بعيداً عن التقطب والتجاذب الإعلامي واللغة الحادة نتيجة الأحداث المأساوية والمحزنة، يجب التساؤل الآن بعقل بارد ومن منظور وطني عام عن مآل "المشروع الوطني"، وما إذا كانت الأحداث الأخيرة قد وفرت فرصة جديدة لإعادة خلط الأوراق السياسية.
وقد يبان أنه من المفارقة الحديث عن "فرصة" نظراً لفداحة الحدث وتبعاته الداخلية والخارجية. لكن الاستغراق في الحدث هو ما يموه اللحظة الاستراتيجية ويعيق التقاطها إن كان في الإمكان البناء عليها.
والموضوع هنا لا يتعلق بفتح أو بحماس، وإنما ما إذا كان ما زال في حيز الممكن تحقيق حل الدولتين بالفهم الفلسطيني له، بعد فشل محادثات "كامب ديفيد" في تموز من العام 2000، وما زلنا عند هذه النقطة من ناحية سياسية وبعد سبعة أعوام.
وخلال الانتفاضة الثانية وقبل وفاة الرئيس عرفات بقليل، وبعد ذلك أيضاً، بان بوضوح أن تشرذم القرار الميداني والسياسي الفلسطيني أصبح تهديداً واقعاً لوحدة القرار ووحدة الجسم السياسي الفلسطيني. وسعى الرئيس أبو مازن سعياً حثيثاً في حينه للتغلب على هذا الوضع وإعادة اللحمة للنظام السياسي الفلسطيني. فكانت اتفاقية القاهرة في آذار من العام 2005، التي بدأت "بالتهدئة" ومهدت للانتخابات الرئاسية ثم النيابية في كانون الثاني من العام 2006.
وبعد تشكيل الحكومة ما بعد الانتخابات بدأ الحصار السياسي والاقتصادي على الفلسطينيين في الضفة والقطاع. وسعى الرئيس عباس إلى التغلب على هذا الوضع بمباحثات تفصيلية مع حماس، وتوافق الطرفان على الذهاب إلى اجتماع في مكة المكرمة، ومن ثم تشكلت حكومة "الوحدة الوطنية" وحضور القمة العربية.
كان هذا أيضاً مسعى لكسر الحصارين، خاصة أن التأكيد على المبادرة العربية في اجتماع جامعة الدول العربية شكل خطوة سياسية فُهم منها أن الحكومة الفلسطينية في حينه بقيادة اسماعيل هنية موافقة عليها، وضمن إطار "الاجتماع العربي"، بمعزل عن مواقف الأحزاب والفصائل والكتل النيابية المشاركة في الحكومة.
لكن رد الولايات المتحدة وإسرائيل كان الإصرار على الشروط المعروفة التي طُلب من الحكومة الموافقة عليها، ولم يتم استخلاص أية عبر من ما تلا محادثات كامب ديفيد وفوز حماس في الانتخابات النيابية.
ويجمع معظم المحللين على أن أسباب فوز حماس في الانتخابات النيابية مرده أمران: سوء الإدارة الداخلية، وعدم وجود تقدم سياسي مقنع للجمهور باتجاه "المشروع الوطني". فلو كان هناك نجاح ملحوظ في أي من المضمارين لما رغب الجمهور بالضرورة بالتغيير الكبير، هذا دون الانتقاص من وجود نواة مؤيدة "لحماس" بمعزل عن هذين السببين. ومن المعروف في كل الانتخابات الحرة في الدول المختلفة أن الفشل يدفع الجمهور إلى طلب التغيير.
لذا، آن الأوان لوقفة جادة قيادية ومسؤولة من قبل الرئيس أبو مازن خصيصاً لتغيير جدول أعمال إسرائيل والولايات المتحدة، وتقوية موقف الدول العربية التي أكدت على المبادرة العربية، ولكنها لم تتمكن من الضغط الكافي على الولايات المتحدة للتجاوب الجدي معها.
إن رفض الولايات المتحدة وإسرائيل الفعلي وليس اللفظي لحل الدولتين وانتهاجهما لأسلوب الضغط الخارجي الذي ينعكس داخلياً كأزمات طاحنة، يشكل سبباً رئيسياً لما حصل، وتحديداً في غياب أي مسار سياسي يؤدي الى حل الدولتين بالفهم الفلسطيني له.
إن الحديث الحالي عن "تقوية" الحكومة الجديدة ودفع الرواتب وتشديد الحصار على غزة هو استمرار في نفس النهج، إذ إنه يهمل الموضوع الأساسي وهو ما إذا كان حل الدولتين ما زال ممكناً أصلاً في غياب أي تقدم بهذا الاتجاه.
إن اللحظة الحالية تشكل مفترق طرق إن لم يجرِ الإمساك بها ستكون إضاعة للفرصة الأخيرة الممكنة لإنجاز "المشروع الوطني".
واستذكر هنا أن الرئيس أبو مازن طالب في أكثر من مرة بالذهاب مباشرة الى مفاوضات الحل النهائي، خشية من تكرار تجربة مسار أوسلو. فهذا المسار لم يحدد "خط النهاية" إذ ترك "قضايا الحل النهائي" كما سميت في حينه للتفاوض لاحقاً ضمن موازين قوى سياسية وميدانية في صالح إسرائيل، واستذكر أيضاً أن الرئيس أبو مازن رفض أيضاً "الدولة ذات الحدود المؤقتة" لأنها تشكل إعادة انتاج لمسار أوسلو، في غياب اتفاق ملزم على خط النهاية، أي الحدود، والسيادة، والقدس، وحق العودة.
لقد آن الأوان لوقفة جادة ومسؤولة وقيادية قد تستلزم وضع "كل شيء" على المحك، بما في ذلك استمرار السلطة الفلسطينية نفسها.
إن غياب مسار سياسي جدي ومقنع للجمهور الفلسطيني واستمرار الاحتلال والمعازل داخل الجدار سيبقي الأزمات الداخلية مستعرة، حتى وإن تفاوتت وتيرتها بين الحين والآخر، وسيبقى شعار المقاومة مرفوعاً بوجود الاحتلال وغياب الحل العادل المقنع للجمهور، بمعزل عن من يرفعه الآن أو من سيرفعه في المستقبل. وسيستمر تصدير المواقف الخارجية إلى أزمات داخلية حتى وإن تعددت تلك الأطراف.
إن فلسطين أصغر من أن تترك وحدها بموقعها الاستراتيجي وقضيتها. واستمرار الاحتلال يشكل دعوة مفتوحة للإمساك "بالورقة الفلسطينية"، وتلاقي المصالح. لكن السؤال هنا يتعلق بالمصلحة الوطنية الفلسطينية ومن يمثلها وكيف يمثلها. وإذا كان "المشروع الوطني" هو هذه المصلحة، آن الأوان لوضعه على جدول أعمال كافة الدول.
إن الاستغراق في اللحظة مهما كانت قاسية ومؤلمة للفلسطينيين ومسيئة للقضية، ومستدعية لشماتة "الأصدقاء" والأعداء، والتركيز فقط على "إدارة الأزمة" من منظور ضيق، يخرج الأمر الأساسي من أفق النظر وإطار التفكير.
فإما "المشروع الوطني" الذي يعيد الأمل واللحمة الداخلية، أو استمرار الاحتلال والعودة الى التشرذم الداخلي وتفتت القرار السياسي والميداني وضياع "القضية".
التعليقات