27/09/2019 - 16:21

ماذا تبقى من تراث الهبة بعد التوصية؟

بدأ هذا المسار التراجعي، بعد النجاح في تشكيل القائمة المشتركة عام 2015، بأشهر قليلة، دون أن ينجح التجمع في فرملته. في ضوء هذا التدهور، والتآكل المستمر في الضوابط الوطنية والأخلاقية، بات ملحًا إعادة بناء التيار الوطني الديمقراطي، وتوفير بوصلة سياسية أخلاقية

ماذا تبقى من تراث الهبة بعد التوصية؟

تفصلنا أيامٌ قليلة عن الذكرى التاسعة عشر لحدثٍ ضخم هزّ أرجاء فلسطين، هو الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وامتدادها إلى فلسطينيي الـ٤٨.

ومنذ سنوات، يجري التنصل من هذا الحدث ومن معانيه، وإحياؤه لا يجري إلا داخل الخط الأخضر، ولكن بصورة فولوكلورية شكلية وخطابات فارغة مكرّرة، تُختصر في مسيرة تنظّم غالبًا في مدينة سخنين، حيث سقط العدد الأكبر من الشهداء، وحيث اعتاد أهل هذه المدينة الفلسطينية على المشاركة الكثيفة في المسيرة.

أما في الضفة الغربية، والتي انطلقت منها الشرارة، ومن ساحة المسجد الأقصى تحديدًا، لتتحول إلى انتفاضة عارمة، فرئيس السلطة الفلسطينية مهندس اتفاقية أوسلو، اعتبر هذا الحدث الوطني لعنةً منذ اليوم الأول، ليس بسبب الفوضى التي سادت إدارة الانتفاضة، ولا بسبب قمعها الوحشي من قبل إسرائيل، وإحباط أهدافها التحررية، إنّما لأنه لا يُؤْمِن أساسًا بالمقاومة، لا بشكلها المسلّح ولا بشكلها الشعبي غير المسلح. ومع مرور الوقت، وخاصةً بعد استشهاد ياسر عرفات، ترسخت هذه النظرة في أجهزة السلطة الفلسطينية؛ السياسية والإعلامية والاقتصادية والأمنية.

وباتت عقيدة رئيس السلطة الفلسطينية وعقيدة وتكتيك الطبقة السياسة - الاقتصادية المكونة والداعمة لهذا الجهاز، محصورة في الدبلوماسية والمفاوضات كوسيلة لتحصيل دولة. وباستثناء إيقاف المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي، بعد أن تحولت إلى عبثية، فإن مجمل السياسات، أو النهج المتبع، بقي عصيًا على المراجعة والتعديل. وفِي ظل هذا النهج، وتحت غطاء ما تسمى عملية السلام، تمكّنت إسرائيل من استكمال استعمارها الاستيطاني لأراضي عام ٦٧، بما فيها القدس، وتحويل سلطة رام الله إلى سلطة بلدية، على حد تعبير الرئيس أبو مازن نفسه، وتعزيز الحصار الوحشي على مليونيّ فلسطيني في قطاع غزة.

الأخطر في الأمر هو نجاح نهج أوسلو في تبديل الوعي التحرري الأخلاقي، بوعي مُشوّه حوّل النضال الفلسطيني الوطني إلى عملية توسل لجزء من الحق، على جزء صغير من فلسطين، من خلال تطويع العقل الفلسطيني على خدمة أمن الاحتلال عبر التنسيق الأمني.

هذا النهج الأوسلوي امتد إلى غالبية النخبة السياسة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وبات رئيس القائمة المشتركة، ومعظم زملائه، وكلاء لهذا النهج البائس والمدمر.

