09/05/2019 - 16:12

 في ذكرى النكبة: من هم اللاجئون؟ وأي حل ينصفهم؟

لا توجد عائلة فلسطينية واحدة، تقريبًا، في المنطقة المحتلة والمستعمرة عام الـ1948: الجليل والمثلث، ومدن الساحل، والنقب، إلّا ولها قريب أو أقرباء في مخيمات اللجوء، سواءً في الدول العربية المحيطة بفلسطين، أو في داخل الضفّة الغربية أو قطاع غزة

 في ذكرى النكبة: من هم اللاجئون؟ وأي حل ينصفهم؟

للمرّة الأولى التقي بها. كان اسمها يأتي على لسان والدتي حين كانت تتذكّر، بحسرةٍ وحزنٍ، أقرباءها الذين لجأوا إلى لبنان؛ عمها، وعمتها وخالها، وعددًا آخر من أبناء وبنات عمومتها.

قامة طويلة وممتلئة، وأنيقة، غطاء أبيض يلف رأسها، يزيدها هيبة ووقارًا. صوتُها جهورٌ، وفِيه صرامة وحزم، يُشعرك بشخصية نسائية قوية، ربما لأنّ التراجيديا الفلسطينية جعلت شخصيتها على هذا النحو. نعم كانت لا تزال قوية، وتبدو بصحّة جيّدة، رغم أن عمرها قارب الثمانين عامًا. لكن سمات وجهها تدلل على أنّها كانت تُبطن أثقالًا من الحزن المكبوت.

افترشنا جميعًا أرض غرفة والدي ووالدتي لنأكل معا. كانت المرحومة والدتي مضيافة، كريمة، وحميمية بلا حدود مع كل الناس. ولكن في استقبال الضيفة الجديدة، فاق كرمها ولهفتها كل المقادير. راحت، طيلة وقت الوجبة تُقطع شرائح الدجاج واللحم المطهو وتضعها في صحنها، وتحثها على تناول المزيد من الطعام، وكأنها أرادت بهذا التدليل تعويض عمتها عن عشرات السنين التي لم ترها بها، عشرات السنين من اللجوء والشتات، والتشرد والفقدان؛ فقدان البيت والوطن والأبناء.

هي عمّة والدتي، نصرة حاج محمد، التي انتهى بها المطاف، عام 1948، هي وعدد كبير من الأقرباء في مخيمات الشتات في لبنان، بعد أن احتلت العصابات الصهيونية قريتنا الجبلية، كوكب أبو الهيجاء، المطلة على ساحل فلسطين، بعد مقاومة طالت ثلاثة أشهر.

يتذكّر أهالي القرية هذه الفترة، مسترجعين الشعور بمرارة الهزيمة، وفِي الوقت ذاته يعتزون بالمقاومة التي أبدوها، بقليل من السلاح والعتاد أمام عصابات مدرّبة ومدجّجة بالسلاح. هكذا حدثني والدي، الذي قاتل في المعركة، وفقد أخوه الأكبر (عمّي) شهيدًا، كما حدّثني كبار القرية الذين شاركوا في القتال، في إطار بحثٍ صغير أصدرته قبل 25 عاما.

كانت زيارة عمة والدتي، عام 1990، بعد حصولها على ترخيصٍ إسرائيلي، وهو إجراء اعتمدته إسرائيل تجاه اللاجئين الفلسطينيين، منذ استكمال احتلال كل فلسطين، عام 1967، وذلك، لتقديري، لسببين، أولهما؛ إظهار موقف إنساني مفتعل، والتخفيف من المسؤوليّة عن جريمة التطهير العرقي أمام العالم، والثاني؛ لأغراض أمنية، أي محاولة جمع معلومات عن المقاومة الفلسطينية في لبنان أو سورية أو غيرهما.

