01/03/2019 - 16:43

شعلة في الجزائر

وتواجه الانتفاضات هناك، ما واجهته الانتفاضات العربيّة في كلّ مكان؛ فالأنظمة وأبواقها تتحدّث عن مؤامرة خارجيّة لنزع الشرعيّة عنها، في حين تحاول أنظمة خارجيّة، ولا سيّما خليجيّة، التدخّل والتخريب، حتّى لا تصل الثورات إليها.

شعلة في الجزائر

من الصعب التحلّي بالأمل في هذه الأيّام العصيبة الّتي تمرّ بها الأمّة العربيّة، وقضيّة العرب الأولى؛ فالربيع العربيّ تحوّل إلى رماد، وملايين الشباب العربيّ باتت هائمة على وجوهها، تتناثر أشلاؤها في البحار، وأضحت أوروبّا ذات التاريخ الكولونياليّ المتوحّش، ملجأً لمن نجا وتمكّن من عبور البراري والبحار، ناهيك عن الّذين قضوا في القصف، والحروب، وفي السجون، أو الّذين يرزحون تحت التعذيب والتذويب، في أقبية سجون الاستبداد.

ولكن يتبيّن أنّ جمرًا أحمر، لا يزال تحت الرماد، َينفث حرارته، معبّرًا عن رفض السكون والخضوع؛ فالبلد العربيّ، المشهور بثورته المؤزّرة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ، يفجّر انتفاضة جديدة، بعد أن أعلن رئيسه المقعد، عبد العزيز بوتفليقة، عن الترشّح لولاية خامسة، مغلقًا باب الأمل بالتغيير أمام ملايين الشباب. وتأتي هذه الانتفاضة بعد شهرين من اندلاع الانتفاضة السودانيّة المستمرّة.

تجربة فاشلة: تذكير بما مضى

تذكّر هذه الانتفاضة الجديدة، بانتفاضة عام 1988، الّتي طالبت بالحرّيّة، والديمقراطيّة، وإنهاء الاستبداد. كانت "جبهة التحرير الجزائريّة"، الّتي خاضت حرب التحرير ضدّ الاستعمار الفرنسيّ، ودحرته عام 1963، قد تحوّلت إلى حزب حاكم متفرّد بالسلطة، مستفيدة من إرثها الكفاحيّ، وهي تجربة عرفتها معظم دول العالم النامي بعد الاستقلال؛ تجربة فاشلة في بناء دولة مدنيّة ديمقراطيّة، تسير على مبدأ التناوب في السلطة. وينتج عن ذلك حكم الأوليغاركيّة، أي حكم الأقلّيّة؛ فيتغلغل الفساد، وتزداد الفجوات الطبقيّة، ويجوع الناس، ويفقدون حرّيّتهم، فيحتجّون. وعندما يُقابَل احتجاجهم السلميّ بالقمع، وتُزجّ القيادات الحزبيّة والمثقّفون في السجون، تموت السياسة، وتتروّض قيادات الأحزاب الّتي تنجو من الاعتقال والقمع والقتل، فيخرج الناس، عفويًّا، أو بفعل دعوة شباب متحمّس، إلى الشارع، وتلتحق بهم الجموع، وكذلك الأحزاب بعد تردّد. وهذا ما يحصل الآن في الجزائر، وكذلك في السودان؛ لقد انقلب "حزب جبهة التحرير الجزائريّة" على نتائج الانتخابات في أوائل التسعينات، الّتي فازت بها "جبهة الإنقاذ"، ودخلت البلاد في حرب أهليّة راح ضحيّتها 250 ألفًا من أبناء وبنات الشعب الجزائريّ. وبعد أن انتهت الحرب، وبعد مرور ثلاثين عامًا، لم تتحقّق نهضة في الجزائر فحسب، بل تفاقم الوضع، وازداد الفساد، والتأخّر، والمعاناة؛ تقول إحصائيّة إنّ سبعة ملايين جزائريّ هربوا أو هاجروا من الجزائر خلال هذه الفترة.

