السنون الثمانون على مسحها... صفوة احتكرت السلطة لما ينوف عن ثلاثة أرباع قرن خلت وتريد من تركيا أن تظل لها وحدها... صفوة تمتد ذهنياً إلى "جمعية الإتحاد والترقي" الشهيرة، التي قامت بانقلابها المعروف ضد السلطان عبد الحميد عام 1909... وظلت منذ إلغاء الخلافة وإعلان الجمهورية، تفرض علمانيتها المغالية، أو الاستئصالية الفريدة المطعمة بالشوفينية، والمطّاطية التفسير، أو القابلة دوماً للتوسيع، لحماية مصالح ذات الصفوة... أو هذه "الدولة العميقة"، المتحكمة في المفاصل غير المنتجة، المتمثلة في المؤسسة العسكرية، القضاء، المحكمة الدستورية، التعليم العالي، والتي يقف الدستور التركي الحالي إلى جانبها، ويعطي حارسها الأمين المدعى العام حق مطاردة من يهدد هيمنتها.

وحيث المدعى العام جاهز دوماً للقيام بواجبه المناط به كحام لحمى الأتاتوركية المخلّدة، كان يكفي مثلاً، أن يعتمد على أقوال لشخصيات حزبية سالفة في الحزب الحاكم قالوها قبل وجود حزبهم أصلاً، ليستند عليها في شكواه لحظر الحزب وإعدام هذه الشخصيات سياسياً، أو تصيّد جملة من هنا أو هناك غفل سياسيو الحزب عن ما تجره عواقب لفظها لاتهامهم، ومن ذلك، أن زعيم الحزب أردوغان، المتهم بأنه يريد تغيير النظام، قد قال يوماً في ماليزيا أن تركيا دولة إسلامية حديثة تساعد في حوار الحضارات! وعليه، إنما هو الآن يقترف خطيئة لا تغتفر، من مثل أنه يريد جامعات تركية تدرس فيها محجبات مع غير محجبات!

في العقود الماضية، كانت الأمور تحسم عبر المؤسسة العسكرية، إذ كلما لاح مشروع سياسي يرهص بثمة تغيير ينبئ بتشويش ما قد يؤثر على بقاء أتاتورك حاكماً بعد وفاته، أو قد يطال امتدادات سلطة الرجل الراحل، أو قد يقلقه في قبره، تتحرك الجزمة العسكرية لوأد القادم والحفاظ على الماضي. إذ أن أول انقلاب قد حدث في تركيا ما بعد أتاتورك كان قبل 58 عاماً، ومن يومها، أصبح هذا ديدناً يتكرر كل عشرة سنوات تقريباً، وهذا لم يكن ضد من يوصفون بالإسلاميين وحدهم، وإنما تساوى في هذا معهم علمانيون مثل سليمان ديميرل، وقوى أخرى ذات توجهات يسارية وماركسية، إلى جانب قمع الأقليات والمذاهب والمفكرين. أما بالنسبة للإسلاميين، فتكفي الإشارة لما جرى لأبيهم السياسي رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان عام 1995... هذا الشيخ الثمانيني شبه المقعد راهنا،ً والذي يؤثر عنه قوله: "نحن المسلمين الذين نمثل 99% من سكان تركية نريد مساواتنا بوضع غير المسلمين فيها"! ... أربكان الذي لم تغفر له هذه السنون من عمره ونضاله السياسي الطويل من أن يحكم عليه مؤخراً بالسجن في منزله لمدة ثلاثة أعوام ونصف، أي حتى في عهد تلاميذه... حظر نشاط حزب الرفاه عام 1999، ثم سليله حزب الفضيلة عام 2001، وسجن أردوغان وحظر نشاطه السياسي لمدة خمسة أعوام عام 1998، لأنه تلى في حينه شعراً عثمانياً... وصولاً حتى إلى رفض أطراف من أصحاب هذه الذهنية لعضوية الاتحاد الأوروبي، أو هذا المطلب التركي التقليدي، خشية من التحولات التي تقتضيها مثل هذه العضوية الناجمة عن ترسيخ الديمقراطية كشرط أوروبي من شروط أحقيّة الانتساب لهذا الاتحاد، هذا إذا ما قبلت تركيا يوماً عضواً فيه!

