31/10/2010 - 11:02

وقفة أمام المقالة الأخيرة للمفكر الأمريكي فوكوياما/ حمدان حمدان*

وقفة أمام المقالة الأخيرة للمفكر الأمريكي فوكوياما/ حمدان حمدان*
تزودنا المقالة الهامة الاخيرة للمفكر الامريكي المعروف فرنسيس فوكوياما، بعنوان ما بعد المحافظية الجديدة والمنشورة في مجلة نيويورك تايمز ماغازين شباط (فبراير) 2006 بشريط طويل وتاريخي، عن الموروث الفكري لجماعات المحافظين الجدد، حيث انبثقت الجذور من مجموعة استثنائية من المثقفين (وشريحة واسعة منهم من اليهود الذين مروا بالسيتي كوليج اوف نيويورك من منتصف واواخر الثلاثينات من القرن الماضي) ويذكر منهم ايرفين كريستول ودانييل بيل وايرفنغ هو وناثان غلازير.. وكان يتلخص الارث الاكبر لهذه المجموعة، بمعتقد مثالي يذهب الى تحقيق تقدم عالمي اجتماعي، والدفاع عن حقوق الانسان، مقرونة بمعاداة (تروتسكية) للشمولية الستالينية المطلقة الى درجة الوحشية.

وقد مثل المحافظون الجدد في بكورة نشأتهم، تيارا يساريا معاديا للشيوعية الدولية، ومناصرا للاهداف الاجتماعية كما تفهمها التروتسكية الماركسية، ثم ما لبثت ان انكفأت تحت وطأة فظاعة النتائج غير المقصودة، لانظمة تتحدث عن فرض العدالة الاجتماعية بقسوة امنية لا حدود لطغيانها، ثم توصلت المجموعة عبر صحيفتها آنذاك، (ذا بابلك انترست 1965) الى ان الهندسة الاجتماعية المفروضة من قبل الشيوعيين، غالبا ما تركت المجتمعات في حال اسوأ بكثير مما كانت عليه قبلها.

ومن جديد، فان النتائج التطبيقية لنظام ستاليني شائع، يعطي الدفعة بجدارة النظر في تأويل سقوط الماركسية الشيوعية، وفيما اذا سقطت الشيوعية ام الشيوعيون، الذين باتوا، مع ذلك، يتسربون الى الحياة السياسية من جديد، وان العدالة مطلب انساني منذ فجر التاريخ سواء كانت افلاطونية ام ماركسية.. وعلى التوازي، ومن خلال فظاعات النتائج المدمرة، لنظام كلياني مطلق، يدعي العدالة ثم آل الى السقوط، فقد اغلق التاريخ، على نهاية سعيدة، فهمناها كتوق عالمي جارف نحو الحرية، مما سيؤدي حتما الى شيوع ديمقراطية ـ ليبرالية حيث الحركة العالمية تتزايد سرعتها لصالح هذه الديمقراطية..

ويصحح صاحب الفكرة (فوكوياما نفسه) هذا الفهم المغلوط الناجم عن التباس (ربما متعمد من المحافظين انفسهم) في قراءة كتابه المعنون (نهاية التاريخ) فهو كما يؤكد ليس دعاية سياسية للمحافظين الجدد، رغم انني كنت تلميذا لاحد عمالقتهم آلان بولم، الذي هو تلميذ بدوره لشيخ المحافظين الجدد ليفي شتراوس لكن كتابي يشكل قراءة مطلوبة بخصوص الحداثة، فما هو عالمي بالاساس ليس الرغبة العالمية بالديمقراطية التي يتوجب على التاريخ ان ينغلق عليها، وانما الرغبة في العيش في مجتمع محدث، اي متقدم تكنولوجيا ومزدهر، وهو ما يميل الى تحفيز مطالب المشاركة السياسية ويضيف ان الديمقراطية ـ الليبرالية هي احدى النتائج الثانوية لعملية التحديث في سياق تقدمها التاريخي.

المحافظون الجدد، فهموا تاريخ فوكوياما، على انه انغلاق التاريخ على آخر الانظمة (الايديولوجية) في مسيرة الانسانية، الا وهو نظام الرأسمالية الليبرالية الغربية، وربما بالاخص شكل النظام السياسي في امريكا، ذات القوة الاحادية في العالم، ومن هنا، جاءت النظرة الاحادية للديمقراطية (كسبب جوهري لاندلاع الارهاب في جزء حساس من هذا العالم) ففقدان الديمقراطية، هو المسبب للخراب والارهاب، وقد استنبت المحافظون الجدد، فكرة غريبة تتمحور حول مقولة (الهيمنة الخيرة) بغرض جلب الديمقراطية الى الآخر، وهي ثقافة تسليع قائمة على مفهوم التجارة الامريكية. وقد كتب بارزون مثقفون من امثال الكتاب تشارلز كروتامر، وروبرت كاغان، ووليم كريستول.. آيات من البينات والمقالات، وكلها تجول في ممارسة قوة طيبة (اي انها تطلق النار بقفاز من حرير)، على الانظمة الشمولية مع شعوبها، ولأن العديد من اجيال الحروب في اوروبا، ما زالوا على قيد الحياة، فقد استدارت الوجهة الامريكية نحو ذرائعيات اشد بؤسا من الحرب الاخيرة في احتلال العراق، ولا يمانع الرئيس بوش من الانتقال من مرتبة النبوة، الى مرتبة الفلسفة، حين يؤدلج لتماه الى درجة الاتحاد العنصري، بين ما هي مبادىء وولسونية ومصالح كيسنجرية في عالم الداخل الامريكي اليوم، اي ان المصالح لا تخرج من فوهة مدفع، بل من وصايا كنيسة مباركة، وعليه فان المصالح والمبادىء، متحدان جمعيان، كفطيرة تفاح امريكية باركتها تلاوة من العهد القديم (بأورغ القس روبرتسون) حامل الوحي من الاب الاعلى.