لقد اعتمدت النخبة الحاكمة، الّتي رشّحت عبد العزيز بوتفليقة للولاية الخامسة، وهو أمر صدم الجزائريّين، اعتمدت الحرب على الاٍرهاب تبريرًا لبقائها في الحكم، والاستفراد في تسيير البلاد، وهو تقليد بات عامًّا عند الطغاة.

لم تُستخلص عبر الربيع العربيّ

لم تتطوّر الانتفاضات المحدودة الّتي جرت في الجزائر، وفي السودان، بدايات الربيع العربيّ، إلى ثورات عارمة، تقود إلى تغيير النظام، وذلك بسبب القمع والاحتواء، وبعد أن شهد شعباهما ردّ الفعل الوحشيّ من قبل الأنظمة في الدول العربيّة الأخرى، وتفكّك بعض البلدان المهمّة. وكان هذا المآل الدامي، أي البطش بالثورات والتدخّل الخارجيّ، مسعى الأنظمة المستبدّة ودول خليجيّة؛ بهدف حماية العروش، وردع التفكير بالثورة مرّة أخرى، في بلدان الثورات أو غيرها.

وانتظر شعبا السودان والجزائر، سنين طويلة، منذ انفجار الثورات العربيّة، علّ نظاميهما يتعلّمان من دروس الشعوب العربيّة الّتي ثارت، والّتي نجحت في إسقاط أنظمة، وهزّ عروش أخرى، علّهما يتعلّمان من خلال الإقدام على التجاوب مع مطالب الإصلاح. ولكنّ هذين النظامين لم يستخلصا العبر، ولم يقوما بأيّ عمليّة إصلاح حقيقيّة، تجنّبًا للثورة عليهما، بل أمعنا في تكريس السلطة المطلقة، وخنق الحيّز العامّ. وحين تصل الحالة العامّة إلى لحظة انسداد، تفجّر الشعوب غضبها، وهذه قاعدة معروفة. ليست تجربة فشل الثورات العربيّة، في ليبيا، ومصر، واليمن، والبحرين، والسعوديّة، وسوريا، والعراق، بعيدة عن وعي قيادات الانتفاضات في كلٍّ من السودان والجزائر، بل تستطيع أن تلمس من خلال متابعة الحوار والجدل هناك، أنّ الوعي بضرورة التعلّم من أخطاء الثورات قائم؛ وهذا واجب وطنيّ وأخلاقيّ، لأنّ الثورة ليست لعبة، بل مسؤوليّة كبرى، تتّصل بمصير الوطن والمواطن، وبعمليّة التغيير، والحفاظ على وحدة الشعب، ووحدة البلاد.

الأنظمة ترتعد

وتواجه الانتفاضات هناك، ما واجهته الانتفاضات العربيّة في كلّ مكان؛ فالأنظمة وأبواقها تتحدّث عن مؤامرة خارجيّة لنزع الشرعيّة عنها، في حين تحاول أنظمة خارجيّة، ولا سيّما خليجيّة، التدخّل والتخريب، حتّى لا تصل الثورات إليها.

وربّما يعيش الطغاة العرب الّذين انتصروا على شعوبهم، حالة ذعر، من هذا التفجّر الجديد للغضب العربيّ؛ إذ بات واضحًا، أن لا المنشار، ولا البرميل، ولا الإعدام، ولا تكديس الثوّار في السجون، ولا الاستعانة بالخارج، ردعت الشعوب، أو جمّدت تفكيرها بالثورة، وبالتالي فهي ترتعد مرّة أخرى من إمكانيّة موجة احتجاجيّة قادمة، أوسع وأكثر عنفوانًا.

ربّما توجّس شعب الجزائر لفترة، كما غيره، من حجم القمع والخراب الّذي آلت إليه المواجهات بين الأنظمة والشعوب، لكنّ الطاقة الكامنة في الفقر، والقهر، والاستبداد، الّذي تغوّل أكثر، تصبح موادّ متفجّرة في وجه الخوف والتخويف، وهكذا يحطّم المواطن قيود الخوف والقهر، ويبدأ وعيه بالتغيير بالتبلور، والدخول في عمليّة التراكم، وديناميّة الثورة.

التعليقات