31/10/2010 - 11:02

شفيق الحوت.. سنديانة فلسطين.. وداعا!../ ناصر السهلي*

شفيق الحوت.. سنديانة فلسطين.. وداعا!../ ناصر السهلي*
مؤلمة هذه الأعوام التي مررنا بها ونحن نشهد وداعا إثر آخر.. نحن الجيل الذي تمر خيوط بسيطة في ذاكرته من وداع عبد الناصر، أصبحنا اليوم أكثر إدراكا لمدى فداحة الخسارة ووداع رجال ونساء تركوا أثرا في حياتنا ووعينا الفردي والجماعي..

شفيق الحوت ليس عاديا.. إننا نودع سنديانة عربية فلسطينية.. غضبت من الواقع والتاريخ وكل موبقات التلويث.. نودع ضميرا من ضمائرنا الفردية والجمعية في وداع شفيق الحوت.. اليافاوي الذي يجعلك تخجل من نفسك وأنت تراه يقول لقيادات شابة تتطاول عليه على الهواء باسم "الانتماء للفصيل": يا ابني اهدأ.. فالحوت لم يكن ملكا لفصيل أو تنظيم، كان ينضح فكرا منتميا للأكبر منا جميعا.. ففلسطين ليست مجرد جبال ووديان وبحر.. إنها في فكر شفيق الحوت رمزية كل قضايا الظلم والعدالة..

رحل شفيق الحوت ونحن في أحلك الظروف التي تعيشها قضية شعبه، وعلى بعد ساعات من هذا الهرج والمرج الذي يحدث ضجيجا وغبارا ومعارك جمع وضرب وتقسيم وكسر وجبر.. حالة الرحيل هي المؤلمة.. فقد فعلت خيرا الجزيرة أن خزنت لنا بعضا من ذاكرة فلسطين في "شاهد على العصر".. وهو الشاهد الذي ولد عربيا وظل عربيا ولم يختزل فلسطينيته لا في يافيويته ولا بقضية أملاك هنا وهناك..

ألم يرحل هشام شرابي وبيته قد سلبته خرافة وأسطورة؟ لكن، هل حفظنا لهؤلاء ما قدموه لنا من فكر لننفض الغبار السميك عن عقلنا المعطل والمنشغل بأحدث صرعات الرأسمالية الاستهلاكية في مربعات ومستطيلات ودوائر تحددها جدران وأسلاك تحيط بنا وتضغط على عقولنا.. فأي جنون أن أرى ناس يريدون العيش على الطريقة الباريسية والنيويوركية بسيارات "بي إم" و"أودي" و"جي ام سي".. نقلد المحتل في ممارستنا.. والكارثة أننا محشورون في كيلومترات معدودة..

كنت قبل رحيل شفيق الحوت أفكر، لما ننتبه لضمائرنا ووعينا لحظة الموت فقط.. فنقوم بنعي في كل مكان.. نرمي حفنة من التراب وزهرة وداع، ثم ننكفئ إلى ما نحن عليه.. نقبل أن نسمي بعد سنوات طويلة.. طويلة جدا أن نسمي شارعا هنا أو هناك باسم هذا المفكر أو السياسي..

كنت أتساءل قبل أسبوع من كتابة هذا النص عما تعنيه هذه المسرحية التي نتفرج عليها، ونحن نبصق ما في أفواهنا من بقايا لب وقات وقبل المجاملة؟ مسرحية أن نتحول إلى متفرجين لكل ما يحدث لهذه الأمة.. صحيح أن فلسطين في مركز ما يحدث.. لكن لو أنها ليست المعبر الحقيقي عن مرارة واقع الانكفاء لما كانت بهذه الرمزية..

ما أتقانا.. رمضان قادم.. نحضر له كل أنواع الزينة.. وعند الإفطار سنتفنن فيما سنتناول.. نتناسى أن الصيام الذي يمارسه البعض "عادة" يصيب يوميا أبناء جيراننا..

ما أشطرنا.. ونحن( ولنقل بعضنا) نمارس الفكر وثقافة خلط اللبن بالتبن.. بيوتا تنهب وتسرق صباح يوم الأحد.. على بعد أمتار من نصب خيم المناسف في مؤتمر الحيرة لـ" العمود الفقري" المتقوس والذي يجره البعض في اتجاه تكون فيه العيون شاخصة إلى ما بين القدمين.. والشيخ جراح قريب.. قريب..

قال لي سائق بسيط، من هؤلاء الذين غنى لهم مارسيل خليفة "نحنا الشوفيرية"، من بيت لحم: هل تعرف منظر الجدار والبرج المقام بما يريد أن يُذكرنا؟.. قلت له: لا.. شرح لي فانتبهت بعدها إلى أن شرحه صحيح.. لا أستطيع أن أقول أكثر من أنه يشبه "خازوق".. أو لنتخيل ما أراد لي هذا السائق.. الذي يعمل مدرسا وسائقا..

سنديانة تميل مثل كل سنديانة تغادر حياتنا وهي تحاول أن تشرح لنا قيمة العقل.. ونحن نصر على "التصفيق" والهتاف لمرحلة السقوط.. تضيق الأفق مثل الانتماء.. على بعد ساعات يرحل شفيق الحوت، الذي وجد في الساعة الترابية عام 1993 ما قاله أبو مازن وغيره: إما أن تؤدي هذه الاتفاقات إلى دولة أو كارثة.. فاستقال الرجل.. لكنه لم يترك قضيته.. ولم يتركها ادوارد سعيد.. لكن إلى أين نحن ذاهبون؟
أجاب كل هؤلاء قبل رحيلهم.. كانت سبابتهم تشير إلى الطريق.. فاختار من احتل مكانهم كسر كل سبابة تشير إلى حيث يجب أن يكون الطريق..

نعم، مؤلم أن نودع مثل هؤلاء الرجال.. فقد ذكرني رحيله برحيل طلعت يعقوب.. السياسي الفلسطيني الذي قضى نحبه على بعد ساعات من إعلان الدولة في 1988.. واليوم غير الأمس.. فالنهش واتهامات التخريف تطال من يختلف مع أصحاب المال والسلطة.. والجالسون على الكراسي الملتصقة بمؤخراتهم.. لا هم يحترمون أنفسهم ولا ما أوكلوا بهم.. ولنقل البعض، لأنني لا أحب التعميم، لكن هذا البعض هو الذي صار الوصي.. بالمال والتلويث.. التلويث الذي أصاب العقول فأطاح بأدمغة كثيرة.. كفرت بهذا المشهد المشين والمخزي..

وداعا شفيق الحوت.. ومنك السلام لكل هؤلاء الذين ودعناهم في السنوات الماضية..

التعليقات