31/10/2010 - 11:02

ثورة يوليو بعد 56 عاماً.. ما اشبه الليلة بالبارحة../ معن بشور

ثورة يوليو  بعد 56 عاماً.. ما اشبه الليلة بالبارحة../ معن بشور
لا شك أن ثورة 23 يوليو، بقيادة جمال عبد الناصر، كانت تجربة تاريخية استثنائية في التاريخ المعاصر، عرفت الكثير من الانجازات وواجهت العديد من الإخفاقات، لكن انجازها الحقيقي يبقى في أنها أطلقت في الأمة العربية وفي جوارها الإسلامي والآسيوي والإفريقي روحاً ما زالت راياتها ترفرف حتى هذا اليوم، رغم مرور أكثر من نصف قرن على انطلاقتها، وحوالي العقود الأربعة على رحيل قائدها.

الروح الجارفة التي أطلقتها هذه الثورة هي روح المقاومة التي ولدت معها فكرة الثورة نفسها منذ أن حوصر قائدها في الفلوجة الفلسطينية أبان حرب فلسطين، حين أدرك أن الخطوة الأولى في مواجهة الاغتصاب الصهيوني إنما تكمن في فكرة التغيير داخل مصر، واستطرادا على مستوى الأمة، فربطت منذ اللحظات الأولى بين مقاومة الاحتلال بريطانياً كان هذا الاحتلال أم صهيونياً، عسكرياً كان أم سياسياً واقتصادياً، وبين التغيير الشامل في مجتمعها، فكانت تدرك باستشراف عميق، ورؤية صائبة أن كل طرق النهوض أمام الشعوب تصبح مفتوحة إذا تمكنت هذه الشعوب من مقاومة أعدائها والانتصار عليها.

والدافع الأساسي لهذه الروح التغييرية المكافحة التي قبضت عليها تلك الثورة منذ أيامها الأولى كان يكمن في قراءة قائدها ورفاقه الضباط الأحرار لأمرين بارزين في آن؛ أولهما الحاجة العميقة للتغيير في مجتمعها المصري ثم العربي، وثانيهما التحولات الإستراتيجية والتاريخية الخطيرة التي كانت تعصف بعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وإمبراطورياته الاستعمارية التي بات يطلق عليها بعد العدوان الثلاثي على مصر بالاستعمار القديم، والذي كان لمصر 23 يوليو الفضل في إخراجه ليس من ارض الكنانة وحدها بل من أراض شاسعة في الوطن العربي وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهو فضل يتذكره كبار الثوار في العالم من بن بله في الجزائر، إلى تشي غيفارا في كوبا وبوليفيا، إلى سوكارنو في اندونيسيا، وسيكوتوري في غينيا، وموديبوكيتا في مالي، والبيرونية في الأرجنتين، والتيتوية في يوغوسلافيا وصولاً إلى شافيز في فنزويلا هذه الأيام.

كان الضباط الأحرار في مصر يدركون بحس ثوري مرهف أن النظام الملكي في مصر، رغم كل الركائز الداخلية والخارجية التي كان يعتمد عليها، هو نظام هش مهيأً للسقوط موضوعياً إذا توفرت الشروط اللازمة لذلك من إرادة وأدوات وقرار شجاع.

وكان هؤلاء الضباط، بقيادة "البكباشي" جمال عبد الناصر يدركون كذلك أن الشمس قد بدأت رحلتها للغروب عن "إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس"، وكانوا يقرأون في هزيمة الإمبراطورية الفرنسية في ديان بيان فو في الهند الصينية عام 1954 مؤشرات ضعف بنيوي عميق لا بد من مواجهته لينكشف ضعفه في كل المستعمرات الفرنسية في إفريقيا وآسيا وفي جزر المحيطات الواسعة.

فبدأت سلسلة من القرارات الشجاعة التي وصفها كثيرون آنذاك "بمغامرات غير محسوبة" لاسيما بعد تأميم قناة السويس واستعادتها لأبناء مصر غير آبهين بالعواقب التي بدت في البداية أنها خطيرة بالفع،ل ولكن ليتبين أن خطورتها تكمن على الإمبراطوريات التي استخفت بقدرات شعب محدود الإمكانات، وبشجاعة قيادة كان سلاحها الأفعل إيمانها بشعبها وأمتها وأحرار العالم.

وهكذا سقط العدوان الثلاثي على مصر في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر6195، بفعل مقاومة الكتائب الست من جيش مصر الباسل في قلب سيناء، والتي كانت مهمتها الرئيسية إشغال الهجوم الصهيوني ليومين فقط، فإذا بجحافله تتسمر أمامها أياما طويلة حتى بدأ الإنزال البريطاني /الفرنسي في بورسعيد والإسماعيلية ومنطقة القنا،ة فتواجهه أيضاً مقاومة شعبية هائلة متصاعدة بدأت تهتز لها حكومتا لندن وباريس، وبدأ يتجاوب معها عالم جديد بدأ يبرز مع تلك المغازلة البطولية على ارض مصر.