في صلب هذا النهج، والذي بات أشبه بعقيدة دينية (حسب مقولة التنسيق الأمني مقدس)، يُشكّل اعتماد الأصوات العربية داخل الخط الأخضر المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية مركبًا أساسيًا فيه. وهذا التوجه الأوسلوي، كان دائمًا على حساب الهوية الوطنية الفلسطينية لمليون ونصف مليون فلسطيني، كانوا أول ضحايا الاستعمار الصهيوني، هم وأقرباؤهم الذي طردوا من الوطن. لم يكترث أصحاب نهج أوسلو بما يترتب على هذا التوجه، المنزوع عن السياسة والتاريخ من التبعات الكارثية بالنسبة لحاجة هذا الجزء من شعبنا إلى تطوير ذاته الجمعية كمجموعة قومية أصلانية متماسكة. إن طغيان النظرة البراغماتية المبتذلة، المتمثّلة بالتدخل وبتوجيه الأصوات العربية، وإن بشكل غير مباشر، لدعم حكومة "يسار صهيوني" تكون، افتراضًا، أسهل للتفاوض معها، ساهم ويساهم في حصار التيار الوطني الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وإظهاره كتيار متطرف معزول عن الواقع.

والمفارقة أنه حتى بعد أن قرر هذا التيّار، المتمثّل بالتجمع الوطني الديمقراطي، في سياق تاريخي - سياسي شديد الرداءة، بالسير ببراغاماتية أكثر، من خلال مركباته الأولى (حركة أبناء البلد، ميثاق المساواة، والحركة التقدمية وحركات وطنية محلية) والإقدام على التخلي عن مقاطعته للكنيست، كمدخل لتنظيم المجتمع الفلسطيني، وتعديل أو تطوير برنامجه السياسي الذي يمكنه من الظهور كإطار سياسي جدي. ورغم كل ذلك، بدأ يتعرض بعد فترة قصيرة من ظهوره، وبالتزامن مع تصعيد حملة التحريض الإسرائيلية ضده، لحملة نقد وهجوم من قبل أحزاب عربية في الداخل، ومن أوساط داخل السلطة الفلسطينية. وهو نهج اشتد وتفاقم بعد اغتيال ياسر عرفات.

شكّل ظهور حزب التجمع، على ساحة فلسطينيي ٤٨ حدثا نوعيًا اعترفت بخطورته الأوساط الإسرائيلية على اختلاف توجهاتها، وتحديدًا لأنه طرح بجدية وعبر إطار سياسي دولة المواطنين أو دولة كل مواطنيها، في مواجهة الدولة اليهودية، معرّيا ديمقراطيتها. وقد كان طرح هذا الحزب، وخاصة صعوده، صادمًا بصورة خاصة للأوساط الصهيونية الليبرالية، التي كانت متصالحة مع نفسها، إزاء "ديمقراطية ويهودية الدولة". ولم تستوعب تلك الأوساط الصهيونية كيف أن منظمة التحرير الفلسطينية تعلن استسلامها، وتقبل إسرائيل كما هي: كولونيالية، ويهودية عنصرية، مقتفية أثر الأنظمة العربية التي كانت عقدت اتفاقيات استسلام مع إسرائيل، في حين أن حزبًا عربيًا ناشئًا، داخل إسرائيل، يتحدى كل ذلك، وبطريقة ذكية، ويواصل التمسك بهويته الوطنية ومبدئيته السياسية رغم كل طوفان التحريض والملاحقة.

ربما من الصعب على الكثير من الأجيال التي نشأت بعد ذلك، وكذلك على القوى المتأسرلة أصلا، أن تتخيل أو تستوعب حجم التحدي والجرأة اللتين تميز بهما هذا الحزب في ذلك الظرف التاريخي السياسي بالغ الرداءة والبؤس. لقد حرّك هذا الحزب المياه الراكدة وأثار تنافسا شديدا بين جميع الحركات السياسية الفاعلة داخل الخط الأخضر. وكان ذلك التنافس، رغم عيوبه، مفيدا ومثريا للحياة السياسية والعمل الوطني وأنشأ أجيالا أكثر اعتزازا بهويتها وانتمائها الوطني والحضاري والعروبي الإسلامي- المسيحي.

