15/02/2019 - 16:40

المثقف والفعل السياسي

وفِي لحظةٍ ما، تجمّعت جموع هؤلاء، على اختلاف توجهاتهم الأيدلوجية والفكرية، وشيّدوا بنيانًا وطنيا تحرريا، تحول إلى عنوان جامع لشعب تشتت في الأرض بعد الانتصار الصهيوني والإمبريالي الغربي عام 1948، هو منظمة التحرير الفلسطينية.

المثقف والفعل السياسي

يعوّل العديد من الباحثين والمثقفين الفلسطينيين على دور الحقل الثقافي في النهوض بواقعنا، وعلى قدرته في صدّ الهجوم الضاري على المشروع الوطني، من عدة جهات، وهي كالتالي: إستراتيجيّة الكيان الإسرائيلي المتمثّلة في كيّ الوعي، التخريب الثقافي والسياسي المستمر، الذي تمارسه مدرسة أوسلو، الانقسام الفلسطيني الكارثي المتواصل، التطبيع السافر والتنسيق الأمني العلني بين أنظمة خليجية وغير خليجية، والكيان الصهيوني، وأخيرًا تغوّل أنظمة الطغيان بعد انتصار الثورة المضادة. لكل جبهة من هذه الجبهات منابرها، ومروجوها، من مثقفين وإعلاميين وسياسيين، وهي جبهات مدعومة ومسنودة بالمال، وبالأمن. هدفها تسريع عملية قلب الرواية الجمعية وتقويض مضامينها، بحيث تصاغ بشكل يخدم ويرسخ تجمع المصالح، مصالح الاصطفاف الواعي وغير الواعي، الصهيوني والإمبريالي والرجعي والاستبدادي.

فهل يستطيع الحقل الثقافي، الذي ينخرط فيه مقاومون لهذا الخراب، من مثقفين وأكاديميين وإعلاميين وفنانين وطلائع الأجيال الشابة، الانتقال بالفعل الثقافي إلى فعل سياسي منظم، وهل هنالك من يفكّر ويجتهد من بين هؤلاء المقاومين، على هذا النحو، أم يكتفون بالإنتاج الثقافي، معتقدين بالتطور الموضوعي في هذا الاتجاه، أأي أن العامل التراكمي للفعل الثقافي سينتج بالضرورة فعلا سياسيا ثوريا في لحظة ما. قد يقول قائل ليست مهمة المثقف أو الأكاديمي أو الإعلامي أو الأديب أو الشاعر أو الفنان أو السينمائي، بناء الأطر السياسية أو الوطنية الجامعة المنظمة. لكن ما العمل عندما تصل أزمة النخب السياسية إلى أقصاها، وهي أزمة تتمثل بالهزيمة والاستسلام عند جزء كبير منها، من جهة، ومن جهة أخرى في الجمود والتكيف مع الوضع القائم، عند جزء آخر، المحسوب على اليسار المنظم، ألا يتطلب الواقع الراهن، نقلة في التفكير، على الأقل العمل على خلق جامع ثقافي وطني بين جميع المقاومين أو العاملين في الحقل الثقافي!

يثلج الصدر أن ردّ الفعل الثقافي المحدود، الذي بدأ ضد أوسلو على الساحة الفلسطينية عمومًا، وظل مُغيبا عن المشهد الإعلامي لسنوات طويلة، تسارع واتسع في الأعوام الأخيرة في أشكال مختلفة وأضحى ظاهرًا ولافتًا. على المستوى السياسي، كان ظهور التجمع الوطني الديمقراطي (الذي انطلق من تحالف حركات وشخصيات وطنية، داخل الخط الأخضر) ردًا على توجهات أوسلو التصفوية، أبرز رد ثقافي وسياسي منظم على هذا الاتفاق الكارثي. ولا شكّ، أيضًا، أنّ معارضة حركة حماس العسكرية، المؤثرة، ضد توجهات أوسلو التصفوية والتطبيقية مع المستعمر، كانت ذات تأثير ثقافي في الوعي العام بحقيقة الصراع. غير أن الحركة ما لبثت أن اندمجت ضمن الواقع الذي أفرزه هذا الاتفاق، وخاضت الانتخابات التشريعية، ودخلت نظاما سياسيا كانت تناهضه وتعتبره مخلوقًا غير شرعي. وجاء الانقسام عام 2007، ومحاولة الجمع بين السلطة والمقاومة ليفاقم مأزقها، وإخفاقها في تقديم البديل السياسي والثقافي والوطني الجامع. ومع ترسخ ثقافة الهزيمة والاستسلام عبر سلطة أوسلو وما ترتّب عنها من تخريب للوعي العام، وتقويض أخلاقيات الفعل التحرري متمثلة في تطبيع مشين مع المستعمر، بحيث باتت شرعية السلطة مستمدة أساسًا من حماية المستعمر المتبادلة، من خلال التنسيق الأمني، تكتمل الكارثة التي يعيشها المشروع الوطني، والشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.

