31/10/2010 - 11:02

في الذكرى السابعة لانتفاضة الاقصى../ علي جرادات

في الذكرى السابعة لانتفاضة الاقصى../ علي جرادات
سبع سنوات مضت على اندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية في ايلول 2000، التي خاضت الجماهير الشعبية الفلسطينية غمارها، وتحمَّل التنظيم الشعبي الفلسطيني بأشكاله الجزء الأعظم مِن أعبائها وتضحياتها، تماماً كما كان الحال في تجربة الإنتفاضة الأولى (1987-1993)، مع ملاحظة ارتفاع تضحيات التنظيم الشعبي وخسائره في الانتفاضة الثانية، بالمعنيين الكمي والنوعي، مقارنة بما تكبده خلال الإتنفاضة الأولى، ذلك أن الهبة الجماهيرية الغاضبة، التي اشعل نارها عود ثقاب زيارة شارون لساحات المسجد الأقصى، انتقلت إلى انتفاضة مسلحة، بفعل ما واجهته خلال شهورها الأولى مِن قمع دموي إسرائيلي غير مسبوق، مع عدم اغفال ما لعبه عامل تعدد الخطاب السياسي الفلسطيني وأجنداته المختلفة مِن دور على هذا الصعيد.

بعد مرور سبع سنوات على اندلاع انتفاضة الأقصى؛ وبعد حصيلتها العامة، التي لا يختلف اثنان على مأساوية خاتمتها، ممثلة في "قسمة ضفة غزة"، هناك الكثير مِن القضايا التي تستوجب المراجعة، وهناك الكثير مِن الدروس التي يجب التوقف أمامها، خاصة وأن مأساوية الحصيلة العامة لانتفاضة الأقصى، لم تكن فقط بفعل بطش الاحتلال وجرائمه التي لا تحصى، كما لم تكن فقط بفعل ما داهمها مِن عاصفة اقليمية ودولية بعد احداث 11 ايلول 2001، بل كانت أيضا، حتى لا نقول أساساً، بسبب تعدد أجندات إدارتها الداخلية على المستويين السياسي والميداني.

في إطار المراجعة الوطنية المسؤولة لتجربة انتفاضة الأقصى المجيدة، حري التذكير أن اخطاء إدارتها، لم تكن نبتاً شيطانياً نَبَتَ فجأة، بل كانت تجلياً نوعياً، وعلى علاقة أكيدة بما سبقها مِن خطايا. وربما تكون كيفية التعامل السياسي مع التنظيم الشعبي الفلسطيني بعد قيام السلطة الوطنية الانتقالية عام 1994، واحدة مِن أهم هذه الخطايا، التي شكلت المقدمات لما وقع في معمعان الانتفاضة الثانية مِن أخطاء نوعية، أما لماذا؟!!! وكيف؟!!! فسؤالان جديران بالمعالجة، وإن بعجالة.

كما بين الفكر والسياسة، فإن بين السياسة والتنظيم علاقة جدل، أي علاقة تفاعل، ذلك باعتبار السياسة مرجعية وهدف، والتنظيم امتداد ووسيلة تحقيق، ما يجعل التنظيم (مضموناً وشكلاً) يَتَحَدَّدُ بمضمون السياسة، الذي تحدده تطلبات الواقع، وليس رغبات الأفراد واستعداداتهم. ويعتبر هذا بمثابة قانون عام للعلاقة بين السياسة والتنظيم وجدلهما الواقعي. وفي هذا يكمن سر تفارق مضامين التنظيم وأشكاله في أوساط الشعوب المستقلة عن تلك التي تخضع للاحتلال الأجنبي. فالتنظيم الرسمي المُسْتَقِر (الحكومي وغير الحكومي)، هو ما يلائم الشعوب المستقلة، بينما التنظيم الشعبي المُلاحَق (حركة التحرر الوطني وتنظيمها الشعبي)، هو ما يلائم الشعوب التي لم تنل إستقلالها بعد.

