31/10/2010 - 11:02

قراءة في مشهد فلسطيني مهشم../ خليل شاهين*

قراءة في مشهد فلسطيني مهشم../ خليل شاهين*
يثير تماسك أجزاء اللعبة المتحركة فضول الصغار فيغريهم بتفكيكها بحثاً عن سر تناغم إيقاع الحركة، وعندما يفعلون يعجزون غالباً عن إعادة تركيب الأجزاء المفككة... هذا ما يسميه الكبار "تخريباً" بأيدي أطفال لا يعينهم وعيهم بعد على فهم "سر" ترابط أجزاء اللعبة، ومدى "التخريب" الذي يصيبها إن طال العبث أحد أجزائها.

معظمنا فعل ذلك صغيراً، ونال توبيخاً عن فعل عبثي رفض الإقرار بمسؤوليته عنه، مدعياً أنه كان يحاول "إصلاح" خلل ما في اللعبة. في مثل هذه الحالات، يقدم دفاع الأطفال عن سلوكهم تفسيراً لهذا السلوك، لكنه لا يبرر فعل "العبث التخريبي". ما يبرر الفعل هنا، مستوى الوعي الطفولي في سياق تشكله واكتشافه لما حوله، ومن ضمن ذلك تراكم المعرفة من الخبرات المكتسبة من فعل الفك والتركيب ومحاولة الابتكار مرة تلو الأخرى، تماماً كما تُكتسب مقدرة السير لدى الأطفال مع تكرار الكبوات، حتى أن إلحاق بعضها أذى بالطفل لا يردعه عن إعادة المحاولة حتى يتمكن من السير منتصب القامة في نهاية المطاف.

الملفت أن هذا السلوك الطفولي يقفز "جزئياً" إلى الأذهان لدى مراقبة السلوك "الطفولي المغامر" للقوى المهيمنة في النظام السياسي الفلسطيني، لاسيما منذ تتالي تداعيات أحداث غزة. وأقول "جزئيا" لأنه خلافاً لإغراء التفكيك لأجزاء اللعبة المتماسكة لدى الأطفال، أقدم بعض الفلسطينيين على تفكيك المفكك أصلاً.. لكن المشترك في الحالتين، فعل التفكيك بحد ذاته، والنتيجة النهائية المتمثلة بالعبث التخريبي، وتدني مستوى الوعي.

تفكيك المفكك، وتقسيم المقسم، عنوان ممارسة سياسية سائدة لا تقوى على إعادة تجميع أجزاء الجسم الفلسطيني، فتمعن في فعل التفكيك بلا هدى، مدعية أنه سينتهي بمعجزة إعادة التركيب، والنتيجة: تهشيم المشهد الفلسطيني العام.

ومثل هذه الممارسة السياسية لم تبدأ بأحداث غزة، وامتداد منطق المحاصصة السياسية بين حركتي "فتح" و"حماس" إلى المحاصصة الجغرافية، بل قبل ذلك بكثير. وربما يجوز القول إن ما حدث كان نتيجة لتهشم المشهد الفلسطيني، فزاده تهشيماً على تهشيم. ولا جدوى ترتجى، هنا، من الخوض في جدل حول أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة، طالما أن العلاقة السببية بين الاثنتين قائمة بوضوح لا يخضع لجدل.

وتهشم المشهد يطال كل الحقول والميادين: الجغرافيا، الديموغرافيا، الاقتصاد، الثقافة، الفكر، بنية المجتمع، والسياسة أيضاً. لكن الأخيرة ذات بعد أشد خطورة، ففي نجاعتها أو إخفاقها تكمن العلاقة السببية مع مدى تقدم أو تراجع الانهيار في باقي الحقول والميادين. ذلك أن فقدان البعد الوطني الجمعي في السياسة، يفضي إلى مزيد من التفكك، فيما يؤدي تفكك المبنى السياسي العام نفسه إلى خطورة تدنو من الكارثة الوطنية، لأنها تمس "الكيانية" بمفهومها الشامل لمجمل عناصر توحيد وتجسيد الهوية الوطنية (القومية) لشعب ما على أرضه.

