03/06/2019 - 12:25

دولة نتنياهو العميقة عام 2048: مئة عام على درب الخلاص

الإصرار على رفع شعار إسقاط اليمين من قبل الأحزاب العربية يفتقد الأرضية العلمية والواقعية في ظل واقع إسرائيل اليوم والمعطيات أعلاه. في الوقت ذاته، المناداة بالمقاطعة والذهاب إلى خيار التعبئة الصدامية في ظل موازين القوى المختلة اليوم

دولة نتنياهو العميقة عام 2048: مئة عام على درب الخلاص

لا يختلف اثنان على أن بنيامين نتنياهو، الفكر والمسلكية، قد جبل في بيت مشبع بكل رموز اليهودية التاريخية والتوراة التي يصفها بأنها "مصدر إلهامنا وقوتنا"؛ وعليه تشبع من والده المؤرخ بن تسيون نتنياهو، المختص في تاريخ اليهود، بأن "الصراع على هذه البلاد هو صراع وجود وليس صراع حدود، ولذا يجب على إسرائيل أن تكون قوية "ولا تمد عنقها للذبح أمام تهديدات الإبادة".

سطع نجمه في بداية الثمانينات كممثل لإسرائيل في هيئة الأمم المتحدة، ومن ثم دخل الكنيست عام 1988 ليشغل منصب نائب وزير الخارجية. ليتدرج بعد ذلك ويصبح رئيس حزب الليكود، ومعه عارض اتفاقيات أوسلو وحل الدولتين عام 1993، وقاد حملة التحريض ضد إسحق رابين إلى أن قتل الأخير، ليفوز بعده بالانتخابات ويصبح رئيس الحكومة في الأعوام 1996 - 1999.

من هنا وصاعدا، عمل نتنياهو على قلب الموازين الاجتماعية والسياسية في إسرائيل بدهاء سياسي وقدرة إعلامية هائلة، قادها هو بنفسه لبلورة كتلة اليمين كهوية ونهج دولة عميقة، مازجا بين ما هو متدين تقليدي ومتشدد. لهذا الغرض استخدم نتنياهو الإعلام بلغة شعبوية مبسطة، مسلطا الضوء على شيطنة ما ألصق لهم بشكل ممنهج اليسار الخطير على مستقبل إسرائيل، بقوله إن "هؤلاء اليسار نسوا أن يكونوا يهودا، وعليه فإن سيطرتهم على مفاتيح الحياة العامة من إعلام ومحاكم ومؤسسات هو خطر داهم على وجود الدولة والشعب اليهودي".

بأسلوب القضم والتوغل الزاحف، خصوصا منذ عودته للسلطة بشكل متواصل عام 2009، بدأت عملية التغيير في العمق المجتمعي الإسرائيلي، بدايةً بكسر السيطرة الإعلامية من خلال تجريم الصحافة "على أنها يسارية بلشفية مجندة للانتقام منه ومن أسرته ومن اليمين"، ومن ثم تركز في تجريد المحاكم من مصداقية شرعيتها بقوله: "يحق للأكثرية أن تمارس حقوقها في كل مجالات الحياة دون أن يستطيع مستبد بقناع القاضي، الصحافي أو الفنان، أن يقرر لهذه الأكثرية ما هو الحق، ما هو أخلاقي أو الصحيح".

مسلكية ميري ريغيف كوزيرة للثقافة وأييلت شاكيد كوزيرة للقضاء، خير برهان على هذا التوجه، الذي أراد أن يقطف ثماره بمنحه ومن معه، الحصانة البرلمانية أمام ملفات الفساد المتورط بها.

لتعميق هذا التوجه جند نتنياهو مسألة الخوف من العرب ونجح بربط "بعبعهم" باليسار اليهودي دون أي تلعثم. هكذا كسب انتخابات 2015 حينما رفع فزاعة العرب الذين يتدفقون للتصويت بنقلهم بحافلات الجمعيات اليسارية، مكررا مقولته المعروفة "منذ قيام الدولة واليسار مسيطر على زمام الأمور في كل أنحاء حياة الدولة وعلينا إنهاء ذلك".

ألصق نتنياهو للعرب حرق الغابات وقوله في الانتخابات الأخيرة، استمعوا جيدا لاتفاق العرب مع لبيد وغانتس، معلنا في يوم الانتخابات نفسه بذكائه الإعلامي المعروف أن الليكود في خطر، إذ تشير المعطيات إلى أن 42% صوتوا لليكود و61% صوتوا لليسار، مشددا النداء على التصويت لليكود، قاصدا أيضا هنا توجيه ضربة لحزبي نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان، حيث سقط الأول ونجح الثاني بالكاد، وحصل الليكود على 35 مقعدا، وهي نتيجة لم يحصل عليها الليكود برئاسة نتنياهو في أي انتخابات سابقة. وكعادته فهو لا يترك للصورة النمطية الذي خلقها عن اليسار في ذهن العامة بالتراجع، دون أن يستغل كل فرصة بتذكيتها كما فعل مع المظاهرة الأخيرة ضد توجهه لسن قانون الحصانة، حينما قال: "هذه الليلة يتحدث في مظاهرة اليسار داعم الإرهاب أيمن عودة بحضور لبيد وغانتس".