وفي التجربة الفلسطينية، ولما كان الاحتلال الإسرائيلي احتلالا استئصالياً، وعلى تناقض مع الشعب الفلسطيني بمجموعه؛ وبما أن السياسة الفلسطينية تحددت واقعا بالنضال لاستعادة الحقوق الوطنية المغتصبة، فإنه لم يكُن واردا، ولا يجب أن يكون وارداً، الجدل حول ضرورة تنظيم الشعب الفلسطيني، وتأطيره للدفاع عن نفسه واستعادة حقوقه، بل كان بدهياً الاستخلاص والقول: إن التنظيم الشعبي (مضموناً وشكلاً) هو الشكل الأساسي القادر على حمل أعباء البرنامج التحرري الفلسطيني، ونقله من عالم التطلع والطموح، إلى عالم الفعل والممارسة، وتحقيق الإنجازات المتراكمة على طريق تحقيق النصر النهائي.

والحال؛ فلم يكن غريباً أن ينصب الجهد الأساسي للاحتلال الإسرائيلي على ضرب التنظيم الشعبي الفلسطيني، بل كان طبيعياً أن يبقى مضمون هذا التنظيم واشكاله، في الوطن والشتات، هدفاً لضربات الاحتلال وحروبه، خاصة بعد أن تغلغل كتنظيم مقاوم في اوساط الفلسطينيين، ادركت سلطات الاحتلال منذ نشوئه، خطورته وتنامي فعله وإنجازاته ومكتسباته، فيما عجزت عن اقتلاعه، رغم بشاعة ما شنته ضده من حروب وضربات امنية قاسية، مرَّ جرائها بمراحلَ مدِّ وجزر، وكَرِّ وفَر، غير أنه في كل الأحوال، اكتسب بذلك عطف الجماهير الشعبية الفلسطينية واحتضانها أكثر فأكثر، لينتقل بذلك من حالةٍ طليعية نخبوية يوم إنطلاقته، إلى حالة جماهيرية بامتياز.

وكانت الانتفاضة الشعبية الاولى 1987-1993، الثمرة والقفزة والتتويج الأهم، والتجلي الأبرز لتراكم فعل التنظيم الشعبي الفلسطيني باشكاله، على مدار عقود النضال الوطني الفلسطيني، وخاصة منذ اندلاع شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة عشية وبعد هزيمة عام 1967. ففي معمعان الانتفاضة الأولى تعمق مضمون التنظيم الشعبي الفلسطيني، وتنامت اشكاله وتعددت بصورة غير مسبوقة.

هنا، وعلى خلفية اتضاح قصور المعالجات العسكرية والأمنية الإسرائيلية الصرفة للتنظيم الشعبي الفلسطيني وتكتيكه الانتفاضي السلمي الجديد، الذي ثلم نصل جبروت آلة الحرب الإسرائيلية، وقابل تفوقها العسكري بالتفوق الأخلاقي، ما نَقَلَ الاستقلال الوطني الفلسطيني لأول مرة مِن طور الامكانية التاريخية إلى طور الإمكانية الواقعية، زادت قناعة القيادات الإسرائيلية بضرورة المزج بين المعالجة الأمنية والسياسية للانتفاضة الشعبية، ما قاد مع اعتبارات إستراتيجية أخرى، في مقدمتها اعتبار صون "يهودية دولة إسرائيل"، إلى موافقة حكومة رابين-بيرس على اخراج الجيش الإسرائيلي مِن وسط التجمعات الفلسطينية الكبرى، واعادة انتشاره مع جهاز "الإدارة المدنية" في محيطها، ما سمح بقيام سلطة وطنية فلسطينية انتقالية، لم يستوفِ قيامُها وفقاً لاتفاق اوسلو شروطَ الاستقلال الوطني الفلسطيني المستقل والسيادي.

