02/02/2019 - 08:42

العمل الحزبي المفقود

لا يمكن لنا أن نتصور انهيار العمل الحزبي السياسي كليا، وما يمكن له أن ينشأ مكانه من شعوبيّة وانتهازية وأسرلة وتديّن غيبي ومزيد من مظاهر العنف والجريمة.

العمل الحزبي المفقود

شهدت السنوات الأخيرة الماضية تراجعًا في دور الأحزاب السياسيّة وتراجعًا بمكانة العمل الحزبي وقيمته المرجوّة في المجتمع الفلسطيني في الداخل. لطالما مثّلت الأحزاب والحركات السياسيّة المكان الذي عبّر عن التطلعات السياسيّة للفلسطينيين في الداخل بمشاربهم الفكريّة المختلفة، ولطالما كان العمل الحزبي أداة التعبئة والتثقيف والحفاظ على الهويّة والتنظيم والمواجهة في عدّة محطات تاريخيّة، في ظل عدم وجود أي جسم وطني وحدوي لفلسطينيي الداخل، يُمثل مشروعًا سياسيًا جامعًا ضمن الواقع السياسي المركّب الذي يعيشونه في كونهم جزء من الشعب الفلسطيني المنكوب، وفي الوقت ذاته هم مواطنون في دولة استعمارية استيطانيّة صهيونيّة.

الإطار الوحدوي الأعلى الذي يجمع هذه الحركات السياسيّة هي لجنة المتابعة، إلّا أنها لجنة تنسيقيّة بين الأحزاب وليست إطارا شعبيا منظّما يُنتج كوادرًا أو تعبئة أو حالة تنظيميّة. مع إقامة القائمة المشتركة قبل سنوات، عُلقّت الآمال عليها لتكون إطارًا سياسيًا وحدويًا يُمثل حالة وطنيّة شعبيّة يجمع الحركات السياسيّة التي تخوض انتخابات الكنيست. إلّا أن المشتركة لم تنجح في أن تمثّل هذه الحالة، وأثبتت أنها كانت تحالفًا انتخابيًا، شابه العديد من الخلافات الداخليّة ومن دون وجود أي مرجعيّات خارج البرلمان، تضبط عمل المشتركة وتدفع في مأسستها كحالة سياسيّة منسجمة تعبّر عن مشروع سياسي، تحديدا بعد "قانون القوميّة" الذي اكتفت المشتركة بالرد عليه من خلال مظاهرة في تل أبيب وجولات التدويل.

ومن المخرجات السلبيّة لإقامة القائمة المشتركة (هناك مخرجات إيجابية لها أهميتها)، أنّها حوّلت العمل السياسي الحزبي إلى عمل سياسي برلماني، وهمّشت العمل السياسي خارج البرلمان. وليست الحالة النشطة داخل الأحزاب هذه الأيّام قبيل انتخابات الكنيست القادمة إلا دليلًا على ارتباط العمل الحزبي بالانتخابات للكنيست.

لا بد من الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية التقليدية حول العالم هي أيضًا في تراجع لأسباب عدّة، أبرزها صعود الشعوبيّة، وللحالة العربيّة المترديّة بعد الثورات المضادة والحروب الأهليّة انعكاس على الداخل الفلسطيني والأجواء العامّة، وللحالة الفلسطينيّة المنقسمة سياسيًا وجغرافيًا وغياب المشروع الوطني، وهي أسباب إضافية تؤثر في استعداد الناس للعمل السياسي والانضمام للأحزاب. وفي حالة الفلسطينيين في أراضي الـ48، تلعب الملاحقة السياسيّة دورًا مركزيًا في العديد من الحالات في تخويف الناس من العمل داخل الأحزاب.

العقد الأخير كان حاسمًا في تحوّلاته على صعيد العمل الحزبي وتراجعه. التطورات في وسائل التواصل والإعلام غيرت من شكل العالم، وانعكاس ذلك في العمل الحزبي شهدناه في موت المنشور السياسي، وإغلاق النادي الحزبي، وتراجع الإعلام الحزبي إلى الخلف. هذا الكلام ليس للنوستالجيا على زمن يمضي من أمام أعيننا، فأدوات التعبئة تغيّرت، والأحزاب لم تنجح في فهم هذه التحولات واستخدامها في صالح مشروعها السياسي (ربما في وقت الحملات الانتخابية فقط)، ولم تدرك أنه في عدم فهمها للتغيير الحاصل تأثير مباشر عليها.

