31/10/2010 - 11:02

حذار مِن امتثال العقل للانفصال../ علي جرادات

حذار مِن امتثال العقل للانفصال../ علي جرادات
ربما يكون الفلسطينيون مِن أكثر شعوب المعمورة قدرة على التكيف مع المستجدات والتحولات المفاجئة. وتلك خصلة ليست على علاقة بالتركيب الجيني للفلسطينيين، بل هي نتاج ما عاشه الفلسطينيون مِن ظروف سياسية اجتماعية قاهرة، انطوت في صيرورتها على تحولات دراماتيكية دائبة بالمعنيين المجتمعي والفردي، أي لم يخترها الفلسطينيون بمحض ارادتهم، بل فُرضت عليهم فرضاً، منذ تعرضت ارضهم لاحتلال اجنبي استثنائي قلَّ نظيره، كان منذ النشأة احتلالاً استئصاليا، ابتلع الأرض واقتلع السكان، ناهيك عن ضخامة جرائم هذا الاحتلال وبشاعة ممارساته، وطول مدته، وتواصله منذ ستين عاماً.

تعرض الفلسطينيون، منذ بداية القرن العشرين، وحتى يوم الناس هذا، لأبشع عملية تطهير عرقي متصلة متجددة، افرزت فيما افرزت، أن يكون غد الفلسطيني غير يومه، وأن يكون يومه غير امسه، ما يستدعي ضرورة تكيفه، إن هو اراد البقاء على قيد الحياة، كامر طبيعي في حياة البشر.

تلك هي طبيعة الحياة الفلسطينية، كانت، وما زالت، قاسية، تنتقل بصورة دراماتيكية مِن الشيء إلى نقيضه، فينتقل الفلسطيني بدوره مِن حالة نوعية إلى حالة نوعية أخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، انتقل الفلسطيني مثنى وثلاث ورباع..... مِن حالة المواطن المستقر على أرضه إلى حالة اللاجيء، أو النازح أو المشرد خارج بلاده أو داخلها، ومن حالة الانسان الحر الطليق إلى حالة الأسير المقيد ترفل الاصفاد بيديه، ومِن حالة المعافى الذي يتمتع بصحة جيدة إلى حالة الجريح والمعاق غربل الرصاص جسده، ومِن حالة انسان له والد ووالدة إلى حالة اليتيم كابن لشهيد أو شهيدة، ومِن حالة انسان يملك بيتا إلى حالة صاحب بيت مهدوم، ومِن حالة انسان يملك قطعة ارض يعتاش منها إلى حالة صاحب أرض مصادرة يستوطنها المحتلون، ومِن حالة انسان يعيش في ظل نظام سياسي معين إلى حالة العيش تحت نظام سياسي آخر، ومِن حالة انسان يستطيع السفر والتنقل إلى حالة الممنوع مِن السفر، ومِن حالة انسان يعيش باستقرار مع اسرته إلى حالة المطارد الملاحق، ومِن حالة انسان يملك وظيفة إلى حالة مفصول منها كعقوبة على الانتماء والموقف، ومِن حالة انسان يحق له التعبير عن رأيه إلى حالة المحظور عليه النطق بهذا الرأي، ومِن حالة انسان له راتب يعيل اسرته إلى حالة فاقد لهذا الراتب بين ليلة وضحاها، ومِن حالة انسان يحق له التعليم والتعلم في مدرسة أو جامعة أو معهد إلى حالة المحظور عليه ذلك، ومِن حالة انسان مُرحَّب به في هذا البلد أو ذاك إلى حالة المحظور عليه دخوله أو الاقامة فيه، ومِن حالة انسان مناضل معزز مكرم في مرحلة مَدٍ وطني تحرري إلى حالة انسان يعيش على الهامش مقهوراً، بالكاد يقوى على تحصيل قوت يومه، في مرحلة تراجع سياسي للقضية الوطنية التي افنى سني عمره في خدمتها طوعاً وعن طيب خاطر، ومِن حالة...... مِن حالات تقلبات حياة الفلسطينيين الحادة والدراماتيكية القاسية، التي أظنُّ أن قلة مِن الشعوب مرت بها.

ما تقدم هو غيض مِن فيض تقلبات حياة الفلسطينيين ، خلقت لديهم رغماً عن ارادتهم، قدرة تكيف استثنائية نادرة، وقوة مراس قلَّ نظيرها، تكادا تكونا اسطوريَّتين في عيون غير الفلسطينيين، لكنهما خصلتين عاديتين، أو تكادا بالنسبة للفلسطينيين، بعد أن اصبحتا بمثابة نمط حياة لهم، قلة قليلة منهم لم تشرب مِن كأسهما حتى الثمالة.

دار هذا الشريط مِن التداعيات في ذهني، ولا اخفي على القاريء أنه ارهقني كثيراً، بعد أن حادثني عبر الهاتف شاب، دعاني باسم معهد دراسات التنمية البشرية في جامعة بير زيت، للمشاركة ككاتب في لقاء "فيديو كونفرنس"، سيتناول هَمَّ الشرخ الفلسطيني الداخلي، واضاف، أن اللقاء يهدف إلى التغلب على حالة الانفصال الجارية بين الضفة وغزة، عبر خلق حالة مِن التواصل والحوار بين مجموعة مِن الأكاديميين والكتاب والسياسيين، هنا في الضفة وهناك في غزة.