في الحالة الفلسطينية، لا مبالغة في ادعاء اقتراب تفكك المشهد من الكارثة الوطنية، لأن غياب الدولة المجسدة للهوية القومية، ظل يلقي عبء تجسيد هذه الهوية وربطها بالجغرافيا على عاتق المجتمع السياسي عموماً، ولا يمكن للانهيار السياسي وتفككه على مقاسات نطاقات جغرافية توغل في التفكك إلا أن يفقد السياسة ذاتها قدرتها الجمعية؛ أي أن يسهم في تفكيك "الكيانية" الموحدة وتشظيها على مقاسات "كيانات" محلية تتنازع النفوذ والتمثيل الشرعي، حتى تقترب من مشاهد الممالك الأندلسية في مآلها نحو الانهيار.

حدث كل ذلك قبل "غزوة غزة" من قبل حركة "حماس"، ولئن كان صعباً التأريخ للحظة بدء التفكك، لكن ما يمكن الجزم به أن انطلاق مسار "أوسلو" لعب دوراً حاسماً في الوصول إلى التشظي الراهن في المشهد الفلسطيني العام.

كانت "أوسلو" تعبيراً عن تكيف السياسة في نطاق جغرافيا الكانتونات التي انتعشت في أذهان الإسرائيليين مع تكيف سلطة الحكم الذاتي بداية في نطاق التقسيمات الأولى ذات الطابع "الكانتوني" في مناطق (أ، ب، ج)، ثم تطورت لتستنتج الأوساط الإسرائيلية الحاكمة من قدرة الفلسطينيين على التكيف داخل الحصار والجدران وعلى أطراف المستوطنات، استسلاماً أمام مشروع الفصل العنصري ضمن كانتونات تهشم مشروع الدولة المستقلة وفق الرؤية الفلسطينية، وتعيد تحديده كمشاريع ممالك محلية تفتقر إلى سلطة مركزية قابلة للتحول إلى الدولة الجمعية.

أيهما سهَّل تقدم مشروع الآخر؟ تفكك المشهد الفلسطيني في سياق التكيف مع نتائج المشروع الإسرائيلي الجاري فرضه بالقوة على أرض الواقع، أم استجابة المشروع الإسرائيلي لواقع مفكك أصلاً يغري بمزيد من التفكيك؟ في الواقع لا تستحق اللحظة الراهنة تبديد الجهد على محاولة الإجابة، طالما أن السؤال الأهم اليوم هو: هل من مخرج من الأزمة الراهنة من دون مشروع نهوض قومي جمعي قادر على مواجهة مشروع التفكيك والتهشيم الإسرائيلي، لا التكيف مع نتائجه؟

تبدو الإجابة صعبة، لأن مثل هذا المشروع النهضوي القادر على تجسيد "الكيانية" غير ممكن من دون حركة وطنية تحمله. والأشد صعوبة كيف يمكن بناء هذا المشروع في لحظة أفول الحركة الوطنية التقليدية، وفشلها ليس في تحقيق مشروع تحول السلطة إلى دولة فحسب، بل وحتى الحفاظ على مبنى السلطة المركزية ذاتها من مخاطر تكيفها مع "جغرافية أوسلو" والتفكك إلى سلطات محلية في نطاق الكانتونات الجاري فرضها على أرض الواقع؟

ولم يقتصر تهشم المشهد الفلسطيني العام على تكيف النظام السياسي في نطاق "جغرافية أوسلو"، أو حتى ما دون ذلك منذ بناء الجدار وعزل الأغوار وتسريع تهويد القدس، بما في ذلك سعي حركة "حماس" ذاتها للحاق بركب من سبقها في عملية التكيف هذه، بل امتد ليشمل خارطة الانتشار الفلسطيني في كل مكان؛ ففي الأراضي المحتلة منذ العام 1948 يخوض الفلسطينيون معركتهم وحدهم دفاعاً عن هويتهم القومية ووجودهم على أرضهم في مواجهة سياسة التمييز ونفي الآخر والطابع اليهودي للدولة. وفي مخيم نهر البارد، تدمير تمتد مساحته يومياً تحت شعار القضاء على بضع عشرات من "فتح الإسلام" بتأييد ضمني من منظمة التحرير، الممثل الشرعي لآلاف اللاجئين ممن فقدوا مساكنهم البائسة أصلاً، وفي باقي المخيمات إفقار وتضييق لوضع الشبان أمام خيار وحيد هو اختيار "التوطين" في أوروبا أو كندا أو استراليا. وفي العراق، ذبح وملاحقة وتهجير للاجئين الفلسطينيين على أيدي المليشيات الطائفية.