ناهيك عن كل ذلك، لا يمكننا إغفال أمرين مركزيين في تراجع العمل الحزبي لا علاقة لهما بالعوامل السياسيّة الخارجيّة: أولًا؛ تكلس المبنى التنظيمي للحزب وجموده وعدم قدرته على استيعاب أساليب حديثة للتنظيم الداخلي، وعدم قدرته على الانفتاح على شرائح جديدة ربما لأن بعضًا مما يهيمن على القرار الحزبي قد يشعر بتهديد على مكانته الداخلية في حال ضخ دماء جديدة، تغيّر من حالة الركود التي اعتاد عليها وباتت تشكل بالنسبة له أمانًا حزبيًا في البقاء. هذه الكتل المهيمنة داخل الأحزاب التي تخشى التغيير هي أحد أسباب عدم تطور الأحزاب ونفور نشطاء وكوادر من العمل الحزبي.

ثانيًا، الخلافات والصراعات الداخليّة، التي لا تقل أهميّة ووزنًا عن كل الأسباب السياسية والإقليميّة الخارجية التي ذُكرت آنفًا في تراجع العمل الحزبي. جزء كبير من هذه الخلافات هي صراعات على من سيكون الكتلة المهيمنة داخل الحزب. ليس معيبا أن تتشكل تكتلات داخل الأحزاب، هذا يحصل في كل مكان. لكن السؤال هل هي تكتلات على برامج ورؤى فكريّة أم على مصالح وحسابات شخصيّة تكرّس زعامات. عادة يكون الجيل الشاب خارج معادلة صراعات الكبار في الأحزاب، كونهم يمثلون حالة حالمة وثورية، لكن حتى الشباب غير محصنين من هذه الصراعات، وقد تنتقل عدوى الصراعات الداخلية والشخصية والأنا المنتفخة إلى ذلك الجيل، ويعيدون مشهدًا داخل الحزب بدأه الكبار قبلهم.

لكن أمام كل هذا المشهد وتعقيداته لا يمكن التنازل عن العمل الحزبي بالذات في حالتنا كفلسطينيين في الداخل، حيث لا مؤسسات وطنيّة جامعة لنا. ومهما بدت الأحزاب مكانًا غير جذّاب للعمل السياسي للكثيرين، لا يجوز التنازل عن هذه الأطر مع كل الشوائب التي تشوبها. بات إصلاح الأحزاب السياسيّة داخليًا حاجة ملحّة وضرورية للحفاظ على أنفسنا كجماعة قومية لها مطالب ومشروعًا سياسيًا. وتقع مسؤولية على الحريصين على شكل مجتمعنا والمثقفين والكوادر التي ابتعدت عن العمل السياسي في هذه المهمة.

سوف يعود الناس للأحزاب فيما لو قدّمت الأحزاب نموذجًا أفضل مما هي عليها اليوم. وهذا يتطلب مراجعة نقديّة شاملة، بالإضافة إلى مبادرات عمل وإصلاح لا تنتظر توجيهًا من أحد. بإمكان الأحزاب أن تبني في داخلها خلايا عمل متعددة جديدة إلى جانب هيئاتها التقليدية المتمثلة في اللجنة المركزية والحركة الطلابية والشباب والمرأة. هناك حاجة لمبادرات عمل تستهدف الشكل التنظيمي الحزبي والإنتاج الثقافي الحزبي بمفهومه الواسع. ومهما بدت المرحلة حاليًا رديئة وغير مشجعة على العمل، لا يمكن لنا أن نتصور انهيار العمل الحزبي السياسي كليا، وما يمكن له أن ينشأ مكانه من شعوبيّة وانتهازية وأسرلة وتديّن غيبي ومزيد من مظاهر العنف والجريمة.

التعليقات