تتعدد مشكلاتنا وتتفاقم اخفاقاتنا إلى الحد الذي يجعلنا وبحق نستحق صفة الأمة الأشد تشاؤماً في العالم. فالفجوة بين أغنياء العرب وفقرائهم تتسع من دون أدنى أمل لدى الأقل حظاً في أن تتحسن أحوالهم في أي أجل منظور. والمكبوت من الحريات والحقوق لدى الغالبية العظمى من العرب أكثر كثيراً من المباح والمسموح به، وما زلنا ساحة لدول في الغرب تمارس فيها أخطر ألعابها الامبراطورية والتوسعية، وها هي الآن تدفع حكوماتنا إلى مواقع عداء مع دول، هي منذ البداية وحتى النهاية، أقرب إلينا عقائدياً وعاطفياً ومصيرياً من دول الغرب، وبعض الغرب أو كله يطالبنا بسلوكيات مختلفة ليست بالضرورة في صالح شعوبنا ويستنفد عائداتنا بإبداع خارق للعادة، أقله إقامة قواعد عسكرية وبيع بضائع استهلاكية وأدوية مبالغ في تسعيرها وابتكارات تكنولوجية تحميها قوانين دولية جائرة.
صار الوطن، وكما يقول بحق المفكر السيد يسين منتجعات وعشوائيات، وطن لأفراد أو جماعات ولكن من دون طبقة وسطى، أي من دون مستقبل، أضف إلى الأوجاع الفردية والاجتماعية أوجاع العراق وفلسطين والسودان واليمن وأوضاع أفغانستان وباكستان وكردستان والمهاجرين إلى أوروبا، من وصل منهم ومن غرق ومن ضل الطريق فانتهى لاجئاً في معتقل صغير أو كبير.
وفي قلب الأمة شيطان لعين يؤلب على بعضنا البعض الآخر. ينشر الفتنة بين أهل الدين الواحد كما بين أهل هذا الدين وأهل ذلك الدين. يحتل أراضينا ويتوسع فيها ويقتل ويشرد ويهزأ ويسخر من أحلامنا وقدراتنا على النهوض والانطلاق ويشعلها ناراً في كل عواصم العالم ضد شعوبنا وحكوماتنا وعقائدنا وطموحاتنا.
كنا نستحق بجدارة أن نكون أشد الأمم تشاؤماً، وأقول كنا، لأننا لم نعد الأشد تشاؤماً بعد أن كاد المحللون الأميركيون يجمعون على أن التشاؤم صار ولأول مرة مزاجاً عاماً في الولايات المتحدة، حتى أن الباحث في مؤسسة كارنيغي عمرو حمزاوي، وهو الحريص دائماً في ما يختار من عبارات وألفاظ، كتب عن أميركا ومزاجها الراهن وأوجز رأيه في كلمات أربع «أميركا بلد التفاؤل متشائمة»، وهي العبارة التي تكررت بصياغات مختلفة في معظم التعليقات التي رافقت الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة.
لا أذكر حملة انتخابية أميركية كان المزاج فيها على هذا النحو من التشاؤم. تعودت على امتداد سنوات أن أراقب عن بعد، وأحياناً عن قرب، الحملات الانتخابية الأميركية، وفي كل مرة كنت أخرج بدروس مفيدة عن النظام السياسي الأميركي وعن سلوكيات المواطن الأميركي، ففي الانتخابات الأميركية عادة ما يشهد الإعلام انتعاشاً ويبدع محترفو صنع القادة والصورة والسمعة ويشتد السجال حول القضايا ويطرح السياسيون حلولاً وتنشط سوق الأوراق المالية وتتنافس قوى الضغط ويتسع سوق البيع والشراء ويتفاءل الناس. هذه المرة أرى مزاجاً مختلفاً، وأخلص مع عشرات المحللين في مراكز البحث والصحافة والأكاديميين الأميركيين إلى أن أسباباً جوهرية استطاعت أن تفرض هذا التغيير الجذري في مزاج أميركا، فتجعلها أمة متشائمة بعد قرون من تفاؤل متصل.