وإذ يشير الأستاذ محمد حسنين هيكل في تجربة حياته الحافلة على "فضائية الجزيرة"، إلى التحولات التي شهدها العالم بدءاً من استقالة أمين عام الأمم المتحدة همرشولد لأن "المنظمة الدولية أهم من دولها حتى لو كانت دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولآن ميثاق الأمم هو أهم من المنظمة ذاتها ونظامها الذي تحمي الدول المعتدية لأنها تمتلك حق الفيتو"، إلى إنذار بولغانين السوفيتي الشهير الذي جعل من رئيس حكومة الكيان الصهيوني بن غوريون يتراجع بعد يوم واحد من إعلانه خطاب النصر في 4 تشرين الثاني/نوفمبر1956 ليعلن الانسحاب من سيناء، ووصولا إلى موقف الرئيس الأمريكي آنذاك دوايت ايزنهاور الذي بدأ يدير ظهره لحلفائه التاريخيين في لندن وباريس، بل ويمتنع عن الإجابة، بعذر أو بآخر، على اتصالات انطوني ايدن (رئيس وزراء بريطانيا) التي بلغ عددها 15 اتصالاً في 24 ساعة من أجل استقباله مع زميله الفرنسي غي موليه في واشنطن، فانه يقول إن هذا الفضل في هذه التحولات يعود بالأساس إلى المقاومة الباسلة التي أبداها شعب مصر وجيشها الباسل، ومن خلفه أمة عربية هادرة نجح أبناؤها في سوريا بنسف أنابيب النفط فأدخلوا العالم بأسره في أزمة وقود خانقة فرضت على عواصم الحرب تقنينا نفطياً لم تعرفه حتى في أصعب أيام الحرب مع ألمانيا الهتلرية".

فما أشبه اليوم بالبارحة...
فالمقاومة التي يشتد أوارها في منطقتنا، بدءاً من فلسطين إلى العراق ولبنان وأفغانستان والصومال، بدأت تعيد صياغة العلاقات الدولية في العالم كله على نحو جديد ينطوي على بداية انحسار متسارع في الإمبراطورية الأمريكية الجديدة التي اعتقد منظروها ان العالم بات مسرحاً لانفرادها وهيمنتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الأوروبية، وان التاريخ قد دخل نهايته التي تشهد لهيمنة دائمة لهذه الإمبراطورية.

ونجاح هذه المقاومة لم ينحصر فقط في حجم الخسائر البشرية والاقتصادية والاستراتيجية والمعنوية الهائلة التي تكبدها المركز الإمبراطوري الاستعماري الأمريكي، وامتداده الصهيوني في منطقتنا، بل انه أدى إلى انشغال واشنطن وجيوشها وسياساتها بما يسمى بالحرب على العرب والمسلمين وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، عن مواجهة مخاطر نمو قوى جديدة على امتداد العالم بدءاً من روسيا التي أخذت تنتفض لكرامتها ولتراثها بعد إهانات تعرضت لها على كل صعيد، إلى الصين التي حققت نمواً اقتصادياً مذهلاً تجاوز حدودها ليتسلل إلى أعماق العالم بأسره، وخصوصاً إلى القارة الإفريقية التي طالما تركتها واشنطن احتياطاً استراتيجياً لاقتصادها وهي القارة البكر الغنية بمواردها وإمكاناتها وأسواقها.

ولأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا على شكل مهازل، لكن دورات صعود الإمبراطوريات وأفولها لا تتبدل، بل هي تتسارع حين تجد هذه الإمبراطوريات نفسها، وهي توسع نطاق هيمنتها، إنما تستنفذ طاقاتها وقدراتها وتتحول جدران حمايتها إلى خواصر رخوة سهلة الاستهداف من أفقر الشعوب وابسطها واقل امتلاكاً لوسائل المواجهة.

من هنا، فان الإحياء الحقيقي لثورة يوليو يكمن في التقاط المصدر الرئيسي لقوتها، أي القراءة الحقيقية لجوانب القوة في امتنا، ولنقاط الضعف والخلل في بنية أعدائنا، فتنطلق بكل جسارة ودراية وكفاءة لإسقاط حصون العدو الواحد تلو الآخر، وفي تفكيك ألغامه المزروعة في أرضنا، كما في مجتمعاتنا، وهي ألغام التفتيت المجتمعي والعقل الاستسلامي والإذعان لقدر العدو ومشروعه الرامي إلى القضاء على وجودنا وهويتنا وعقيدتنا.

