31/10/2010 - 11:02

لتتوقف الهرولة نحو التطبيع /د.يوسف مكي

لتتوقف الهرولة نحو التطبيع /د.يوسف مكي
رغم أن التاريخ له قوانينه الخاصة، والتي تأتي في المقدمة منها أنه لا يعيد تكرار ذاته، فإن هناك ظاهرة استثنائية تستحق الرصد، هي علاقة قوة الاحتلال بالشعب المحتل.

إن هذه الظاهرة، تقفز فوق القانون التاريخي، وتعيد تثبيت ذاتها، كقانون طبيعي، يتصف بتجاذبات متماثلة. فكلما كان هناك محتل كانت هناك مقاومة.. ويعيد التاريخ ذاته، لكن بالتأكيد ليس بشكل ميكانيكي ساكن، ولكن ضمن عملية ديالكتيكية، تخلق عند الشعب المقاوم تجليات إبداعية، تكون في الغالب خارج حسابات القوة الغاشمة. وكلما ازداد عنف المحتل، وتطورت أساليب عبثه وتخريبه، كشفت الذات الإنسانية عن أساليب وأدوات جديدة تجابه بها غطرسة القوة.

هكذا في غمرة الزحمة والحوصان، واللهاث وراء حلول يائسة وبائسة للخروج من مأزق فشل اتفاقيات غزة- أريحا أولا، فاجأ الشعب الفلسطيني جلاديه بانتفاضته الأسطورية الباسلة، مسجلا ملحمة تاريخية جديدة فاقت كل تصور، من حيث زخمها وقدرتها على الاستمرارية، ولتطوي صفحة داكنة في تاريخ القضية، ولتهز اعتبارات كثير ممن حسبوا أن صفحة الصراع في أرض القداسات قد قلبت إلى غير رجعة. وأن نضال شعبها مجرد حكاية ورواية، من تلك التي تدونها ملازم التاريخ.

ولأن الانتفاضة كانت مفاجأة، وخارج مجمل حسابات الأعداء والأصدقاء على السواء، فقد أربكت حسابات الجميع. لقد هزت أركان العقيدة الصهيونية، وأحدثت أزمة سياسية حقيقية داخل الكيان الصهيوني، وحاصرته بأزمات اقتصادية خانقة. وكشفت عن خواء الاعتماد الأمريكي على دويلة إسرائيل كمهاجم بارع يصوب هدفه بدقة في المرامي العربية. وتحولت "إسرائيل" من مخفر حراسة أمامي للمصالح الأمريكية إلى موقع مهترئ، ينشد الحماية والرعاية من الأساطيل الأمريكية.

وكانت الإدارة الأمريكية سخية في ذلك. فقد قدمت تغطية كاملة للعدوان، وحالت دون صدور أي قرار دولي بحق تل أبيب، ودعمت رفض الدولة العبرية الالتزام بتنفيذ أي قرار أممي يتم اتخاذه من مجلس الأمن، بما في ذلك الرفض الصهيوني لوصول لجنة تقصي الحقائق الدولية في مجزرة جنين عام 2002.

وهكذا ونتيجة للدعم الأمريكي للكيان الصهيوني عاد الفريق الدولي من جنيف إلى نيويورك خائباً، وأغمض المجتمع الدولي عينيه على هذا الرفض الصريح لقرار مجلس الأمن. ترى ماذا سوف يكون الموقف الدولي لو أن حكومة العراق التي كانت قائمة قبل احتلاله، أو الحكومة السورية أو حكومة لبنان الآن رفضت الالتزام بقرارات مجلس الأمن؟!.

وكان حصاد الانتفاضة الفلسطينية واضحا، دون شك، وبجلاء، في الاندحار الصهيوني من غزة. إن ذلك لم يكن ليتحقق لولا الانتفاضة والمقاومة. وقد كان ذلك الاندحار هو الدليل القاطع بعد هزيمة إسرائيل في جنوب لبنان، على أن المقاومة هي طريق التحرير. وكان هذا الاندحار هو الأول من نوعه الذي يفرض فيه على المحتل تفكيك مستوطناته عن أرض فلسطينية، بكل ما يحمله ذلك التفكيك من دلالات تاريخية على مستقبل المشروع الصهيوني، على الصعد الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية.

وكان جدار الفصل الصهيوني العازل هو أحد صور اعتراف العدو بضراوة الانتفاضة، وعجزه عن احتوائها أو القضاء عليها. فعلى الرغم من كل ما يقال عن خطورة بناء هذا الجدار، وكثير منه صحيح، فإن بناءه، هو دون شك، اعتراف صريح وواضح بانكفاء المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي، ولو مرحليا إلى داخله. والعودة إلى نموذج "القلعة المحكمة الإغلاق" بعد أن سقط نموذج "السوق المفتوحة" الذي دعا له رئيس الوزراء الصهيوني السابق، شيمون بيريز في مشروعه المعروف بـ"الشرق الأوسط الجديد"، في مطلع التسعينيات.

وكانت الانتفاضة الفلسطينية عامل استنهاض شعبي وعالمي لنصرة حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني. وقد رافقتها هبات شعبية في كل أقطار الوطن العربي، وتحركات عالمية كان أبرزها مؤتمر دوربان في جنوب إفريقيا الذي جدد اعتبار الصهيونية حركة مرادفة للعنصرية.