يقول محللون إن بداية التشاؤم في أميركا اقترنت بعبارة ريتشارد تشيني الشهيرة عن استعداد الشعب العراقي لاستقبال القوات الأميركية بالورود مثله مثل شعوب كثيرة استقبلت الفاتحين والمحررين. وبعد هذا التصريح المتفائل عبرت القوات الأميركية إلى العراق وغزت واحتلت ولم يخرج عراقي أو عراقية إلى الشارع بوردة يهديها لجندي أميركي، ونعرف كم كان لصور نساء باريس اللاتي استقبلن القوات الأميركية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية دور هائل في تعميق مزاج التفاؤل الأميركي في ذلك الحين.
حدث العكس في العراق، فالاستقبال البارد من شعب العراق الذي أصبح بعد شهور استقبالاً غاضباً، بل دموياً، كان له الفضل في خلخلة منظومة التفاؤل الأميركية، ثم جاءت عبارة الرئيس بوش الأشهر من على سطح حاملة الطائرات الأميركية بعد شهور من الغزو التي أعلن فيها انتهاء مهمة الغزو والتحرير بنجاح، ليكتشف الأميركيون بعدها أن الرئيس لم يكن صادقاً، أو على الأقل، خدعه مستشاروه كما خدعوا الشعب، وهم الذين دفعوه إلى حرب غير مدروسة ساحتها أو عواقبها.
على كل حال لم تكن الحرب في العراق السبب الأوحد وراء انحسار التفاؤل في أميركا، إذ ليس معقولاً أن شعباً لم يعرف غير التفاؤل ينقلب إلى شعب متشائم بسبب حرب ليست الأولى التي يخسرها في تاريخه. المرجح في تقديري أن الولايات المتحدة كانت دخلت بالفعل مرحلة جديدة من مراحل تطورها، فمن ناحية طرأ ما يمكن أن تطلق عليه حالة انكشاف الحلم، بمعنى أن الحلم الأميركي كشعار قومي وإيديولوجي لم يعد قابلاً للتحقيق.
وعن هذا تقول صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، وهي بحكم التعريف والسمعة أبعد ما تكون عن التشاؤم، في مقال نشر في تموز (يوليو) 2006، إن الحلم الأميركي سيبقى من الآن فصاعداً حلماً لا أكثر. حلم لا يتحقق، أو حلم كبقية الأحلام، مؤكدة خطأ الاعتماد على معدلات نمو مرتفعة كدليل على التقدم الاقتصادي إذا كانت معظم عائدات هذا النمو تذهب إلى قلة من الناس وتحرم منها غالبية السكان.
من ناحية أخرى، اكتشفت الأمة الأميركية أن مناعتها القيادية والاستثنائية كدولة تحميها من الشرق محيط ومن الغرب محيط آخر، لم تعد مطلقة أو كاملة بدليل ما حدث في أيلول (سبتمبر) 2001، ويحدث يومياً عبر حدودها مع المكسيك وكندا، وما يلحق بقواتها المسلحة من هزائم ويصيبها من خسائر في العراق وأفغانستان وما تفقده من مكانة بشكل متصاعد في العالم بأسره.
ومن ناحية ثالثة، استمر بعض أفراد الجماعة المحيطة بالرئيس الأميركي في نشر الزعم بأن تقوية الخوف في نفوس الأميركيين من تهديد خارجي قادر على إزالة الخوف من تهديدات داخلية كتراجع الاقتصاد والعجز في الموازنة وزيادة معدلات الجريمة والعنف في المدارس والأحياء الفقيرة وتردي مستوى التعليم في عدد من الولايات ونقص الرعاية عند الشيخوخة.
لم يدرك هؤلاء الجدد من القادة في أميركا أن التركيز على الخوف من التهديد الخارجي بالإضافة إلى الخوف القائم فعلاً من تهديد داخلي عنصر كاف وضروري لينحسر التفاؤل ويصعد التشاؤم. أذكر أن دافيد طومسون كتب منذ أسبوعين في صحيفة «الغارديان» البريطانية مقالاً حذر فيه وبشدة من الاستمرار في سياسة شن الحروب الخارجية للتغطية على اخفاقات الداخل، وتنبأ بأن نذر تمدد العنف في أميركا كثيرة بسبب هذا المناخ من الخوف والترهيب.