عندما امتدّت الانتفاضة الفلسطينيّة الجبارة من الأرض المحتلة عام ١٩٦٧ (القدس، الصفة الغربية، وقطاع غزة) إلى المدن والقرى الفلسطينيّة داخل الأرض المحتلة عام ١٩٤٨، كانت الأحزاب العربية المركزية كلها قد استعادت عافيتها، وكانت الساحة قد شهدت تصاعدا نوعيا في القمع وعنف الشرطة ضد المواطنين العرب.

ما كان يُميّز انتقال الانتفاضة إلى داخل الخط الأخضر، ليس شموليتها، وطول مدتها )٨ أيام) وعنفوانها فحسب، بل بالأساس دافعها السياسي. وهذا ما حاول الكثيرون، بما فيها أحزاب في الداخل، تبهيتَهُ والتقليلَ من وزنه والقول إنّ المسالة المدنية (القمع والملاحقة والتمييز في الحقوق اليومية) كانت الدافع الأساس وراء ذاك.

متى وكيف بدأ كيّ الوعي؟

سياسة كي الوعي هي سياسة صهيونية قديمة. كان أكثر من عبّر عنها زعيم الجناح التنقيحي في الحركة الصهيونية، زئيف جابوتنسكي، في مواجهة تيار دافيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، في مقال كتبه عام ١٩٢٥ تحت عنوان، "الجدار الحديدي"، الذي رأى أنه لا بد من تأسيس قوة عسكرية جبارة تكون قادرة على مواجهة الفلسطينيين منذ البداية وهزيمتهم شرّ هزيمة بحيث لا يعودون قادرين على تخيّل هزيمة إسرائيل، وبالتالي دفعهم إلى الاستسلام والقبول بالأمر الواقع إلى الأبد.

إنّ الوحشية منقطعة النظير التي اعتمدتها إسرائيل للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ٢٠٠٠، جاءت في إطار هذه السياسة. كما أن القمع الوحشي واستعمال الرصاص الحي لقمع المظاهرات السلمية العارمة داخل الخط الأخضر، وبأوامر عليا مباشرة من رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، إيهود براك، كانت، أيضًا، في إطار تلك السياسات، فقد رأت حكومة الكيان الإسرائيلي الشعب الفلسطيني كله منتفضًا وموحدا في جبهة اشتباك واحدة، دون تنسيق مسبق. وكان هذا صادمًا لها، حيث رأت مجمل سياساتها التجزيئية وتشويه الهوية الوطنية والأسرلة تنهار أمام أعينها، بعد عقود من ممارسة مخططات التجهيل والقمع والتشويه الثقافي.

في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، تم تكبيل السلطة الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات، بسبب استئنافه على أوسلو، من خلال تجديد المقاومة، بقيود صارمة، من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، فارضين عليه أبا مازن رئيسًا للوزراء. ولكنه، وبسبب مواصلة ممانعته لهذه القيود، تم اغتياله بالسم، وهكذا قضى شهيدا، ودفع ثمنًا بعد أن حاول الانتفاض على مقامرة اتقاقية أوسلو التي انكشف زيفها، واتضحت النوايا الإسرائيلية الحقيقية، وأطماعها الكولونيالية الجشعة.

داخل الخط الأخضر تواصلت نفس السياسات، كذلك، بعد قمع الهبة الشعبية بالحديد والنار، ولكن بأدوات أخرى: تحريض وحملات تخويف وملاحقات سياسية وقانونية، واستحضار مفردات من قاموس الخمسينات والستينات، مثل العرب طابور خامس، خطر أمني، عدوّ من الداخل. وترافق مع ذلك سن قوانين عنصرية ومخططات تهويد وإجراءات أمنية، تهدف كلها إلى احتواء وإضعاف وتقويض مقومات التطور التطبيعي، لهذا الجزء من شعبنا الفلسطيني. كما أظهرت بعد الهبة نفاد صبرها أو عدم تحملها لحزب فلسطيني في الكنيست، يحمل برنامجًا وطنيا وديمقراطيا، مساواتيًا، فراحت تخضعه ورئيسه لمحاكمات دورية، مرفقة ذلك بحملات تحريضية سافرة.

