من واجبنا الوطني والقومي والأخلاقي أن نكون على درجةٍ عاليةٍ من الاستقامة الفكرية والتأكيد على أننّا، أبناء الأمّة العربية والشعب الفلسطيني، يجب أن نكون حريصين جداً على أن تأخذ العدالة مجراها ضدّ أيّ مجرمٍ، دون الالتفات إلى انتمائه القومي أو الطائفي أو حتى المذهبي، فـ"الناس سواسية كأسنان المشط".
ومن هذا المنطلق نحن مع ملاحقة المجرمين النازيين الذين نفذّوا أعمالاً يندى لها الجبين إبان الحرب العالمية الثانية ضدّ اليهود وضدّ شعوب أخرى على هذه البسيطة. المجرم يجب أن يبقى تحت المجهر، وقضية جرائم الحرب وجرائم الإنسانية لا يسري عليها مبدأ التقادم، بأيّ حال من الأحوال وبأيّ ظرف من الظروف، لأنّ حاجتك إلى أن تكون عادلاً مع نفسك هي أعلى من حاجتك لأن تكون عادلاًً مع الآخرين، وعندما تفشل في أن تمنح حق نفسك عليك لا يكون بيسرك أن تنجح في أن تمنح حق الآخرين عليك.
في العام 1986 وبعد مرافعات قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية وافقت السلطات الفدرالية على تسليم الدولة العبرية جون إيفان ديميانيوك، الذي كان مشتبهاً بتنفيذ أعمال قتل مئات اليهود في معسكر تريبلينكي، خلال الحرب العالمية الثانية، الرجل لم يكن قائداً، إنّما كان حارساً في المعسكر النازي. وقامت المحكمة المركزية في القدس بمحاكمته، مدعومةً قلباً وقالباً من الصحافة العبرية، التي تابعت الجلسات وكانت تقاريرها متحيزةً للغاية، علاوة على ذلك، قام التلفزيون الإسرائيلي الرسمي، القناة الأولى، الذي ندفع له الضرائب، ببث وقائع جلسات المحاكمة، وتمكن الإعلام العبري من صنع رأي عامٍ ضد المتهم، الذي ترافع عنه المحامي الإسرائيلي، يورام شيفطل، المحكمة المركزية أدانت الرجل بالتهم الموجة إليه، وفرضت عليه حكم الإعدام وهو الذي يستعمل في إسرائيل ضدّ المجرمين الذين شاركوا في المحرقة، إلا أنّ الرجل واصل الإدعاء بأنّه ليس الحارس المقصود، الذي كان يلقب بإيفان المتوحش، وعليه قدّم استئنافاً على قرار الحكم الصادر ضدّه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، وبعد النظر في الطعونات والبينات والأدلة التي قُدّمت من قبل الدفاع قرر قضاة العليا في العام 1993 تبرئة الرجل من التهم الموجهة إليه.
وبعد مرور فترةٍ قصيرةٍ أعيد إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبحوزته صك البراءة الصادر عن أعلى هيئة قضائية في الدولة العبرية، وحسبنا أنّ القضية انتهت إلى غير رجعة، ولكنّ اللوبي الصهيوني والإسرائيلي واصل ملاحقة الرجل المسن، عمره الآن حوالي التسعين عاماً، وبعد ملاحقة قضائية مكثفة وافقت أمريكا على تسليمه على ألمانيا مؤخراً. وقبل شهر ونيّف، بدأت محكمة ألمانية في النظر بالتهم الموجهة إليه، وهي نفس التهم التي تمّت تبرئته منها، لا نعلم بالغيب ولا ندري ماذا ستكون نتيجة المحاكمة، ولكن من ناحية أخرى، يحق لنا أن نسأل وبأعلى الصوت: هل مسموح للدولة العبرية واللوبيات التي تدعهما أن تلاحق مجرمي الحرب النازيين في جميع أصقاع المعمورة، ومنع الآخر، الفلسطيني، من ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ترتقي إلى جرائم ضدّ الإنسانية، كما أكد على ذلك القاضي اليهودي الصهيوني، ريتشارد غولدستون، في تقريره المشهور. هذا التقرير الذي ما زال يقض مضاجع الإسرائيليين من المستويين الأمني والسياسي، ناهيك عن أنّ الماكينة الإعلامية الإسرائيلية شنت حرباً سافرةً ضدّ القاضي وحوّلته إلى شيطان، لأنّه تجرأ على قول الحقيقة التي لا يختلف عليها عاقلان: إسرائيل في عدوانها البربري على قطاع غزة، قبل حوالي السنة نفذّت جرائم حرب ضدّ الفلسطينيين العزل، وقتلت بالأسلحة الفتاكة ما يربو على 1400 فلسطيني، نصفهم من الأطفال، وهدمت البيوت على رؤوس أصحابها، وانتهكت الأرض والعرض.
نسوق هذا الكلام على وقع الصلف والوقاحة والابتزاز الذي تمارسه الدولة العبرية ضدّ المملكة المتحدة، أي بريطانيا، لأنّ القضاء البريطاني، الذي يشهد له الخصم قبل الصديق، بأنّه قضاء نزيه، بعيداً عن السياسة ألف سنة ضوئية، خلافاً للقضاء في إسرائيل التي يختلط فيها الخاص مع العام والسياسي مع القضائي، لأنّ هذا القضاء "تجرأ" على إصدار مذكرة اعتقال ضدّ رئيسة حزب "كاديما" ووزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، بتهم ارتكاب جرائم حرب خلال العملية العسكرية ضدّ إخوتنا في غزة، والتي تُسمى إسرائيلياً بعملية الرصاص المسبوك أو المصهور.