وأثناء تناول الطعام، راحت تسرد بعضًا من آلامها، التي وقعت علي كالصاعقة، رغم أني متابع ومتفاعل مع الهم الفلسطيني العام منذ الطفولة ونشيط منذ بواكير الشباب، وتبين أن هناك أمورًا كانت تخشى البوح بها. لقد كان ذلك عندما نظرتْ في وجوهنا وكأنها تطلب النجدة؛ "يا ويلي شو شفنا من مصايب، أنا بس بدّي أعرف وين راحوا بجثّة ابني، لحدّ الآن أنا ما بنام، ما حدا هون بقدر يسأل اليهود وين راحوا بإبني".

تمثلت قصّتها التي تكسر القلب بفقدان أو استشهاد ثلاثة أبنائها: واحدٌ في مجزرة تلّ الزعتر، أثناء الحرب الأهلية عام 1976، واثنان استشهدا أثناء مشاركتهما في المقاومة البطولية، التي استمرت ثلاثة أشهر، ضد الغزو الإسرائيلي للبنان، ووصول الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت، عام 1982.

وينكسر قلبك عندما تسمعها تتمنّى، متسائلة، أو مناجية ربّها، قائلة: "يا ربّي حرام أغدر وأنا بهالعمر أرجع وأظلّ هون في بلدتي، اللي خلقت فيها، ولعبت بحواكيرها، عند أهلي".

كل ذلك أجّج الغضب المشتعل أصلا في داخلي، والأهم أنّه زادني وعيًا بهول مأساة اللاجئين، التي هي في الأساس لُبّ المشكلة، التي كانت في وعيي، مثل الكثيرين، قضية سياسية دون إدراك عمقها الإنساني، وكل تفاصيل العيش في مخيّمٍ تناوبَت على دكّه بالقذائف والصواريخ، إسرائيل والأنظمة العربية، رجعيةً كانت أو قوميّة. إذا أضفنا إلى هذه القصة الرمزية العينية، أن عددًا من الأقرباء تسللوا من لبنان إلى القرية، وتواصلوا مع عائلاتهم، وعادوا إلى لبنان، في الستينيّات، وكان نتيجة ذلك إقدام إسرائيل على اعتقال خمسة مواطنين من القرية والحكم عليهم بالسجن عدة سنوات، تصبح هذه الحالة العينية عاكسة لرواية التشريد الكبرى، ومحاولات العودة، التي كانت تنتهي في الكثير من الحالات بالقتل على يد القوات الصهيونية.

 التنازل عن الـ48 يعني تنازل عن كل القضية

لا توجد عائلة فلسطينية واحدة، تقريبًا، في المنطقة المحتلة والمستعمرة عام الـ1948: الجليل والمثلث، ومدن الساحل، والنقب، إلّا ولها قريب أو أقرباء في مخيمات اللجوء، سواءً في الدول العربية المحيطة بفلسطين، أو في داخل الضفّة الغربية أو قطاع غزة، وأيضًا، في داخل منطقة الـ48، الذين أطلقنا عليهم اسم "المهجّرين" أو "مهجّري الداخل"، ابتداءً من أوائل التسعينيّات، لتمييزهم عن بقية اللاجئين. ويبلغ عدد هؤلاء حوالي ثلاثمائة ألف، يحملونَ الجنسيّة الإسرائيلية لكنّهم محرومون من العودة إلى بيوتهم وأرضهم، التي لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن أماكن لجوئهم الحالية، أي القرى والبلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر التي نجت من الطرد والتدمير.

إذًا، إنّ هؤلاء اللاجئين المشرديّن، الذين يعيش معظمهم في جحيم، هم نحن؛ نحن فلسطينيي الـ48، الذين نجونا من الطرد والتشريد وبقينا في الوطن تحت المواطنة الإسرائيليّة الكولونياليّة. هم ليسوا جزءًا من شعبنا وحسب، بل هم، أيضا، أقرباؤنا المباشرون. هذه الحقيقة تغيبُ أحيانًا، بل غالبًا، عن الوعي العام، الذي تعرَّض للتشويه بفعل مخطّط الطمس الاستعماري الصهيوني، وبفعل الخضوع الفلسطيني الرّسمي المستمر بصورة كارثية منذ أوسلو، وما رافقه من حملة تضليل إعلاميّة وتغيير مفاهيم ومفردات ومضامين الصراع.

