31/10/2010 - 11:02

مسار السياسة في مصر/ جميل مطر

-

مسار السياسة في مصر/ جميل مطر
“الشعب غير مهتم بالديمقراطية” . . عبارة سمعناها تتردد بكثرة خلال الشهور الماضية . وفي أغلب الأحوال كان المرددون من المسؤولين الكبار وناطقين باسمهم . ليس صعباً فهم سبب التكرار الملحوظ في استخدام هذه العبارة . وليس ببعيد جداً عن الدقة التحليل الذي قدمه أكثر من محلل سياسي يعربون فيه عن اعتقادهم بأن المسؤولين عن التخطيط للمرحلة القادمة ربما قرروا توجيه حملتهم السياسية والإعلامية إلى قطاع من الشعب عاطل عن العمل، وفاقد الأمل في تحسن ظروف معيشته، ومتشكك في كل شيء، وغير مبال بمصر حاضراً ومستقبلاً .

كان واضحاً على امتداد سنوات أن الرسالة السياسية والإعلامية التي توجه بها أهل الحكم في مصر إلى الرأي العام تركز على أن النظام الحاكم، قيادة وحزباً وموظفين كباراً، ليس مسؤولاً عما جرى لمصر . تارة كانت الحروب مع “إسرائيل” المسؤول، وتارة كانت القوى المعادية التي لا تريد لمصر الخير . ثم جاءت فترة اختاروا الشعب ليكون المسؤول عن كوارث مصر . سمعنا عن هذا الشعب أنه لا يرسل أولاده إلى المدارس، ويأكل بشراهة، ويردم القنوات والمصارف بمخلفاته، ويشعل في الحقول ناراً ليفسد المناخ، ولا يحسن انتقاء نوابه وممثليه، ويفضل حال التخلف عن أحوال التحضر والتقدم . وأخيراً قرروا عزف نغمة مختلفة تماماً .

النغمة الجديدة في الرسالة السياسية والإعلامية نغمة محددة ودقيقة وموجزة عنوانها “مشكلة مصر في نخبتها” . تقول الرسالة في صيغتها الجديدة إن هذه النخبة تقف وراء كافة أزمات البلد، فهي وراء الفشل الاقتصادي وسوء إدارة المرافق وانهيار الأخلاق والفتنة الطائفية ووراء دعوات التطرف . هذه النخبة التي اختارت قطاعات فيها ألا تتوحد مع “إسرائيل” ضد لبنان وفلسطين وإيران، بدت أمام العالم الخارجي وأمام شعب مصر منقسمة، فأصابت بالضرر الشديد سياسة مصر الخارجية وبالشلل العمل الداخلي، بينما لو أنها توحدت وراء سياسات تحت عنوان الوطنية المصرية أو الأمن القومي أو تحت أي عنوان آخر لحققت نتائج أخرى . لا تخفي الرسالة استنكار أهل الحكم تشدد قطاعات في النخبة في معارضة التوحد مع “إسرائيل” ضد العرب والمسلمين، ولا تخفي في الوقت نفسه استنكارهم ضعف وتردد نخبة الحكم الإعلامية والحزبية في الدفاع عن موقف التوحد مع “إسرائيل” والولايات المتحدة .

وتقول الرسالة، إن النخبة المصرية حين تدعو إلى الديمقراطية وتطالب بمشاركة الشعب في صنع القرار فإنها في الحقيقة تحاول التغطية على فشلها في تحسين أحوال الناس ورفع مستوى معيشتهم وتحقيق الأمن الاقتصادي لهم، ولذلك يتعين أن يفهم الناس أن هذه الدعوات للمشاركة لا تخرج عن كونها شعارات نخبوية غير ذات جدوى لأنها لا تتوجه إلى مشكلات الجماهير المعقدة بغرض حلها . الناس تريد حلولاً لمشكلاتها اليومية، ويجب أن تعرف أن “النخبة” هي التي صنعت هذه المشكلات، ثم عقدتها وفشلت في تقديم حلول عملية لها، وبطرحها الديمقراطية حلاً، تحاول الآن التهرب من مسؤولياتها وتبرير استمرار وجودها في الساحة .

