31/05/2019 - 14:47

اسمحوا لنا أن نتفلسف...

طبعا هناك من سيقول لدينا الدين فما حاجتنا للأفكار الأخرى وللفلسفات؟ لا شك أن الدين من أهم مركبات وعي الناس على اختلاف دياناتهم وقومياتهم وعصورهم، لكن هذا أيضا لا نتعامل معه كفكر وعامل روحاني نستفيد منه

اسمحوا لنا أن نتفلسف...

(أ ب)

لماذا لا نتفلسف؟ هل الفلسفة عيب؟ هل أصبح التفكير العميق ومحاولة فهم أسرار الحياة والكون خطيئة؟ لماذا لا يملّ الغرب من البحث في أسرار الكون والثقوب السوداء والمجرات وأعماق المحيطات، وهذا يشغل مساحة مهمة من صحافته، بينما نحن ننقل ما يصلنا فقط، لكننا لا نسعى إلى البحث العلمي والفلسفي ونتهرب منه إلا نادرًا جدا!

قد يقول قائل، إن المانع الأساسي هو الدين الذي يعتبر الفلسفة خوضا غير مرغوب فيه، وذلك أن لدى الدين إجابة عن كل سؤال! إلا أن الدين لا يمنع أحدًا من التأمل والتفكير والنقاش، الدين نفسه يسوق البراهين ويحاول إقناع الناس وحثهم على التفكير في أنفسهم وفي المخلوقات والظواهر الطبيعية، والفلسفة لا تعني الإلحاد بالضرورة، والدين لا يعني الخوف من التفكير.

للفلسفة نظرة سلبية في مجتمعنا، بل إن لدى معظم الناس نظرة استهزاء للإنسان المتفلسف، وفي أول نقاش ساخن يسبق اللكم والرفس يقولون لبعضهم "بلاش فلسفة"؟

السبب هو السطحية في تناول الحياة، وهذا ينعكس على كل شيء بما في ذلك على اتخاذ القرارات وعلى الصحة الجسدية والنفسية.

السطحية لدى القطاعات الأوسع من البشر كانت موجودة دائما وأبدا، ولكن ما يحدث في عصرنا العربي بشكل خاص هو التعمق في هذه السطحية إلى درجة تحويل القشور إلى جوهر وإلى ماهيّة، وجعل السطح أساسًا نبني عليه، وسببا ونتيجة وعلّة ومعلولا لكل شيء.

هذا يجري التعبير عنه من خلال الظواهر الاجتماعية والسياسية، فقد تحوّلت السياسة كذلك إلى محاولة استرضاء للسطحية والتماهي معها، ومن هنا رأينا التظاهرات الشكلية اللفظية والاستعراضية أكثر من الأفكار العميقة التي تدفع الناس مؤيدين ومعارضين إلى التفكير بعمق في اللحظة التاريخية التي يعيشونها، ومن ثم العمل الذي يجب أن يقوموا به على ضوء تفكير عميق لتغيير الواقع إلى الأفضل.

لقد اندثر الفكر الفلسفي من حياتنا بشكل خاص ومن حياة العرب عمومًا، وهذا أحد أهم مظاهر تضعضع أي شعب أو أمة، وهذا حوّل الحياة إلى صراع مادي يملؤه الحسد والسباق والمنافسة لامتلاك أكثر ما يمكن من حوائج مادية، فكلما ملكت أكثر أثبتّ وجودك وقيمتك أكثر وأكثر، وفي النهاية ساد المثل القديم "معك قرش بتسوى قرش"، معك مارسيدس بتسوى مارسيدس، معك بي أم بتسوى بي أم، وليس مهما كيف حصلت عليها.

للأسف، لم أصادف ذلك الشاب الذي يتأمل ويتساءل كيف أتينا إلى هذا الكون وما الهدف من وجودنا؟

لم أصادف شابًا يتأبط كتابًا في الفلسفة أو يحاول التعرف على فلسفات الشعوب الأخرى ومعتقداتها أو ينشر على اليوتيوب موضوعا فلسفيًا، أو يحاول طرح تصوّره الخاص لمعنى وجوده وللحياة والكون، لقد تحوّلنا إلى نمل يعيش على قطرات من المربى المتساقط هنا وهناك، نفكر في قضاء الحاجات المادية، دون أدنى تفكير فلسفي أو محاولة تفسير.

طبعا هناك من سيقول إن الإجابات كلها موجودة في الدين، ولكن الدين نفسه يحاول إعطاء تفسيرات للوجود الإنساني وللظواهر الطبيعية وغيرها من خلال الحث على التفكّر.

الدين لا يدعو إلى الكسل الفكري، فمعظم أولئك الذين نعتز بهم ونطلق أسماءهم على مدارسنا ومؤسساتنا الثقافية مثل ابن خلدون وابن رشد وابن سينا وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم مارسوا الفلسفة إلى جانب العلوم.

تسطيح كل شيء انتقل إلى القيم، فأصبحت القشور هي القيم العليا، ففي الوقت الذي كانت فيه حياة الإنسان أهم وأخطر ما في الكون، باتت حياته سلعة، وحياة شخص ما صارت تقدر بمقدار مادي، أو مالي، الكثير من حوادث الإجرام لها علاقة بالمادة والمال والحصول عليه عن طريق تجارة الممنوعات أو قروض وربا وغيرها. 

لقد نمت أجيال على المادية البحتة، على عدد الأحذية والسراويل والشالات والقمصان والنظارات والمعاطف وحجم كعكة عيد الميلاد، عدد المدعوين والمشاركين، وحجم البيت وموقعه وثمنه، والسيارة ونوعها وسنة إنتاجها وحتى حجم محركها هي الممثل الشرعي والوحيد عن هوية صاحبها، دون علاقة طبعا لثقافته أو علمه أو أخلاقه أو موقفه السياسي.

بإزاء كل هذه القشور والسطحية تعطّل الفكر والتأمل وصفاء النفوس، وغاب التروّي قبل اتخاذ القرارات الهامة، غابت القيم الروحية العميقة التي ترشد الإنسان على تخطي الصعوبات المادية والمعنوية من دون انفجارات عنيفة يؤذي فيها نفسه ومن هم حوله، كذلك غابت ودُهست المصالح العامة تحت وطأة الأنانية والمصلحة الخاصة.

طبعا هناك من سيقول لدينا الدين فما حاجتنا للأفكار الأخرى وللفلسفات؟ لا شك أن الدين من أهم مركبات وعي الناس على اختلاف دياناتهم وقومياتهم وعصورهم، لكن هذا أيضا لا نتعامل معه كفكر وعامل روحاني نستفيد منه، الدين بدوره غالبا ما صار يقاس بالمظهر الخارجي السطحي، وفي الأداء الشكلي، دون الوصول إلى عمق الإيمان الحقيقي الذي يُفترض أن يبعث في نفس المؤمن السكينة والهدوء له ولمن هم حوله، هناك حقيقة مؤلمة لا ينكرها أحد، ولكنها تشير إلى خلل أصبنا به في بنيتنا الجوهرية، وهي أن أعداد خريجي المعاهد التعليمية العليا وحفلات التخرج ازدادت بعشرات الأضعاف، كذلك أعداد الحجاج والمعتمرين، وفي المقابل ازداد العنف وتفاقم القتل والعدوان عشرات الأضعاف.

اقرأ/ي أيضًا | أغدًا ألقاك...

 

التعليقات