20/09/2018 - 11:57

المؤمنون بشعب الله المختار أكثر من المؤمنين بإلهه!

وقد ميّزت تلك المفارقة، كما نعرف، منذ البدايات، الحركة الصهيونية كحركة علمانية استندت إلى مقولات غيبية توراتية لتسويق فكرتها الاستعمارية في دفع اليهود للهجرة والاستيطان في أرض فلسطين خدمة لمشروعها الكولونيالي.

المؤمنون بشعب الله المختار أكثر من المؤمنين بإلهه!

من المفارقات الغريبة التي أظهرها استطلاع أجرته صحيفة "هآرتس"، مؤخرًا، أنّ نسبة اليهود الذين يؤمنون بأن اليهود هم شعب الله المختار (56 في المئة) هي أكبر من نسبة اليهود الذين يؤمنون بوجود الله أصلا (54 في المئة)، هذا الاستغراب يتبدّد عندما نعرف أن سؤال "شعب الله المختار" يُستتبع، منطقيًا ووفق استطلاع "هآرتس" أيضًا، بوعد الله لشعبه المختار بـ"أرض إسرائيل"، حيث أجاب 51 في المئة المستطلعين بأن حق اليهود في فلسطين مصدره الوعد الألهي المذكور.

وقد ميّزت تلك المفارقة، كما نعرف، منذ البدايات، الحركة الصهيونية كحركة علمانية استندت إلى مقولات غيبية توراتية لتسويق فكرتها الاستعمارية في دفع اليهود للهجرة والاستيطان في أرض فلسطين، خدمة لمشروعها الكولونيالي. ولم يجد قادة هذه الحركة ودعاتها الذين كانوا يبعدون عن الدين سنوات ضوئية، غضاضة في توظيف التراث الديني اليهودي ومقولاته ذات الصلة في خدمة هذه الأهداف.

ومع الوقت، حوّلت غايات الاستخدام هذه المقولات، من مقولات توراتية إلى مقولات سياسية أيديولوجية يُوظف الله نفسه فيها لخدمة المشروع الكولونيالي، وهذا ما يظهر جليا ليس بفارق الـ2 في المئة الذين يؤمنون بشعب الله المختار ولا يؤمنون بإلهه فقط، بل في النسبة العالية (44 في المئة) للمؤمنين بنظرية "النشوء والارتقاء" الداورينية مقابل من لا يؤمنون بها (44 في المئة مقابل 37 في المئة).

تلك النتائج تعزز الاعتقاد بأنّ ارتفاع نسبة المؤمنين بالله بين اليهود، لأول وهلة، ليس مرده تفاقم ظاهرة "الصهيونية الدينية" وتعاظم شأن ونفوذ التيار الديني الاستيطاني في المجتمع والمؤسسة الإسرائيليين، على أهميتهما، فقط، بل تعود إلى تلازم سؤال الإيمان بالله مع سؤال الوعد الإلهي بالمشتق منه، فكيف يمكن أن ينكر المستطلع وجود الله ويؤمن بأنه وعد اليهود بأرض إسرائيل؟

وإن كان 2 في المئة من المستفتين قد وقعوا فعلا في هذا المطب، فإن السؤال المتعلق بنظرية داروين قد كشف حقيقة التستر بالدين لتوظيف المقولات التوراتية في تبرير غزو أراضي الغير، وإلا كيف يمكن لليهودي الذي يؤمن بوجود الله وبقصة خلق الإنسان على صورته، أن يؤمن بنظرية داروين التي تقول إنّ الإنسان هو نسخة مطورة من إحدى فصائل القردة.

محاولة بائسة قام بها الوزير "اليساري" الأسبق، يوسي بيلين، لتفكيك هذا التلازم في مقال نشرته "يسرائيل هيوم" تحت عنوان "اتركوا الله - هذا ليس سؤالا للاستطلاعات". بيلين تجاهل عمدًا ارتباط سؤالي "شعب الله المختار" و"وعد الله لليهود بأرض إسرائيل" بسؤال الإيمان أو عدم الإيمان بالله، وتجاهل كذلك نتائج الأسئلة الفرعية المنبثقة عنهما والتي أظهرت أن51 في المئة من بين المؤمنين بالله عرّفوا أنفسهم بأنهم من أنصار اليمين، مقابل 34 في المئة عرّفوا أنفسهم بأنهم في الوسط، و15 في المئة قالوا إنهم يساريون.بالمقابل، فإنّ 78 في المئة من الذين يؤمنون بالوعد الإلهي صنفوا أنفسهم في معسكر اليمين مقابل 8 في المئة فقط في اليسار.

النتائج المذكورة، وإن كانت تشير بوضوح إلى أن سؤال الإيمان بالله أو عدمه ليس سؤالًا فلسفيًا مجردًا، كما يفسره بيلين وإنّما هو تدين سياسي يصب في مستنقع اليمين الصهيوني الاستيطاني، فإنه يشير، أيضًا، إلى تحول المقولات التوراتية سالفة الذكر إلى مقولات أيديلوجية سياسية، استعملتها الصهيونية العلمانية بمعزل عن الدين، وتعمل الصهيونية الدينية على إعادتها إلى أصولها في سياق منظومة دينية أيديلوجية متكاملة.

ويذهب العديد من الباحثين في الشأن الإسرائيلى إلى الاعتقاد بأن المجتمع الإسرائيلي يمر بعمليتين مجدولتين ببعضهما جيدًا، هما تديين المجتمع وصهينة الدين، حيث تتمثل الأولى باتساع ظاهرة التدين في الحيز الاجتماعي، بمعنى تعزيز نفوذ تيار الصهيونية الدينية من جهة وتعاظم التطرف الديني داخلها من جهة أخرى، والثاني، يتمثل في صهينة "الحريديم" الذين كانوا حتى قبل وقت قصير لا يعترفون برموز الدولة وهياكلها، ليصبحوا أكثر تسييسا وتطرفا ويمينية.

وبالتقاء هاتين العمليتين وتفاعلهما يتبلور في المساحة المشتركة بين التطرف الديني وبين التطرف القومي الصهيوني التيار الذي يسمى بـ"الحريديم القوميين"، وبالعبرية "الحردليم"، وهو التيار الاستيطاني الديني الأكثر تشددًا والذي تتفرع منه العديد من الحركات المتطرفة وحتى الإرهابية مثل شبيبة التلال ومجموعات "تدفيع الثمن".

التعليقات