قد لا يعرف المسؤولون عن الترويج لهذه الرسالة أنهم يلعبون لعبة حرجة، ما كانوا ليلعبوها لو لم يكونوا مقتنعين بأن الوضع في مصر وصل إلى نقطة اللاعودة، والأخطر ربما، أن يكونوا قد شعروا بأن مسار السياسة الحالي في مصر اقترب من خط النهاية . نعرف من تجارب سابقة أن إثارة الجماهير ضد النخبة والتمييز المتعمد بين النخبة السياسية ونخب غير سياسية، وإشعال الخلافات والانقسامات بين النخب وداخل كل نخبة كلها أعمال تفتح الباب أمام مغامرة، مهما تحسبوا، ستكون لها عواقب وخيمة . يعتقد أصحاب الرسالة الإعلامية أن الشعب سيتعاطف مع الحكومة التي تعرض عليه حلفا ضد النخبة المتسببة في تدهور الحال، وفي سبيل التوصل إلى هذا الحلف هم مستعدون لتقديم قرابين من “نخبة الحكومة” لتذبح أمام الشعب في قضايا فساد أو قضايا إهمال، على أمل أن ينهض من ناحيته ويقدم قرابين من نخبة المعارضة فيعلن رفضه لرموز . بعض هذه الرموز يبشر بحلول لمشكلات، وبعضها بوجوده على الساحة، يبرهن على أن في مصر بدائل في الأفراد المخلصين وفي التوجهات الوطنية .

لا تنكر نخبة الحكم أن الأخلاقيات والمعنويات العامة تدهورت إلى حدود مخيفة . يقولون إنها مسؤولية النخبة . يعرف أهل الحكم أنهم جزء من هذه النخبة جاءوا منها وسيعودون إليها، ومسؤوليتهم أكبر لأنهم هم المكلفون تجنيد المهارات المطلوبة للإدارة والحكم، هم المسؤولون عن توظيف مهارات النخب الأخرى ومواهبها وتأهيل نخب جديدة . ومع ذلك نسمع دائماً في الجلسات الخاصة والاجتماعات المغلقة مسؤولين سياسيين كباراً يصفون باستفاضة حال الانهيار في منظومة الأخلاق وتفشي الفساد وسوء الإدارة، ويجأرون بالشكوى من تدخل بعض أجهزة الأمن في حياتهم وحياة الناس وخصوصياتهم ودورها المتصاعد في شؤون الاقتصاد والتنظيمات الاجتماعية، بل ودورها المؤثر بشدة في عملية صنع السياسة الخارجية .

من ناحية أخرى، لا أستبعد أن يؤدي استحكام الحصار من ناحية والخوف من تدخل الأجانب، وبخاصة الأمريكيين، إلى تقديم موعد تسديد دفعة أخرى من التنازلات في السياسة الخارجية . ولن تكون المرة الأولى التي تستفيد فيها أطراف خارجية من أزمات الحكم في مصر . والمثال الأبرز في تاريخنا المعاصر هو “إسرائيل” التي كانت دائماً أول المستفيدين من هذه الأزمات . استفادت من أزمة الحكم التي خلفتها أحداث الانفصال واستمرت حتى أعتاب هزيمة ،1967 واستفادت من أزمة الحكم في أعقاب انتفاضة الفقراء في عقد السبعينات حين حظيت بزيارة القدس وما تلاها .

لا أحد، إلا كاره لشعب مصر أو غير مبال وغير معني، يريد أن تستمر الأسباب التي أوصلت مصر إلى حالها الراهن . لقد قامت معظم القوى السياسية المصرية على امتداد سنوات بعمليات نقد ذاتي في حدود ما سمحت به الظروف والضغوط، واشتغلت مراكز بحث ودراسات بفحص الحالة أو الحالات المصرية وتوصلت إلى خلاصات ونتائج، وإن أيضاً في حدود ما سمحت به الظروف والضغوط، ونصبت ندوات ومؤتمرات يتبادل فيها الكلمات ممثلون عن كافة أفرع النخبة المصرية، وخرجت بتوصيات ورغبات لإصلاح الحالة المصرية . وفي آخر الأمر تداولت نخبة الحكم واستقر الرأي فيها على النزول إلى الساحة بحملة إعلانية تتضمن وعوداً بالإصلاح انتهت بعدد من قرارات إصلاحية مرتفقة بقيود تمنع التغيير .

وبعد سنوات اكتشفت كل النخب أن حال مصر ليس أفضل مما كان عليه قبل حملة الإصلاح وقراراته، بل لعله ازداد سوءاً مما اضطر نخبة الحكم إلى معاودة النزول إلى الساحة . ولكن هذه المرة، بإجراءات ردع أشد وسياسات إعلامية تعكس توتراً شديداً وسياسات خارجية لا تعبر عن حقيقة الأوضاع الجيوستراتيجية في المنطقة ولا تعكس طموحات الأمة المصرية .

أملنا الوحيد للخروج من الأزمة الراهنة تدشين حوار وطني لا يستثني أحداً، وتضمن سلامته تعهدات صريحة وحازمة بالابتعاد عن الغوغائية واحترام كل الأفراد والأفكار .





acdfr@yahoo .com


"الخليج"

التعليقات