 ليس صدفةً أنّ التيار الوطني الفلسطيني المرتبط بإستراتيجيّة منظّمة التحرير الفلسطينية، داخل الخط الأخضر، وبشكل خاص حركة أبناء البلد، التي شغلتُ منصب نائب أمينها حتى عام 1996، أن تبادر عام 1991 (من خلال واكيم واكيم، رجا إغبارية، وكاتب هذه السطور، وأصدقاء آخرين مثل عاطف الخالدي، وعفيف إبراهيم من مهجري إقرث وبرعم) إلى إقامة لجنة تعيد إلى الوعي العام قضية وجود جزء كبير من شعبنا، هجّرته العصابات الصهيونية عام النكبة، وبعدها بوقت قصير، داخل الوطن. وفِي غضون وقت قصير، توسّع التمثيل في اللجنة لتصبح هيئة وطنية جامعة، تضم كل ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي. وبعد انطلاق التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995، تحول إحياء ذكرى النكبة تقليدًا وطنيًا سنويًا، وتمت الإطاحة بالتقليد البائس الذي كان يقوم به الحزب الشيوعي، سنويًا، بنشر تهنئة في ما يسمى "استقلال إسرائيل"، وبتنا نلتقي، جميعًا، جميع الأحزاب والحركات، حول المسيرة السنوية في ذكرى النكبة التي تنظمها "جمعية المهجّرين".

قضية اللاجئين، عمومًا، هي جوهر القضية الفلسطينية، وهم، أي اللاجئين، وبالتحديد طلائعهم في الخارج، الذين أسسوا حركة التحرر الوطني الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وكان شعارها "العودة والتحرير" الشعار الطاغي في برامج جميع فصائل العمل الوطني. أي أن هذا الحق لا يتحقق إلّا في إطار تحرير فلسطين كلها، وإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة في كل فلسطين التاريخية، وهو هدف تم التخلي عنه منذ أواسط السبعينات، عندما بدأت قيادة منظمة التحرير، تحت الضغط الدولي، وبتأثير الفشل العربي والقصور الذاتي، تتحول إلى الدولة المرحلية في الضفة والقطاع، ومن ثم إلى الدولتين، والاعتراف بإسرائيل كدولة طبيعية، رغم أنّها غير طبيعية، ليس فقط لكونها كولونيالية ومُغتصبة، بل، أيضًا، لأنّ بنيتها يهودية عنصرية إقصائية وإحلالية.

وبعد توقيع اتفاق أوسلو، عام 1993، وعلى خلفية تهميش حق العودة في الخطاب السياسي الذي بدأ يتشكّل، وهو خطاب هجين، تنادت طلائع اللاجئين، المستقلين، إلى إطلاق لجان العودة في كل مكان، في أماكن اللجوء وفِي داخل فلسطين، تدعو إلى التحذير من التفريط بهذا الحق المقدّس، والى مواصلة التمسك به، والالتفاف حوله.

هكذا، بات ضروريًا العمل المنهجي والمكثف على تأصيل هذا الحق في الوعي الشعبي وفِي ثقافتنا الوطنية الجامعة. إن حق العودة هو الحق الذي لا يتجرأ أحد على التلميح بإمكانية التنازل عنه، وهو الحق الذي يجمعنا، بخلاف الحلول السياسية، دولة واحدة أو دولتين، التي نختلف عليها.

إن الادّعاء بأنه يمكن تحقيق حق العودة من خلال "حل الدولتين"، الذي مات وشبع موتًا، هو ادعاءٌ مضلل وظالم وغير واقعي. وفِي ظل كل ما قامت به إسرائيل، من دسترة وشرعنة لوجودها الاستعماري والفصل العنصري في فلسطين، لا بد من العودة إلى أصل القصة، عام 1948. نعم نعود إلى التاريخ، لنستردّ الرواية الوطنية، ونقدمها للأجيال الجديدة، وننطلق كشعبٍ واحدٍ، في نضال طويل من أجل التحرير والعودة، في إطار الدولة الديمقراطية الواحدة.

التعليقات