في المحصلة، نستطيع القول إن نتنياهو قد وصل إلى ما كان يصبو إليه في الانتخابات الأخيرة بتحطيم اليسار، الذي لم يتجاوز عشرة مقاعد، هذا إذا اعتبرنا حزب العمل أيضا يسارا، وعليه ليس مستغربا أن ينادي رئيس الحزب، آفي غباي، بعد الإعلان عن الانتخابات الجديدة، بالوحدة مع "ميرتس" أو حزب "كاحول لافان".

أبعد من ذلك، ولكي يحكم سيطرته على مفاتيح الدولة أكثر، سيطر نتنياهو بالكامل على حزب الليكود، الأمر الذي دفع بأحد أبرز قياداته، الوزيرة السابقة ليمور ليفنات، أن تصرح بأنه "لم يعد هناك حزب ليكود، يوجد حزب نتنياهو".

كما تحكم نتنياهو بمشهد الأحزاب اليمينية، فتارة وحد قائمة اليمين "البيت اليهودي - الاتحاد القومي"، وحصل على خمسة مقاعد في الانتخابات الأخيرة، وأخرى قضى فيها على معارضيه مثل "حزب اليمين الجديد" برئاسة بينيت وشاكيد، وهدف أيضا للقضاء على حزب "يسرائيل بيتنو" بقيادة ليبرمان، الأمر الذي دفع الأخير للانتقام منه بمماطلة الاتفاق معه، حتى إفشاله في تشكيل الحكومة، ومن ثم حل الكنيست والإعلان عن الانتخابات في 17 أيلول/ سبتمبر المقبل.

أي دور على العرب لعبه في الانتخابات القادمة؟

خلاصة الانتخابات الإسرائيلية الأولى في عام 2019، كانت 100 مقعد لأحزاب اليمين بما فيها "كاحول لافان"، الذي تسابق في دعايته مع نتنياهو على من قتل من العرب أكثر، ومن هو أبعد عن "جرب" الأحزاب العربية، متجنبا الحديث عن السلام وحل الدولتين. 

هذا الواقع، سيتعمق أكثر وأكثر في السنوات المقبلة مع التحولات الديمغرافية، حيث تبين الإحصائيات أن نسبة اليهود المتدينين "الحريديين"، التي كانت عام 2015 تصل إلى 13.4% من اليهود في إسرائيل، ستصل عام 2040 إلى 25% وعام 2060 إلى 40%. يتزامن هذا مع هبوط نسبة غير المتدينين أو العلمانيين، التي تصل اليوم إلى 45%، وزيادة في نسبة المتدينين التقليدين والمحافظين الذين يمثلون اليوم 41% من يهود إسرائيل.
بكلمات أخرى، كتلة اليمين ستشكل واقع الدولة العميقة من اليوم وحتى عام إسرائيل المئة، والذي يصادف عام 2048.

خلاصة القول، إن الإصرار على رفع شعار إسقاط اليمين من قبل الأحزاب العربية يفتقد الأرضية العلمية والواقعية في ظل واقع إسرائيل اليوم والمعطيات أعلاه. في الوقت ذاته، المناداة بالمقاطعة والذهاب إلى خيار التعبئة الصدامية في ظل موازين القوى المختلة اليوم، هو بمثابة مغامرة خطيرة قد تعطي الدولة فرصة تنفيذ خطط الترانسفير الجاهزة أصلا. وأبعد من ذلك، فإن مشروع "صفقة القرن" التصفوي، والسلام مقابل الاقتصاد و"قانون القومية"، جعل من مشروع الدولتين الذي تتبناه الأحزاب العربية فارغا، بل هو عبث سياسي يجدل حبل مشنقتها الجماهيرية على جرعات.

إذا كان هذا هو التشخيص، فما العمل؟ 

أولا: الانطلاق من حقيقة أن الظروف السياسية تخطت منطق العزل بين ساحات العمل الوطني، الضفة وغزة والداخل والشتات، ولكنها في الوقت نفسه، لا تتحمل في هذه المرحلة أكثر من النضال السلمي الديمقراطي التراكمي، الذي لا يغلق أبواب النقلات النوعية، وفقا لتحديات المستقبل وتغيرات موازين القوى على الأرض.

ثانيا: إذا كان للأحزاب العربية هدف من الذهاب إلى الكنيست بعد سن "قانون القومية"، فهو استثمار أموالها لبناء وتنظيم الحركة الجماهيرية في الداخل، وفقا لخطة شاملة كاملة تستنهض الهوية الوطنية المتواصلة في نشاطها السياسي مع باقي قطاعات الشعب الفلسطيني أينما تواجدوا، وذلك لتكريس وحدة الشعب والأرض والتاريخ والدولة الديمقراطية الواحدة، للعرب واليهود، دون التخلي عن حل الدولتين كفكرة إذا ما فرضها تحرك مطلب الدولة الواحدة.

ثالثا: في العادة تقود الطبقة الوسطى الحراك الاجتماعي، وتعتبر العمود الفقري في كل تغيير. بحكم الشتات وتمزيق المجتمع الفلسطيني، فإن هذه الطبقة على وسعها وكبرها شبه معدومة التأثير. المهمة هي نقلها من واقع طبقة في ذاتها وعزلتها، إلى طبقة من أجل ذاتها ووحدتها، من خلال تنظيمها في برلمان الظل، والذي يهدف ليس للتنافس مع الأحزاب والتنظيمات والسلطة الفلسطينية، بل مساعدتها في التمكين والتغيير المجتمعي من أسفل إلى أعلى، بتشكيله البوصلة التاريخية لشعار وحدة النضال، الشعب والأرض والدولة الديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا | عن صعود الطبقة الوسطى

التعليقات