هنا تبرز مجدداً ثلاثية المقاومة والوحدة والنهضة، حيث يشق المقاومون لأمتهم طريق النهوض بإضعاف قدرات القوى المعيقة له، وحيث تحصن الوحدة وطنية كانت، أم قومية، أو إسلامية، مشروع المقاومة ذاتها، وحيث يقود عربة النهضة جوادان هما المقاومة والوحدة.

فهل هي صدفة أن تستكمل نفسها مقاومة مصر للعدوان والاحتلال في أواخر 1956 بالوحدة مع سوريا في أوائل 1958، وبالانجاز في السد العالي 1960 ، وفي التصنيع الذي وصل إلى حد بناء مصنع كل ساعة في مصر، بل هل هي صدفة بالمقابل أن يكون منطلق الحرب على مقاومة الأمة، وفي طليعتها مصر الناصرية، عبر الإجهاز على الجمهورية الوحدوية والوحيدة في تاريخنا المعاصر عبر الانفصال المشؤوم في 28/9/1961.

قد يقول قائل، وهو محق في قوله: لكن ظروف اليوم غير ظروف الأمس، وان مياهاً كثيرة قد جرت تحت جسر الأمة المتصدع، وان متغيرات هائلة يشهدها العالم عموماً، ومنطقتنا خصوصاً، لكن هؤلاء لا يدركون أن استمرار روح المقاومة والنهوض في الأمة ما زالت تتدفق في شرايين المجاهدين والمقاومين والمناضلين والنهضويين على امتداد الأمة بأسرها، لتعيد صياغة شروط المواجهة في العالم من خلال حقائق المواجهة في هذه المنطقة، بل لتحسنّ شروط المواجهة في المنطقة من خلال صياغة علاقات جديدة في عالم جديد لا تحكمه قطبية أحادية أو تتحكم به.

بل نستطيع القول إن ظروف اليوم في جوانب منها تكاد تكون أفضل من ظروف الأمس، لآن المواجهة بالأمس كانت قرار قيادة أو قائد، فيما هي اليوم مواجهة شعوب بأكملها تفرض منطقها حتى على القادة والقيادات إذا داخلهم وهن أو ضعف أو تعب أو رغبة بالتراجع....

وليس من قبيل الصدف أبدا أن تستقبل الأمة كلها ، بعد 56 عاماً على ثورة يوليو، انجازاً تاريخياً عنوانه إطلاق أسرى وشهداء لدى العدو الإسرائيلي وفي مقدمهم عميد الأسرى العرب في سجون الاحتلال الصهيوني سمير القنطار، وهو بطل "عملية جمال عبد الناصر"، وكأن هذا الانجاز يذكرنا بمرحلة لم تكن عناوينها الوطنية والعروبة والإقدام والثورة فقط ، بل كانت أيضا تلك القراءة الدقيقة لمخزون الاستعداد للمواجهة لدى الأمة، ولعوامل الضعف والتفكك داخل أعدائها...

فإذا كانت روح ثورة يوليو قد هزمت الاستعمار القديم في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، فان هذه الروح التي يحملها اليوم مجاهدون، ينتمون إلى تيارات متعددة، قادرة إذا عرفت كيف تستفيد من تجارب الماضي وخبراته، أن تهزم الاستعمار الجديد الذي تسلل لوراثة الاستعمار القديم من ثغرات في أدائنا وأنظمتنا وبنانا وعقولنا وعصبياتنا، بل إنها تستطيع أن تحصن الأمة بأسرها بوجه أي استعمار قادم، أيا كان شكله أو أسلوبه أو نهجه.

ورغم الظلام المخيّم على سماء الأمة، فإن أشعة من نور أخذت تتسلل تحملها مشاعل مجاهدين بواسل يحاصرون الحصار في فلسطين، ويربكون القوة العظمى في العراق، ويكشفون في لبنان مأزق العدو الذي "لا يقهر"، ويهزمون في أفغانستان قوات الحلف الأطلسي بكل جبروتها، ويجهزون على الاحتلال بالوكالة في الصومال، ويكسرون جدار العزلة في سوريا، ويتململون من أجل الخبز والكرامة على امتداد الأمة، بل ويواصلون مشاريع استنهاض بلادهم في جناحي العرب المجاورين: إيران المتمسكة بعقيدتها، وتركيا التي تميط اللثام عن قرن من محاولة اقتلاعها من جذورها.

ألم تكن تلك استراتيجية جمال عبد الناصر وثورته المصرية وحركته القومية العربية، فإذا أخفقت هذه الإستراتيجية في مرحلة ، فهذا لا يعني استحالة تحقيقها في مرحلة أخرى.

التعليقات