على الارض فقد استسهل المحافظون الجدد ارساء الديمقراطية من نبوءة الهيمنة الخيرة على العراق (وقبله افغانستان) وبأقل الآلام، من خلال استنتاج مثقل بالاخطاء الميكانيكية، فقد عارضوا سهولة سقوط الاتحاد السوفييتي، القوة القطبية الموازية آنذاك، بهشاشة النظم الديكتاتورية من داخلها، واتخذوا مثلا بسقوط نظام تشاوشيسكو السهل في رومانيا، ثم ما عتموا ان عمموا التجربة ابتداء من المربع الاول، او ما سمي بفلسفة التدمير الخلاق، وفي المخيال الامريكي فان ما نجح في روسيا واوروبا الشرقية.. يمكنه ان ينجح في الشرق الاوسط الكبير، وقد رسمت هذه المخيلة، خطا استقطابيا حادا (خاصة بعد احداث ايلول) بين معسكرين على شكل حرب عالمية ثالثة تتمثل في قوى الخير وقوى الشر، الاولى مع الديمقراطية والثانية لصالح الارهاب، اما السببية العميقة والجوهرية لدوافع الصراع، بغض النظر عن توصيف المحاور، فانها ما زالت غائبة عن التفكير السياسي الامريكي بصورة عامة، فالارهاب حتى وفق المقولة الفوكويامية الجديدة، ما زال حدثا هابطا من فراغ الاسباب، فهو يدعو مثلا الى تجريد الحرب العالمية على الارهاب من طابعها العسكري والانتقال الى نوع آخر من ادوات السياسة دون ذكر لتاريخ استعماري بالقرون واستيطاني اسرائيلي بالعقود، اما ما حدث في افغانستان والعراق، فهي استطالة سببية اضافية لانتشار العنف او ما تسميه الادارة بالارهاب.

وتقع نصائح فوكوياما، وحتى نقده الشديد للسياسات الخارجية الامريكية في خانة الحرص على سلامة الولايات المتحدة، وليس نظرة العدالة لصالح الشعوب المقهورة من قبلها، فهو ينصح بان الصراع ضد الارهاب، لا يحتاج الى تجريد حملات عسكرية تخوض حروبا ضد جبهات شبحية، لا مكان لها او زمان، بل (بمنافسة سياسية على قلوب المسلمين العاديين وقلوبهم).

اما الاحداث الاخيرة التي انطلقت من الدنمارك فهي مؤشر مشؤوم، سيضع اوروبا في ساحة قتال مركزية لا نهاية لدمائها حسب قوله. ويحاذر فوكوياما من ان العراق حتى اليوم، مكان افغانستان كمغناطيس وارض للتدريب بقاعدة جهاد المجاهدين والارهابيين بوجود الكثير من الاهداف الامريكية لاطلاق النار عليها.. لكن فوكوياما لا يتحدث عن مئة الف عراقي وعراقية، قتلوا منذ غزو العراق وحتى اليوم، ويتحدث عن فرصة لخلق ديمقراطية عراقية يهيمن عليها الشيعة فيما لا يسعفنا الفهم بإقران ديمقراطية مع هيمنة شيعية! ولا يشرح لنا، كيف ان الشعب العراقي حقق فوائد واضحة من اسقاط ديكتاتورية صدام وفيما اذا كانت (الفوائد الواضحة) هي في الفوضى والقتل على الغارب، ام هي في الثمانين بالمئة من اليد العاطلة عن العمل، ام هي في فقدان الماء والكهرباء واغلاق الابواب مع المغيب، او قراءة الفاتحة على النفس الحية التي يمكن لها ان تموت بعد دقائق من الخروج من المنزل، او لعلها تموت مع اسرتها داخل المنزل نفسه، فيما جميع الجرائم تسجل ضد مجهول.

لقد زودتنا مقالة فوكوياما الجديدة، بما يقع في جوهر المحاكمات المنطقية الغريبة للمحافظية الامريكية الحاكمة اليوم، فهي تستغرب انه حتى مع الهجوم الديمقراطي الاوسع، فقد قامت جماعة الاخوان المسلمين بعرض قوي في الانتخابات المصرية الاخيرة، وان المد الاسلامي المتطرف، رفع رئيسا لايران، وان صعود الكتلة الشيعية في العراق، كان العنوان الابرز، لنتائج ديمقراطية متخيلة في العراق، وان الطامة الكبرى كانت في نجاح الاصولية الفلسطينية المتمثلة في منظمة حماس، التي هدفها بحسب التنظير الاعلامي اليهودي ـ الامريكي المتفوق، هو تدمير اسرائيل وليس تحرير فلسطين.