الثانية: الأردوغانية، وكما قلنا آنفاً من أننا لسنا بصدد تقييم سابقتها فنحن كذلك الأمر اتجاهها، ونقاربها لذات الهدف الذي دفعنا لمقاربة السابقة... الأردوغانية، أو إن شئت، "الإسلام الأردوغاني"، أو ما يطلق عليه الأنموذج "الإسلامي العلماني"، مثار الجدل، أو هذا التوجه البراغماتي الطامح للمصالحة بين العلمانية الأتاتوركية التي تزداد غلواً، كلما افتقدت شعبيتها، وعلمانية مستحدثة تنسجم مع التاريخ والجغرافيا والهوية، أو متصالحة مع الواقع، منفتحة ومرنة، وفي النهاية تفضي إلى استقرار اجتماعي... الأردوغانية، المنتبهة إلى خطورة تركيا الموقع، تركيا الجسر الرابط بين الشرق والغرب، التي تعيش أزمة قطع ما يربط بين ماضيها وحاضرها قسراً منذ ثمانين حولاً، المدركة لدورها المرتهن للتحالفات المخالفة للبيئة والتاريخ، والذي يبدو لها وكأنما هو قدرها! وما يترتب على ذلك، كالتحالف الدولي الأمني مع الولايات المتحدة، وعضوية حلف الأطلسي، والتحالف الإقتصادي مع الإتحاد الأوروبي... فعقدة عضوية الإتحاد المزمنة، وحساسية تعديل القوانين لإرضاء الإتحاد الأوروبي مع المحافظة على نكهتها الأتاتوركية، والتوجس، الذي له ما يبرره، خيفةً من مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، ومن إمساك الولايات المتحدة الحليفة بورقتي حزب العمال الكردي، التركية والإيرانية أيضاً، والموقف الغربي المقلق من الملف الكردي إجمالاً، وكل سائر هموم الوضع الجيوسياسي القلق في المنطقة، وبالتالي كل ما يعنيه ذلك، من ضرورة محاولة التوفيق بين هذا وذاك، عبر انتهاج سياسة ذات محاور متعددة تحت سقف الوحدة والصراع، والتي يحتّمها الإنتماء للمنطقة بأبعاده المختلفة، وما يترتب عليه سياسياً، وكذا ما يفترضه من مسؤوليات تجاه الأمن الإقليمي... باختصار، الجمع بين كل هذه النقائض والسير في حقل الألغام التي زرعها أبو الأتراك قبل ثمانين عاماً لتحمي سلطته التي يديرها اليوم عبر مريديه من قبره، والتي بدأت تتآكل بفعل التحجّر وغوائل الزمن، وما يبدو عبر الأردوغانية الطارئة من عودة للهوية الضّالّة إلى هضبة الأناضول... عودة مطلّة برأسها منذ عام 2003 تاريخ فوز حزب العدالة في الإنتخابات، والذي حقق خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وباعتراف غلاة الأتاتوركية، نجاحات سياسية واقتصادية ملموسة، وأنجز استقراراً سياسياً لم تعهده تركيا من قبل، إلى جانب تعزيز الديمقراطية، ومحاربة الفساد، ومواصلة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول مسألة العضوية السهلة الممتنعة منذ قرابة نصف القرن ولا تزال، والتي قد تنتظر ما يقارب ما مضى، حيث نقل عن ساركوزي، نابليون فرنسا المتأخر، مؤخراً ما صرح به من إنه "حتى لو كانت الدولة في تركيا علمانية فأنه لا يمكن أن يرى بلداً غالبيته مسلمة عضواً في الاتحاد الأوروبي"!

... هذه العضوية، التي حتى وإن لم تتحقق، فإن من شأن الآمال التركية المزمنة المعلقة على وعدها مهما نأى أن تسهم في تقوية مواقف حزب العدالة والتنمية ضد خصومه في صراعه المفتوح معهم. دون أن نغفل عما يوحي بتواطؤ أوروبي ما، إذ سبق قرار المحكمة الأتاتوركية بيومين فحسب، قراراً آخراً للمحكمة الأوروبية برفض دعوى قدمتها تركيتان منعتا من العمل بسبب ارتدائهن للحجاب، ضاربةً بعرض الحائط حرية التدين والاعتقاد وحق الاختيار الشخصي لما يرتديه المرء، الذي هو من أبجديات حقوق الإنسان، التي درج الغرب على أن يصم أذان العالم داعياً إليها!