لقد سبقت نشوءَ حركة التحرر الوطني الفلسطينية المعاصرة، حركةٌ ثقافية فردية وجمعية، إذ ظهر الكتّاب والمثقفون والشعراء والأدباء، ورجال الدين، الذين تصدوا بالقلم والكلمة للمشروع الاستعماري الصهيوني منذ أن لاحت مقدماته. وبعضهم كتب ونظّر ضد البنى التقليدية، الساكنة، التي شكلت عقبة أمام الانتقال إلى فعل ثوري منظم وفاعل، ورسّخ الرواية الفلسطينية الجمعية، وأسّس لثقافة المقاومة وللوعي كشرط أساسي لممارسة المقاومة. وتطول قائمة أسماء هؤلاء المقاومين المثقفين الوطنيين والتقدميين. وجميعنا، غرفنا من أفكارهم الملهمة على التمرد والثورة ضد الواقع الاستعماري والاجتماعي التقليدي.

وفِي لحظةٍ ما، تجمّعت جموع هؤلاء، على اختلاف توجهاتهم الأيدلوجية والفكرية، وشيّدوا بنيانًا وطنيا تحرريا، تحول إلى عنوان جامع لشعب تشتت في الأرض بعد الانتصار الصهيوني والإمبريالي الغربي عام 1948، هو منظمة التحرير الفلسطينية.

اليوم، ومنذ سنوات طويلة، يعيش الشعب الفلسطيني، بدون مرجعية سياسية أو مركز ينظمه بل مرجعيات، متعددة، فاقدة للشرعية الثورية والانتخابية. إن منظمة التحرير الفلسطينية مفرغة من مضمونها، وتابعة لسلطة باتت منذ زمن طويل، جزءًا من نظام السيطرة الاستعماري على الضفة الغربية والقدس، لقد باءت جميع المحاولات لبناء تيار ثالث بالفشل، وتجري حاليًا محاولة جديدة، عبر تشكيل ما يسمى بالتجمع الديمقراطي، في الضفة وقطاع غزة، وهو إطار يجمع القوى اليسارية في الأساس. ويشكّك كثيرون بمستقبل هذا الإطار بسب تكوينه من فصائل فشلت في اجتراح رؤية فكرية متجددة، داخل أحزابها، وفِي تجديد قياداتها، بقيادات شابة واعية ومثقفة.

وفِي داخل الخط الأخضر، بالإضافة إلى فقدان المرجعية المعنوية الجامعة لشعب فلسطين أي منظمة التحرير الفلسطينية، فإن المرجعيات المحلية، خاصةً لجنة المتابعة العليا، والقائمة المشتركة (الانتخابية) التي تشكلت عام 2015، فقدت مكانتها وفاعليتها، واحترامها بين الناس، أولًا بسبب سيطرة الجمود وانعدام الرؤية لدى النخبة السياسية، وثانيًا، بسبب تفشّي الفردانية والنرجسية والاستعراضية، في خضمّ التنافس على مقاعد في برلمان نظام الأبارتهايد الاستعماري، وليست الأزمة متمثلة فقط في الاختراق الإسرائيلي للمشتركة، الظاهرة في هبوط خطابها، وفِي انشقاق طيبي، المدلل في الإعلام الصهيوني، بل، أيضًا، في عوامل أخرى، بنيويّة وفكرية تطال مركبات أخرى للهيئات التمثيلية المشتركة. ويعتبر هذا التدهور السياسي والوطني ضربة كبيرة لما بدا قبل سنوات قليلة مشروعا وحدويا يحمل بذور التطور، والانتقال إلى مرحلة سياسية مختلفة نوعيًا عما يجري في الصفة الغربية وقطاع غزة.

في مقابل ذلك، مقابل هذا الانهيار السياسي، وتفشّي حالة العبث، التي يقودها سياسيون مستفيدون من أجواء الإحباط والضعف العام، يتصدى مثقفون وأكاديميون وناشطون ميدانيون، شبابًا وكبارًا، لمهمة وقف التدهور، وإنهاض الحالة الثقافية المقاوِمة. وبالفعل، يشكل الإنتاج الثقافي بقيمه الحديثة التحررية الوطنية والإنسانية، كالديمقراطية والتعددية والمساواة والتضامن الداخلي والتماسك الأخلاقي، الجدار الأخير الذي يحمينا حاليا من التفتت الداخلي، ومن العدوان الخارجي علينا، ويؤسس لمرحلة تحوّله إلى فعل سياسي منظم.

وهنا يطرح التحدي أمام كل المشتغلين بالثقافة، وكل من نجا من الناشطين السياسيين، وخاصة طلائع الأكاديميين والمثقفين الشباب، والكبار، ألا وهو ألم يحن الوقت لإطلاق مبادرات سياسية جديدة في صلبها الثقافة التحررية الحديثة، تبدأ بإنتاج الثقافة والفكر الذي تنبني عليه القوة السياسية الجامعة والمؤثرة، قبل أن تمضي البنى السياسية الهشة، تنظيميًا وقيميًا وأخلاقيا في ممارستها التخريبية، بين الناس، وخاصة بين الأجيال الشابة.

إنّه لأمر محزن أن نجد أنفسنا، حاليًا، في مهمة حماية أنفسنا، وصون ثقافتنا ليس فقط من مخططات الصهيونية، ومخططات التطبيع الرجعي، أو من مدرسة أوسلو، بل، أيضًا، من ممارسات هذه الأحزاب والحركات السياسية وشخوصها.

لكن مواجهة هذا التحدي باتت واجبًا وطنيا وأخلاقيًا ملحًا.

التعليقات