هذا كله سلوكٌ منطقي وطبيعي من مستعمِر في مواجهة مقاومة السكان الأصليين. وطبيعي أن ينال الوهن والضعف والتراجع الناس وحركته الوطنية. ولكن الأخطر هو نجاح سياسة فرق تسد، ودق الأسافين، أولا؛ بين القيادات والشعب، وثانيا؛ بين القيادات نفسها، بناءً على توجهاتها الفكرية والسياسية تجاه تكوين دولة إسرائيل، وعلى طبيعة ردود فعلها على مخططات القمع وكي الوعي.

من المحزن أن هذه المخططات التقسيمية لاقت نجاحات جزئية بخصوص العلاقة بين القيادة والشعب، أما بخصوص العلاقة داخل القوى السياسية، فقد نجحت في المهمة. الحركة الإسلامية الشمالية محظورة، وتم التسليم بذلك، وهناك من ارتاح لهذا الإجراء. والتجمع الوطني، بات في نظر القوى الثلاث داخل المشتركة حزبا نشازًا ويتجنب رئيس القائمة المشتركة وآخرون، في وسائل الإعلام الإسرائيلية الدفاع عما يطرحه هذا الحزب من أفكار وحلول، تحديدًا دولة المواطنين، وكون العنصرية مسألة بنيوية في النظام الصهيوني القائم.

سيذرف البعض دموع التماسيح إذا ما تم حظر التجمع، وفِي قرارة أنفسهم، إذا ما حصل ذلك، ستخلو الساحة لهم، ليلهون مع بيني غانتس، غابي أشكنازي وموشيه يعالون، ليكونوا جزءًا من الجهد لاستعادة الهيمنة الأشكنازية على المشروع الصهيوني مقابل الحصول على فتات.

كل ما يحرك الأحزاب العربية الكنيستية، بعد أن أُخضعت، على مدار السنوات الأخيرة، لعملية كي الوعي، هو الحصول على الفتات، مقابل التخلي عن المعركة الأساسية المبدئية، معركة فضح ومواجهة مجمل المنظومة التي تسرقنا وتنهبنا يوميًا، وتقتلنا يوميا، مباشرة أو عبر قتل أنفسنا بأيدينا، والتي تستعمر وتحاصر وتقتل شعبنا في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية وضد اللاجئين والعمل المبدئي والمنهجي على استعادة قوة الشارع، كأداة مركزية في التأثير السياسي والبناء الوطني.

إن قبول قيادة التجمع بطريقة اتخاذ القرار بالأغلبية داخل كتلة المشتركة، في ظل تركيبتها، وطبيعة توجهات المركبات الأخرى، هو خطأ آخر إستراتيجي تدفع كوادره وشعبنا كله ما ترتب عليه من قرار خطير (التوصية على مجرم الحرب) ثمنا باهظا؛ أخلاقيا ووطنيا وإستراتيجيا. أمّا الخطأ الأكبر، فهو التردد وغياب الإرادة في تطوير برنامج التجمع، ومغادرة معادلة مناهضة الدولة اليهودية إلى معادلة مواجهة المنظومة الصهيونية باعتبارها كولونيالية ونظام فصل عنصري، حيث بات الكثيرون لا يميزون بين خطاب التجمع وخطاب القوى الأخرى.

بدأ هذا المسار التراجعي، بعد النجاح في تشكيل القائمة المشتركة عام 2015، بأشهر قليلة، دون أن ينجح التجمع في فرملته.

 في ضوء هذا التدهور، والتآكل المستمر في الضوابط الوطنية والأخلاقية، بات ملحًا إعادة بناء التيار الوطني الديمقراطي، وتوفير بوصلة سياسية أخلاقية للأجيال الفلسطينية الشابة.

التعليقات