في ظل هذا الوضع المهشم، تتفكك السياسة أو "السياسات الفصائلية" ذاتها لتتصارع في مجتمعات أو تجمعات الفلسطينيين، سعياً وراء تعظيم النفوذ في "غيتوهات" تبدأ من قطاع غزة، مروراً بالضفة الغربية، وربما ليس انتهاء بمخيمات لبنان ... وفي سياق كهذا، جاءت أحداث غزة لتعكس تكيف سياسة حركة "حماس" في نطاق "كانتون" قطاع غزة أولاً، وتهشم السياسة العامة للحركة -في ظل افتقارها لأية رؤية قومية جامعة للشعب الفلسطيني- إلى سياسات نفوذ محلية تخوض الصراعات داخل الكانتونات والغيتوهات الفلسطينية الأخرى.

ولأن طرف الصراع المقابل، في حركة "فتح"، يفتقد كذلك لرؤية وطنية جامعة، فقد اختار اتخاذ سلسلة إجراءات تبدأ بإعلان حالة الطوارئ، وتشكيل حكومة في الضفة الغربية، مغلباً التكيف هذه المرة أيضاً، مع ما تبقي له من جغرافيا يمارس فيها النفوذ.

عند هذه اللحظة يتم تفكيك المفكك أصلاً، من قبل طرفي الصراع الداخلي بامتداداته الإقليمية والدولية، وينتقل الطرفان من استعصاء المحاصصة السياسية إلى انفتاح أفق المحاصصة الجغرافية على واقع مقسم جاهز بفعل السياسة الإسرائيلية لتقديم الولاء للسلطات المحلية الأكثر قوة ونفوذاً. وعند هذه اللحظة أيضاً، ينقسم ما كان يعتقد أنه سلطة مركزية موحدة إلى سلطتين لا مجرد "حكومتين" لا تحكمان في الضفة والقطاع، في سياق ينفتح على إغراء استنساخ تجربة السلطة لتفرخ سلطات ومليشيات محلية في المزيد من الغيتوهات في الضفة الغربية ومخيمات لبنان على الأقل.

وبتفكك السلطة المركزية مع الانهيار المدوي للمؤسسة الأمنية في قطاع غزة، يتضح كم كانت هذه السلطة نمراً من ورق، وقبل ذلك كم كان وهماً الرهان على تحويلها إلى دولة. ماذا يحمل ذلك من دلالات؟ ربما الكثير، لكن أهمها أن مشروع السلطة لم يكن جمعياً بالمعنى الذي يخص الفلسطينيين ويعكس تطلعهم لبناء هويتهم القومية، وإن حمل برنامج دولة الضفة والقطاع غير الجمعية أصلاً، كما أن مجتمعي الضفة والقطاع المنفصلين جغرافياً لم يشكلا يوماً "مجتمعاً مدنياً" قادراً على كبح الانزلاق نحو حروب المليشيات والعائلات والمساهمة في تحويل مشروع السلطة الموحدة إلى دولة، والأهم أن نمو قوة ونفوذ حركة "حماس"، وصمودها رغم الحصار، والضغوط في قطاع غزة على الأقل، كان الوجه الآخر لأفول الحركة الوطنية وبرنامجها في إطار منظمة التحرير، وكان تعبيراً عن مأزق تحقيق ما يعرف بالمشروع الوطني القائم على فكرة دولة الضفة والقطاع.