مع قيام السلطة الفلسطينية الانتقالية عام 1994، كان يجب التنبه فلسطينيا، وبمعزل عن مسألة "مع" أو "ضد" اتفاق أوسلو سياسياً، إلى ضرورة الحفاظ على التنظيم الشعبي، بل كان يجب استغلال فرصة قيام السلطة الوطنية الانتقالية، لتطوير كل ما كان قائماً مِن أشكال هذا التنظيم، وتعزيزها وتقويتها، بدءا من حاضنها السياسي العام، منظمة التحرير الفلسطينية، ومَن بداخلها أو خارجها مِن فصائل، وإنتهاء بكل أشكال التنظيم الشعبي الجماهيري، الذي شهد تطوراً بالمعنيين الكمي والنوعي في معمعان الانتفاضة الأولى.

لكن، وبكل اسف، فإنه، وخلافاً للضرورة الموضوعية والوطنية في الحفاظ على التنظيم الشعبي الفلسطيني وتطويره وتقويته، ورغم عدم توقف الإسرائيليين عن استهدافه وملاحقته وضربه، فقد جرى تهميشه، لصالح تعظيم الاهتمام بالتنظيم الرسمي، "الحكومي" و"غير الحكومي"، وكأن الفلسطينيين احرزوا استقلالهم الوطني السيادي، ما قاد بالنتيجة العملية، بصرف النظر عن النوايا، إلى اضعاف التنظيم الشعبي الفلسطيني، الذي راح يذبل ويتفكك ويتحلل ويتآكل، واخذت تنخر عظمه ازمات، كان لها اول دون آخر.

سارت الأمور على هذا النحو طيلة سبع سنوات (1994-2000)، عانى خلالها التنظيم الشعبي ما عانى، الى أن هبَّت رياح انتفاضة الأقصى في أيلول 2000، التي أنعشت فيما أنعشت كل أشكال التنظيم الشعبي، الذي عاد لتقدم الصفوف وتحمل الجزء الأساسي مِن أعباء ومسؤوليات المواجهة القاسية، انما بكل حمله في أحشائه مِن أزمات وتفكك وتآكل وتحلل، تعمقت خلال الفترة الفاصلة بين الانتفاضتين (1994-2000)، وقد برزت مظاهر هذه الأزمة جلية في مظاهر الفوضى والفلتان الأمني وعدم الإنضباط، خاصة بعد بدايات ذبول انتفاضة الأقصى، وعدم تمخضها عن حصاد سياسي يذكر، وما إضافه ذلك مِن تعميق لأزمة التنظيم الفلسطيني عموما، وفي مقدمتها التنظيم الشعبي.

بهذه النتيجة المرة، لم يكن غريباً تفاقم أزمة التنظيم الشعبي، وصلت درجة أن يصبح وقوداً لطامة الاقتتال الداخلي، بل ويتعرض هذه الأيام، ومنذ الحسم السياسي بوسائل عسكرية في غزة، إلى ملاحقة إسرائيلية أمنية وعسكرية متصاعدة، تقصف شقه المتهم بـ"التطرف" في غزة، وتهشم عظام شقه الموصوف بـ"الاعتدال" في الضفة. وكأن هذا لا يكفي، فراحت "سلطة" "حماس" تضرب شقه الفتحاوي في غزة، فيما تلاحق "سلطة" "فتح" شقه الحمساوي في الضفة.
والحال؛ ألا تستدعي هذه النتيجة المأساوية للتنظيم الشعبي الفلسطيني استحضار قول المتنبي:
كلما انْبَتَ الزمان قناة رَكَّبَ المرء بالقناةِ سناناً
إذ راح الفلسطينيون يُركِّبون لحراب اعدائهم سناناً اضافية، تفتك بالتنظيم الشعبي الفلسطيني بكافه اطيافه السياسية، وخاصة الفتحاوي والحمساوي.

التعليقات