لقد صدر أمر الاعتقال بناءً على تقرير القاضي غولدستون، وليس بناءً على إشاعات أو أقوال بعيدة كل البعد عن أرض الواقع. وما يثير الاشمئزاز حقا هو نائب وزير الخارجية، داني أيالون، الذي نشر مقالاً في صحيفة "عربية" تصدر في المهجر، وهو من حزب المأفون، أفيغدور ليبرمان، وهدد البريطانيين قائلاً للإذاعة الإسرائيلية الرسمية باللغة العبرية إنّه إذا لم تقم الحكومة البريطانية بطرح مشروع قانون على البرلمان لتغيير القانون الذي يسمح باعتقال مجرمي حرب، فإنّ الدولة العبرية، ستأمر أقطابها وأركانها وعسكرييها بعدم السفر إلى بريطانيا، أي أنّه يهدد بريطانيا بافتعال أزمة سياسية.
وعن هذا يمكن القول إنّه ابتزاز رخيص، يؤكد على مدى الوقاحة الإسرائيلية من ناحية، ومدى الخنوع والنفاق والرياء البريطاني الرسمي. وهنا لا بدّ من التفريق بين موقف الحكومة البريطانية وبين موقف الشعب البريطاني، الذي يؤيد قضيتنا ويتظاهر من أجل نصرتنا، ومهمتنا الأوّلية أن نعمل على استغلال هذا الظرف الشعبي في أوروبا لمصلحتنا.
إسرائيل تناست على ما يبدو أنّها أقيمت من قبل بريطانيا، ونسيت أنّها ما زالت تتلقى الدعم من هذه الدولة الاستعمارية التي سرقت منّا فلسطين وسلّمتها للصهاينة من دون وجه حق، وفي سابقة لم يشهدها التاريخ القديم أو المعاصر. مضافاً إلى ذلك، تجاهلت الدولة العبرية مقولة فرانسيس بيكون، فيلسوف إنجليزي قاد المنهج التجريبي، التي أكدت على أنّه إذا لم تحترم الدولة قواعد العدالة، فإنّ العدالة لن تحترم قواعد الدولة، والذي أضاف أنّه لو بدأ الإنسان من المؤكدات انتهى إلى الشك، ولكنه لو اكتفى بالبدء في الشك، لانتهى إلى المؤكدات. كما شطبت من قاموسها مقولة الفيلسوف أرسطوطاليس، بالعدل يقهر العدو، في حين ضربت عرض الحائط بمقولة مارتن لوثر كينغ، ناشط حقوق الإنسان الأمريكي الذي تمّ اغتياله: إنّ الظلم في أي مكان أو مجال تهديد مباشر للعدل في كل مكان وكل مجال.
والشيء بالشيء يذكر: يدّعي أقطاب الحركة الصهيونية، وصنيعتها الدولة العبرية أنّ بلاد اللبن والحليب والعسل، أي فلسطين، هي الأرض الموعودة، وأنّ الله سبحانه وتعالى وعدهم بهذه الأرض لإقامة دولتهم، لأنّها أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، ويكذبون على العالم أنّهم وافقوا على إقامة دولتهم في أوغندا بأفريقيا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يطالبنا الإسرائيليون أن نتنازل عن حق العودة ونسيان النكبة التي حلّت بشعبنا العربي الفلسطيني قبل 61 عاماً فقط.
ولكن أكثر ما يثير الحيرة والغضب هو تعامل بعض الدول العربية مع مجرمي الحرب الإسرائيليين: فمصر أم الدنيا، تقوم باستقبالهم، والمغرب تستقبل ليفني، وهذا المعلن، وكما يُقال المخفي أعظم، ولا نعرف أيّ دول عربية أخرى تقوم باستضافة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وبالتالي لماذا نعتب على الأوروبيين ولا نعود باللائمة على أنفسنا وعلى أنظمتنا؟ وما هو موقفنا من ملاحقة المجرمين الإسرائيليين من قبل الأوروبيين، ونحن نقوم بالتعامل معهم، والمساهمة الفعّالة في عدم تحويل دولتهم إلى دولة منبوذة، نقولها بكل الحزن والأسى: إذا كنّا أمة لا تحترم نفسها، فكيف لنا أن نقوم بمطالبة الآخرين باحترامنا.
خلاصة القول: المجرم هو مجرم بغض النظر عن مكان وزمان ارتكاب الجريمة، فالدم الذي سال بسبب جرائمه سيبقى سائلاً ونازفاً ما دام هذا المجرم أو تلك المجرمة، يتجولون أحراراً، وكأنّ شيئاً لم يكن. ديميانيوك رفض التهم الموجهة إليه، أما ليفني، فقالت هذا الأسبوع إنّها كانت ستتخذ نفس القرارات التي بسببها قرر القاضي غولدستون بأنّها ارتكبت جرائم حرب، ليفني كانت وما زالت قائدة، وهنا مربط الفرس، وهذا بيت القصيد.
التعليقات