وفي جميع الاحوال، فان السؤال يبقى قائما اذ ما العمل مع ديمقراطية مفترضة، لكنها جلبت اعداءها الى حياضها؟! واين كان الخلل؟! ويستدرك فوكوياما، في قراءة حديثة لكتابه العالمي، نهاية التاريخ ، بأن المطلوب العالمي، حسب وجهة الكتاب، لم يكن هو الديمقراطية الليبرالية بل تهيئة الارضية لدخول الشعوب في الحداثة، والديمقراطية بدورها هي ناتج هذه الحداثة، وليست بالضرورة سببا لها، وقد عبرنا عن هذه الفكرة في كتابنا العراق وثمن الخروج من النفق، وتدور الفكرة الرئيسية فيه، حول الحداثة، اي الدخول في العصر، من حيث هو مبتدأ النهضة بصفتها صراعا ضد الافكار والبنيات التحتية المتخلفة، وقد صادف في التاريخ، ان بدايات القرع على ابواب الحداثة، انما جرى وفق نموذجين لجهة طبيعة النظام السياسي، فالنموذج الغربي كان معروفا من حيث انطلاقاته المديدة، في التحويلات الثورية، للافكار واساليب الانتاج ونهوض المؤسسات والمجتمعات المدنية والثورات الاجتماعية والفكرية.

اما النموذج الثاني، فقد ابتدأ من عل، اي من الدولة ذاتها، وهو ما يطلق عليه تجاوزا بالنموذج الآسيوي، فالحداثة في اليابان بدأت من الاصلاحي الاول، الامبراطور مايجي، ولولا اطماع القرن الاستعماري (فرنسا + بريطانيا) في المنطقة لكانت تجربة النهضة الحداثوية في مصر، قد نجحت على يد محمد علي باشا، كذلك الاحوال نفسها بتفاوت الظروف والشروط والازمنة.. وطبيعة العامل الخارجي (امريكا + اسرائيل) بهجماته المباشرة لتحطيم الحلم التاريخي في الخروج الي العصر، واسقاط دولتي المشروع في مصر عبد الناصر وعراق صدام حسين، لقد سبق لصموئيل هانغنتون صاحب صراع الحضارات والمنافس القوي لفوكوياما، ان اعتبر في العام 1968 (كان شابا انذاك) بأن النموذج التصديري للديمقراطية الامريكية، يكون احيانا اشبه بزراعة النخيل في الاسكا، وعزا ان الاخفاق الامريكي قد لا يعود الى العقلية اليمينية الامريكية بصورة عامة، بل والادق الى الاستهتار الامريكي بأشكال التطور السياسي تاريخيا، ويضيف في اطروحته من التغيير الى التغيير في العام المذكور اعلاه (1968) تاريخيا فان الامريكيين استمتعوا بثمار الديمقراطية من دون ان يعانوا عذابات الوصول اليها.. فأمريكا ولدت بحكومة ومؤسسات وولايات بفعل جهود آبائهم البريطانيين منذ القرن السابع عشر . فالتحرك نحو الديمقراطية، يعني جملة الجهود التي تؤدي الى نجاحها، ولا شك ان الحداثة هي العتبة الاولى لبلوغ الهدف على الطريق الطويل، فالمشكلة المتميزة تحليليا ذات الصلة بالامر، انما تتصل ببنية الموقع الذي نتكلم منه، فمن علامات الديمقراطية بمعنى الحداثة السياسية وعقلنة النظام، انها تقتضي رفع منسوب الوعي المجتمعي، وهذا بدوره يتطلب استبدال عدد كبير من السلطات التقليدية والمذهبية والعرقية والعائلية.. ويتدرج مع ذلك بالتزامن مع جهد المسار نحو تنمية اقتصادية مواتية، تقاس بمستوى نصيب الفرد من الناتج الوطني، ومستوى التقدم في التصنيع، والتعليم والصحة والمتاح من المستشفيات والاطباء والمدارس والجامعات.. وسائر الخدمات الحياتية الاخرى.. وكلها مجهودات ذاتية وليست خارجية.

ويضيف هانغنتون بان عملية الحداثة بغاية الدمقرطة انما هي الجسر الفاصل بين مجتمعين الاول ما زال يحبو مع التاريخ البدائي للانسان، والثاني في حالة صراع مع الفضاء.

والسؤال، كيف يمكن لنخبة ذات كعب في الثقافة الامريكية العالية، ان تفوتها بدهيات التطور السياسي في تاريخ الشعوب، ام انها حقائق المصالح التي لا يساوي معها تاريخ الشعوب، بأكثر من رشفة براندي الى جانب موقدة حطبية؟! ننتظر مكر التاريخ بحق الامبراطورية الجديدة في هذا العالم.



* كاتب من فلسطين يقيم في سورية

التعليقات