22/11/2019 - 16:32

لا يكفي الابتهاج!

نحن أمام واقع مركب وصعب، يميل ماديًا لصالح نهج الانبطاح، وبالتالي يجب التصدي لهذا النهج، بطرح تصور ورؤية سياسية وإستراتيجية عمل تُأسس على فهم حقيقي لتعقيدات الواقع الآخذ في الترسيخ، وفي إنتاج مزيد من السلوكيات الهجينة

لا يكفي الابتهاج!

ابتهج الكثيرون بعد انهيار أوهام التعلق بمجرم الحرب بيني غانتس؛ ليس لأنهم متشنجون أو يعيشون في الأحلام، أو لأنهم "عبثيون". بل لأنهم يدركون، بعضهم بالفطرة، وبعضهم بالدراية السياسية الواقعية المبدئية، أن هذا النهج لن يقود إلا إلى تفكيك القضية الوطنية لفلسطينيي الداخل، وتقويض نسيجهم الاجتماعي والثقافي، وذلك من خلال مقايضة حقوق مدنية بحقوق قومية، مثل حقهم بحماية هويتهم الوطنية التي لا تتم إلاّ من خلال بناء مؤسساتهم التمثيلية الجامعة، وبناء جامعة عربية واستعادة مدارسهم ورسم مناهجها، واستعادة أراضيهم التي تسمح لهم بالتوسع والتطور الطبيعي، ونزع فتيل العنف الداخلي، الذي يتغذى من التربة التي أوجدتها الممارسة الاستعمارية الداخلية اليومية المعتمدة منذ النكبة.

أما الجانب الآخر للقضية الوطنية، فهو الارتباط بالمشروع الوطني الفلسطيني العام، أيّ بتعزيز الارتباط مع نضال شعبنا، وما يترتب، وفق هذا الارتباط، من واجبات وطنية عملية.

لكن السؤال، بل التحدّي الأهم، هو ما العمل بعد هذه الصفعة التي وجهها بيني غانتس للمراهقين السياسيين، الذين أصروا على عدم التعلم من تجربة فلسطينيي الداخل، ولا من تجربة فريق أوسلو في رام الله الذي جرّب هذه السياسة ثلاثين عامًا ولم يحصد سوى الدمار الوطني. فالابتهاج ليس برنامج عمل، ولا هو رؤية، ناهيك عن أن من أفشل هذه المراهنة ليس ممثلي القائمة المشتركة ولا الانتقادات الشعبية الواسعة، بل حزب الجنرالات نفسه، لأن هذا اليمين الناعم لا يختلف عن معسكر اليمين الخشن، بقيادة مجرم الحرب الآخر بنيامين نتنياهو، في النظر إلى والتعامل مع المواطنين العرب.

طبعاً لا أقلل من أهمية حملة التصويب الوطني التي شارك فيها أفراد ومجموعات، التي لم تتوقف منذ ظهور معالم هذا النهج المدمر، عبر صفحات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الأخرى.

نقول ذلك، لأن أصحاب هذا النهج لم يعلنوا اعترافهم، ولا يتوقع منهم إعلان اعترافهم بالفشل، فهم يستندون إلى تغيّرات موضوعية، اقتصادية واجتماعية وثقافية في أوساط مجتمعنا، غذتها متطلبات العيش في ظل الحكم الإسرائيلي وعوامل أخرى، ولعب عليها هؤلاء المراهقون، متخلين عن دورهم في توجيه الناس والارتقاء بوعيهم.، إما بسبب الإفلاس السياسي أو الفقر الأخلاقي، أو ربما الاثنين معًا، وأيضًا بسبب تمدد قاعدة الدعم لهذا النهج في مقاطعة رام الله ، وفي أوساط الجماعة اليهودية الصهيونية الأميركية المعارضة لنهج نتنياهو، الذي يسيئ لإسرائيل في الخارج ، بحسب منطلقات هذه المجموعة الصهيونية.