من ناحية رابعة، وهذه تنطبق على الولايات المتحدة انطباقها على مجتمعات أخرى، يتعرض المواطن الأميركي لتوحش بعض ممارسات اقتصاد السوق وتقليص وظائف الدولة الخدمية وبخاصة الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية. ويقارن بول كروغمان الاقتصادي الأميركي المعروف في مقال نشرته منذ أيام صحيفة «نيويورك تايمز» بين الحالة الاقتصادية الراهنة في أميركا وما حدث في المكسيك والبرازيل والأرجنتين ثم في المكسيك مرة أخرى ثم تايلاند وإندونيسيا والأرجنتين مرة ثانية، وهي المقارنة التي تعبر عن درجة كبيرة من التشاؤم غير معهودة بين المعلقين في أميركا.
وليست خافية الصلة الوثيقة بين توحش الرأسمالية في العقود الأخيرة وصعود موجات التشاؤم، ليس فقط في أميركا بل وفي بلاد مثل مصر ودول في أفريقيا وبعض دول أوروبا الغربية كفرنسا، وسبب ذلك، فيما أعتقد، هو أن الفرد لم يعد آمناً على مستقبله ومستقبل أولاده بسبب شعوره بالضعف الشديد في مواجهة السوق الأقوى نفوذاًَ وهيمنة وغياب الدولة أو تقاعدها وتخليها عن وظيفة حمايته.
أرى أن لبعض المحللين حقاً في أن يتهموا الرئيس بوش شخصياً أو حكومته بسرقة التفاؤل من أميركا، وأتفق في الوقت نفسه مع القائلين أن التشاؤم ظاهرة عالمية وليست فقط أميركية، وأتفق بخاصة مع البروفسور غالبرايث عالم الاقتصاد الأميركي وغيره ممن قالوا إن مزاج التشاؤم يترعرع حين «يتلازم رخاء الفرد ورضاه عن أحواله مع فقر الجماعة وسخطها على حالها». الأساس في التشاؤم والتفاؤل هو أن الفرد عادة متفائل والجماعة عادة متشائمة، وأن الفرد غالباً ما يعرب عن رضاه عن نفسه وأحواله في الوقت الذي يعرب فيه عن تدهور حال الجماعة التي ينتمي إليها. نسمع كل يوم أفراداً يصرح كل منهم بأنه في حال طيبة ولكن الوطن أو المهنة أو الطائفة في حال غير طيبة.
يقول آخرون إن الاعلام مسؤول إلى حد كبير عن تفاقم مزاج التشاؤم. وينصب الاتهام خصوصا على أجهزة الإعلام التي تروج للأخبار السيئة قبل الطيبة، فالهدوء والسكينة والنظافة والطهارة ليست أنباء صالحة للنشر على عكس أنباء الصخب والتوتر والقذارة والفساد. ويدللون على دور وسائل الاعلام الحديثة في انحسار التفاؤل بالدراسات التي أكدت أن مشاهدي التلفزيون هم الأكثر تشاؤماً. يقال أيضاً إن الشعوب المشاركة في صنع السياسة والقرار هي أقل تشاؤماً من الشعوب المحرومة من المشاركة وحرية التعبير، فالشعوب الواقعة تحت الاستبداد مزاجها متشائم دائماً، وكذلك الشعوب التي تشعر بأن قرارات مصيرية اتخذها الحكام من دون الرجوع إليها أو قبل إثارة نقاش واسع حولها مثل قرار بوش الدخول في حرب ضد العراق، ومثل القرارات والسياسات الصادمة التي انتهجتها حكومات في أميركا اللاتينية وتنتهجها حالياً حكومات عربية تنفيذاً لتعليمات مدرسة ميلتون فريدمان في تحرير الاقتصاد وإعلاء مكانة قوى السوق.
أحد الصحافيين الذين رافقوا الرئيس بوش في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط نقل عنه قوله إنه وجد العرب في مزاج سيئ... وقد يكون على حق. ولعلنا نحن أيضاً على حق إذا قلنا إننا وجدنا الأمة الأميركية في مزاج أسوأ. والأمر في الحالتين لا يبشر بخير.
"الحياة"
التعليقات