هل من مخرج؟ نعم، ولكن بتبني مشروع نهوض قومي جمعي قادر على مواجهة مشروع التفكيك والتهشيم الإسرائيلي أولاً. ومثل هذا المشروع لا بد أن يقاوم إغراء التكيف ببناء سلطات النفوذ المحلية على ما تبقي من أرض لمجتمعي الضفة والقطاع. إنه مشروع يستفيد من تجربة استعصاء إعادة بناء السلطة في مشهد مهشم في ظل وصول حل الدولتين إلى نهايته، على الأقل قبل إعادة توحيد المشهد ذاته. ولكي يكون جمعياً لا بد من أن يعبر عن مصالح الفلسطينيين جميعاً، وعن ضرورة إعادة بناء "الكيانية" ببعث الهوية القومية للشعب، على قاعدة ربطه بجغرافيا الوطن التاريخي، الأمر الذي يعني الانطلاق في بناء هذا المشروع من التمسك بحق الفلسطينيين جميعاً في تقرير المصير في نطاق فلسطين التاريخية؛ أي تمسك الفلسطينيين في الضفة والقطاع وأراضي 48 بحقهم كشعب أصلي في العيش على أرض الوطن، وكذلك التمسك بحق اللاجئين في العيش على أرض الوطن كجزء من الشعب الفلسطيني، من دون أن يعني ذلك نفي حق الإسرائيليين اليهود في العيش كشعب على الأرض ذاتها.

باختصار، مشروع النهوض القومي لا يمكن له أن ينطلق في توحيد الشعب إلا من فكرة الحق في الأرض، بغض النظر عما إذا كانت نتيجة ذلك النضال في سبيل الدولة ثنائية القومية، أم الدولة الديمقراطية العلمانية. ففي نهاية المطاف، سيبقى النضال ضد الطابع اليهودي لإسرائيل ودولتها أكثر من مجرد مهمة فلسطينية تاريخية، إنه مهمة كل البلدان والقوى الديمقراطية المناهضة للعنصرية في العالم، تماماً كما كانت مهمة النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مهمة عالمية بامتياز حتى تحقق انهيار هذا النظام.

ويتطلب مشروع كهذا بحجم الشعب الفلسطيني بناء حركة وطنية قادرة على قيادة الشعب في أماكن تواجده كافة، وحيث أن العنوان المتاح لتمثيل الفلسطينيين جميعاً هو منظمة التحرير، فلا يعقل ألا يتم تركيز كل الجهود على إعادة بناء المنظمة من جديد، لتحمل مثل هذا البرنامج الجمعي، لا أن يتم استدعاؤها للإستقواء بقرارات مجلسها المركزي ولجنتها التنفيذية في أوقات احتدام الصراع على "شرعية التمثيل".

وإذا كان تحقيق هذه المهمة لا يزال بعيد المنال، فإن نقطة البدء المتاحة تتمثل اليوم بنزول حركتي "حماس" و"فتح" عن قمة الشجرة التي صعد إليها كل منهما، وذلك بالتراجع عن حرب الإجراءات المتبادلة التي اتخذت حتى الآن في قطاع غزة والضفة الغربية، وإلغاء مستوى التشكيل الحكومي أو "تجميده" على الأقل، طالما أن الصراع والمحاصصة يرتكزان على حكومة لا تحكم، وتشكيل قيادة وطنية موحدة بديلاً عن الحكومة، بما يفتح المجال للحوار حول إعادة بناء النظام السياسي في إطار منظمة التحرير، وكذلك بناء مشروع قومي جامع بمشاركة الجميع.

ومن دون ذلك، ستتواصل وتتسع "حروب الشرعية والتمثيل" في شتى الكانتونات والغيتوهات الفلسطينية في الضفة والقطاع والشتات، والضحية ستكون أولاً وحدة الشعب وقضيته القومية، مع استمرار عبث التفكيك من دون إعادة تركيب. وعندها، لن يرى الفلسطيني في المرآة غير صورته مهشمة.


* هذه المقالة نشرت في العدد الأخير من دورية "آفاق برلمانية".

التعليقات