... والآن، تركيا إلى أين؟
أو السؤال، بشكل آخر، هل ستفلت البراغماتية الأردوغانية من فخ الحجاب الذي يبدو أنها قد نصبته لنفسها، كما فعلت سابقاً إزاء صنوف الأفخاخ السابقة؟

بادئ ذي بدء لا أحد كان يشك في أن المسار القضائي لحل حكاية الحجاب غير مضمون النتائج لصالح حزب العدالة، فالتجارب السابقة مع حرّاس الأتاتوركية القضائيين غير مشجعة على الإطلاق، وجاء الحكم اللاحق اليوم قاطعاً قول كل خطيب. والسؤال المطروح اليوم هو، هل سيبقى الحزب الحاكم ملتزماً بالمسار القانوني؟

ربما المنطق يقول بخلاف هذا. إذن، يبقى من خياراته المحدودة لإنقاذ عنقه من الحل مسألة تعديل الدستور والإستفتاء عليه، أو اللجوء إلى الإنتخابات المبكّرة، وهذان خياران متاحان للحزب إلا أنهما يزيدان الساحة التركية استقطاباً واحتداماً، لعل ما يؤثر عنه، حتى الآن على الأقل، انه لم يكن يريده، لكنما يظل دائماً خيار الصفقة مع خصومه مطروحاً، والعقلية الأردوغانية غير بعيدة عن تفضيل غوايتها، أو الميل باتجاه ترجيحها... لكن، هل أبقى قرار المحكمة الدستورية حظاً لها؟!

الأيام القليلة القادمة ستجيب وحدها على هذا، لكن ما يعزز الخيار الأخير، هو إدراك حرّاس الأتاتوركية، بأن للأردوغانية أوراق قوتها، فشعبياً، مثلاً، تؤمن قطاعات تركية واسعة، ونخب ثقافية واقتصادية وقوى سياسية مختلفة التوجهات، بأن لابديل للعدالة والتنمية إلا العسكر، وبالتالي العودة إلى حالة من اللااستقرار الداخلي الناجم عن احتدام صراع التوجّهات والهوية والثقافة والقطيعة مع التاريخ والجغرافيا، إلى جانب كون حلّ حزب العدالة والتنمية، إنما يعني فراغاً قاتلاً في الساحة الكردية التركية تحديداً، وله ما وراءه كردياً، أما دولياً، فإن التجربة "الإسلامية" الأردوغانية، مثار الجدل حتى إسلامياً، تعد مهمة لأطراف خارجية عديدة، مسكونة بفوبيا التطرّف الإسلامي، ثم إن الإتحاد الأوروبي تحديداً يظل دائماً، ولأسبابه، مع احتواء التوتر في الساحة التركية، وعليه، فهو اليوم يعد ملجئاً يستعين به الأردوغانييون في صراعهم من أجل البقاء... ملجأ؟! وإن كان قرار المحكمة الأوروبية المشار إليه يقول لهم بأنه قد لا يكون آمناً!

وأخيراً، البعض لا يغفل بعداً خفياً وراء ما وصلت إليه حكاية قط المدعي العام وفأر حجاب حزب العدالة والتنمية، وينسبه مقروناً بأرجحية الصفقة بين الخصمين اللدودين إلى الأصابع الأميركية التي لا تريد أكثر من شد أذن حكام تركيا الراهن... كيف؟!!

للإجابة، يمكن سرد الآتي:
إن الإسلام الأردوغاني الذي طمأن الغرب بدايةً قد أزعجه لاحقاً في فلسطين والعراق وإيران وأفغانستان. ففي الأخيرة يرفض إرسال قوات إضافية في الإطار الأطلسي، وفيما قبلها، يرفض دخول لعبة الضغوط على إيران، أو نشر درع صاروخية على تراب تركيا تحت ذريعة مواجهة خطرها. أما في العراق فموقف أنقرة العدالة والتنمية معروف من الغزو والحرب الدائرة راهناً فيه. كذلك الأمر بالنسبة لمواقف تركيا حزب العدالة التي لا تقاس بسابقيه في الحكم تجاه القضية الفلسطينية وإن تواضعت هذه المواقف... واستطراداً، فإن التقارب التركي مع سوريا، البلد الممانع للهيمنة الأمريكية في المنطقة، لا يريح واشنطن، كما أن هناك من يرى أن أردوغان قد اجتاز خطوطاً حمراً، عندما قال، مثلاً، أن ما يحدث في غزّة "يزعج الدولة والشعب والحزب"... تركيا القلقة لم يعد يتحكم فيها أتاتورك من قبره وليس من السهل أن تحكمها المصالحة بين "العلمانية الأتاتوركية" و"العلمانية الأردوغانية"... تركيا لن تهدأ إلا بعد عثورها على هويتها الضالّة!

التعليقات