لذلك، ولأسباب ضعف داخلية، لم يتمكن التجمع الوطني الديمقراطي من فرملة هذا النهج ومنعه، رغم معارضته للتوصية بتكليف غانتس لتشكيل الحكومة.

إذاً، نحن أمام واقع مركب وصعب، يميل ماديًا لصالح نهج الانبطاح، وبالتالي يجب التصدي لهذا النهج، بطرح تصور ورؤية سياسية وإستراتيجية عمل تُأسس على فهم حقيقي لتعقيدات الواقع الآخذ في الترسيخ، وفي إنتاج مزيد من السلوكيات الهجينة، أي أن تشكيل البديل لهذا النهج يقتضي أكثر من ردود فعل في وسائل الإعلام، ولا بد من أن يسعى الناقدون لهذا النهج، المستقلون أو من داخل الأحزاب والحركات المختلفة، إلى حوار حقيقي وإعادة قراءة الواقع والمستجدات قراءة غير تقليدية، مسؤولة وببعد عملي آني، ورؤيوي بعيد المدى. لقد بات الواقع الاستعماري المستمر والمتغوّل يفرض علينا التفكير والتصرف انطلاقًا من وعينا بهذه الحقيقة، مسلحين بإرادة الإصرار على تحقيق التغيير.

لا يمكن أن تصلح سياسات التهوّر، سواء تلك التي تهرول بنا إلى الوراء بصورة صبيانية مهينة، ولا تلك التي تندفع بنا إلى الأمام بغير دراية أو تبصر.

في أواسط التسعينيات، وبعد أن بدأت تبعات أوسلو الكارثية تتجلى في صفوف فلسطينيي الداخل، بادر عدد من الأطر والشخصيات الوطنية والتقدمية، إلى التنادي واللقاء مدفوعين بالخوف على مصيرنا، وبالإرادة القوية للتصدي لهذا الانهيار. نجح المبادرون بعد شهور طويلة ومداولات ونقاشات مضنية، في الخروج برؤية مشتركة وببرنامج عمل، تحول إلى اندماج الجميع في حركة وطنية منظمة فاعلة، نظر إليها الكثيرون على أنها رؤية وطنية واقعية، تحقق التوازن بين الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية. انتقل هذا الخطاب من الهامش إلى المركز، وقد عبّر عنه عزمي بشارة، ومن داخل الكنيست وخارجها، بصورة واثقة وبوضوح تام وباعتزاز، دون الارتداع من حملة الصهاينة الدموية التي تواصلت ضده، وضد حزب التجمع، وصولاً إلى فبركة التهم الأمنية ضده.  لم تكن مجابهته، مجرد صراخ ضد التمييز، كما كان يفعل من قبله أعضاء كنيست عرب، بل مجابهة سياسي ومفكر ومناضل، حاملًا رؤية تحررية إنسانية. وقد ظنّ البعض أن هذه الرؤية الوطنية والديمقراطية الإنسانية والواقعية، والدفاع عنها بقوة ومن دون تأتأة، هي التي أخرت تحصيل حقوقنا. فها هو هذا البعض يجرب نهجًاً مختلفًا، مهيناً، ضلل أوساط واسعة من شعبنا وزاد إحباطهم.

 لقد أبقى التجمع الوطني الديمقراطي، منذ اليوم الأول، الباب مفتوحًا في برنامجه التفصيلي، السياسي والثقافي والاقتصادي، نحو أفقٍ أوسع، يمتد إلى كل فلسطين وشعب فلسطين، بحيث يناضل الجميع لإسقاط نظام الأبرتهايد الكولونيالي لتحرير الشعب الفلسطيني من هذا الاستعمار، وتحرير اليهود الإسرائيليين من الصهيونية، ليكون بالإمكان العيش بمساواة وفِي ظل عدالة سياسية واجتماعية.

لقد حان الوقت، أمام التجمع وغيره، لفتح هذا الباب على مصراعيه، والمساهم في إطلاق المخيلة الفلسطينية، وفي الاتفاق على الطريق الصحيح، الذي يجب أن نسير فيه، نحن الكل الفلسطيني.

التعليقات