الدعوة أفرحتني، ما حدا بي لتلبيتها فوراً ومِن دون تردُّد، رغم ضيق الوقت وكثرة المشاغل، خاصة وأن اللقاء ب"شباب" غزة أصبح نادراً، فيما شكل العيش معهم في معتقل النقب الصحراوي وسجن عسقلان وسجون ما وراء الخط الأخضر عموماً، الفرصة الأكبر للقاء بهم والتعرف عليهم، وبناء أقوى علاقات الصداقة والزمالة معهم. ولكن الدعوة لهذا اللقاء بقدر ما أفرحتني أرعبتني، فقد ذكرتني بخصلة التكيف الاستثنائية لدى الفلسطينيين، وخشيتي مِن ممارستهم لها في التعامل مع مستجد الانفصال الذي اعقب الاقدام على جنون حسم ازدواجية السلطة بقوة السلاح في غزة، وما تلا هذا الحسم مِن تداعيات، قادت بالنتيجة إلى "قسمة الوطن الواحد" والفصل السياسي بين أبناء الشعب الواحد، بصرف النظر عن النوايا، التي كثيرا ما تكون محفوفة ببلاط جهنم وتقود إليها، الأمر الذي ينطوي على احتمالية أن يصبح الانفصال الطاريء المرفوض بين الضفة وغزة، أمراً واقعاً، يجري تقبله والتكيف التدريجي معه، ما يجعله نمطَ حياة معتاد، يخلق بالتقادم تكويناً نفسيا ووعياً اجتماعياً، يتكيفان مع واقع الانفصال، جرياً على ما قاله هيغل مرة: " كل واقع معقول، وكل معقول واقع".

بلى، إن لقاء "الفيديو كونفرنس" الذي جرت دعوتي اليه، بقدر ما يعكس رفضاً وطنياً اصيلاً لواقع الانفصال، الذي خلقته عقلية ثقافة سياسية حزبية فئوية فجة ضيقة متطرفة، فإنه يشير إلى مخاطر تَحَوُّل هذا الانفصال إلى واقع، يمتثل له عقل الفلسطيني، ولا يملك ازاءه غير التكيف معه، بل هناك خطر أن يغطس العقل الفلسطيني فيه، إلى درجة أن يصبح شغله الشاغل، ولا شغل له غيره كاتجاه عام، وعلى هذا الخطر الداهم هناك جملة مِن المؤشرات المرعبة. فهموم الاحتلال وممارساته القمعية التي لم تنقطع، ولن تنقطع، بل تزيد شراسة يوماً اثر يوم، أصبحت عملياً، وكاتجاه عام، في آخر سلم اهتمامات الفلسطينيين، فغالبية كتاباتهم، بياناتهم، تحريضهم، احاديثهم، مقالاتهم، سجالاتهم، نكاتهم، طرائفهم، مهاتفاتهم، تدور حول الانفصال القائم بين غزة والضفة، وحول كيفيات التعامل مع هذا الواقع الجديد، والتغلب على تداعياته، التي لم يرَ الفلسطينيون منها غير "أذن جَمَلها"، مع عدم نسيان أن الرصاص الفلسطيني، ومنذ واقعة الحسم العسكري، بل منذ ما قبل وقوعه بعام، يجري توجيهه للصدر الفلسطيني، كاتجاه عام.

عليه، لا مبالغة في القول، إن الفلسطينيين لم يروا غير اذن جمل تداعيات حماقة الحسم العسكري في غزة، وما تلاه مِن انفصال سياسي اجتماعي مؤسساتي، ولعل اخطر تلك التداعيات، يكمن في أن يستبطن العقل الفلسطيني واقعة هذا الانفصال، ولا يثور عليه، ولا يجد سبيلا آخر غير التكيف معه كواقع مفروض بقوة السلاح والرصاص، أرعبتني غزارة اطلاقه على محتفلين بعرس في بيت حانون، بثت مشهده المخزي شاشات التلفزة، شاهدها ابناء الوطن مِن اقصاه إلى اقصاه، بل كل العالم، وكأنه لا ينقص بيت حانون المنكوبة، التي ذاقت مِن مجازر المحلتين أكثر مِن سواها، غير تحويل "نتفة" فرحها بعرس، إلى مأتم تلطم فيه نسوتها، اشكُّ أنه تبقى لهن من الخدود ما يلطمن عليه، لكثرة ما لطمن على فراق ابنائهن، جراء استشادهم وجرحهم بفعل مجازر ومجازر المحتلين التي لم تتوقف.

وددت القول حذار حذار مِن امتثال العقل الفلسطيني، فردياً كان أم جماعياً لواقع الانفصال السياسي بين الضفة وغزة، لأن في ذلك خطر كبير، بل كبير جداً، لا يعي جسامته، ذاك العقل السياسي الضيق المحدود الذي صنع الانفصال، الكارثة الوطنية، بين الضفة وغزة، كانتا، وما زالتا، وستبقيان، جزءاً مِن الوطن الفلسطيني الواحد.

التعليقات