وقد قدمت لنا الانتفاضة دروسا في كيفية صيانة الوحدة الوطنية رغم كل المؤامرات، وصياغة علاقات داخلية بين عناصر حركة المقاومة الفلسطينية، وأطراف الساحة الوطنية، وفي كيفية قيام تكامل فاعل وذكي، بين منطق السلطة والاعتبارات التي تتحكم به، وبين منطق المقاومة والمتطلبات التي يمليها. فلقد راهن القادة الصهاينة بعد اتفاق أوسلو على اقتتال فلسطيني داخلي يمزق المقاومة الشجاعة لهذا الشعب، فخرجت عليهم الانتفاضة من رحم الوحدة الوطنية الفلسطينية تعزز هذه الوحدة، وتدفع بها نحو الالتفاف حول الانتفاضة ومضاعفة عطاءاتها.

وقد كشفت النتائج التي أعقبت الانتفاضة الفلسطينية، في الواقع العربي أن المعركة مع خصوم الأمة، من أجل التحرر هي واحدة حتى وإن تعددت خنادق المواجهة فيها. يؤكد ذلك ما حدث في العراق من قبل، وما يحدث في سوريا ولبنان الآن.

وما رشح من تقارير وأخبار بعد مضي عامين ونصف العام على احتلال العراق. فقد كشف سكوت ريتر ضابط البحرية الأمريكي الذي تولى يوماً مهام التفتيش الدولي، عما يدعى بأسلحة الدمار الشامل، في العراق أثناء التحضير لاحتلاله، عن حجم التنسيق بينه وبين الموساد الصهيوني ووكالة الاستخبارات الأمريكية. وقال إن الموساد زوده بكل المعلومات عن مواقع الحرس الجمهوري في العراق، وكان يساعده في تحليل كل المخابرات الهاتفية التي كان يسجلها فريق التنصت البريطاني بإشراف وتدريب المخابرات المركزية الأمريكية.

وفي لبنان وسوريا، تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها على تجريد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين بالمخيمات من سلاحهم. وتجري عملية تسعير واسعة النطاق ضدهم، يشارك فيها للأسف عدد من المسؤولين اللبنانيين، محاولين إعادة إنتاج خطاب ولغة يدعوان إلى تصفيتهم، فيما تنطلق تصريحات من متنفذين موحية بأن الفلسطينيين يقفون وراء ما يشهده لبنان من جرائم وتفجيرات، لا تخدم إلا المخططات الصهيونية، التي عملت ولا تزال تعمل من أجل تقسيم لبنان وتدمير صيغة عيشه المشترك، وإعادة الاعتبار لفكرتي الأمن الذاتي والفدرالية. وبالتأكيد فإن هذه التفجيرات، إذا ما استمرت، فسوف تؤدي إلى إضعاف دور لبنان الاقتصادي والثقافي والحضاري والسياسي في المنطقة. وسيكون من نتائج ذلك تسهيل توطين الفلسطينيين فيه على حساب حقهم المقدس في العودة إلى ديارهم، باعتبار أن التوطين هو الوجه الآخر للتقسيم.

كما تبرز صور وحدة خنادق المواجهة مع أعداء الأمة أيضا في محاولات تيري لارسن، أحد الأوصياء الجدد على لبنان، إجراء اتصالات مع قيادات فلسطينية وعربية ودولية بهدف نزع السلاح الفلسطيني من لبنان. ويتم ذلك بالتزامن مع ذكرى مجازر صبرا وشاتيلا التي لم يستطع المجتمع الدولي تنفيذ تعهداته بحمايتها، والتي انسحبت القوات المتعددة الجنسية من محيطها عشية الاجتياح الشاروني لها وارتكابه مع أعوانه المجزرة الشهيرة فيها، والتي لم يستطع المجتمع الدولي حتى اليوم التحقيق فيها ومحاسبة مرتكبيها.

ومن جهة أخرى، يصعد الكيان الصهيوني هجماته على قطاع غزة، ويشن عمليات اغتيال ومجازر واسعة في القطاع والضفة، بما يؤكد أن انسحابه من القطاع لم يكن خطوة على طريق التسوية السياسية، ولم يكن تحريراً لغزة أقدم عليه الصهاينة احتراماً لحق الشعوب في الحرية، بل كان تحرراً "صهيونياً" من أعباء غزة وتكاليف احتلالها، وكان إعادة انتشار تكتيكي، في قطاع يحاولون أن يجعلوا منه اليوم سجناً كبيراً لشعب كبير.

في الذكرى الخامسة لهذه الانتفاضة الباسلة، وأمام الدماء العزيزة التي لا تزال تسيل بغزارة في قطاع غزة وعموم فلسطين، بفعل حملات الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني، لا بد من وقفة عربية شجاعة ضد هذه الغطرسة. فليس من الوطنية ولا من النخوة ولا العدل أن يكافأ المعتدون على جرائمهم بالهرولة نحو التطبيع مع القتلة.

إن ما يجري في بعض البلدان العربية الآن من ركض لاهث نحو الصلح مع العدو الصهيوني، وإغماد سلاح المقاطعة عن بضائعه ومنتجاته لهو عمل يطعن النضال الفلسطيني في الصميم، وهو أيضا تنكر للدماء الغزيرة التي تنهمر الآن على أرض الأنبياء، بفعل هجمات جيش الاحتلال.

كفوا بربكم عن الهرولة باتجاه التطبيع مع العدو، فأشقاؤكم لا يزالون يمتشقون السلاح دفاعا عن أرضهم وكرامتهم، والمعركة ما زالت مستمرة من أجل تحرير فلسطين. وإذا كانت الرجولة قد قتلت فينا فلم نعد قادرين على تقديم الدعم والإسناد لأشقائنا، فلنجعل من جلال هذه الذكرى، ذكرى الانتفاضة الباسلة، مناسبة لتطهير النفس من أدران الخوف والجمود، ولنمتنع عن الهرولة نحو التطبيع ودعم المحتلين الصهاينة... وذلك أضعف الإيمان.

التعليقات