07/04/2020 - 19:49

النِّكات في زمن الأزمات

إلى جانب الكوارث الجماعية، ينشأ عالمٌ واسعٌ من النكات والمُلَح، التي لا غنى للإنسان عنها، كي يتغلب من خلالها على مشاعر الإحباط والعجز والخوف، فهي تعيد التوازن العصبي، وتبعد الشعور بالضعف وقلّة الحيلة، ومن خلالها نبث تفاؤلا وقوة على من

النِّكات في زمن الأزمات

إلى جانب الكوارث الجماعية، ينشأ عالمٌ واسعٌ من النكات والمُلَح، التي لا غنى للإنسان عنها، كي يتغلب من خلالها على مشاعر الإحباط والعجز والخوف، فهي تعيد التوازن العصبي، وتبعد الشعور بالضعف وقلّة الحيلة، ومن خلالها نبث تفاؤلا وقوة على من حولنا، باحثين عن الابتسامة بين ثنايا الكارثة.

تنتقل الضحكة أو الابتسامة بالعدوى، وهي قادرة على كسر الحواجز بين أبناء البشر، فتجعلهم أقرب إلى بعضهم بعضًا، ونجدُ في التراث العربي والإنساني، قصصًا تتهاوى فيها الحواجز بين الحاكم والمواطن البسيط من خلال النكتة، ومعروفة قصة "عذر أقبح من ذنب" التي جرت بين أبي النُواس وهارون الرشيد،

كذلك قصة الحجاج ابن يوسف والأعرابي الذي شتم الحجّاج وحُكمَه وظلمه دون أن يعرف أن الرجل الذي أمامه هو الحجاج بذاته، فلما عرّفه الحجاج بنفسه ردّ الرجل قائلا: "وأنا مجنون بني عجل أصْرَع في اليوم مرّتين"، فضحك الحجّاج وأمر له بتعويض ما. أغلب الظن أنها قصة من تأليف مؤلّف، ولكنها تشير إلى قوة النكتة، في كسر الحواجز بين البشر.

قالت العرب "شر البلية ما يضحك"، خصوصًا عندما يقف الإنسان عاجزًا أمام كارثة ما، وفي علم النفس يقول كل من سبنسر، وسيغموند فرويد إن الضحك وسيلة لتفريغ الطاقة العصبية المكبوتة. وقال علي بن أبي طالب "روِّحوا القلوب، فإنها تمِلُّ كما تمِلُّ الأبدان".

هذا يعني أن النكتة وسيلة علاجية، شرط الابتعاد عن الإسفاف، وأن لا تجرح شعور فرد أو مجموعة أو جنس أو عرق إلخ، أو أن تُستخدم كأداة لترويج فكر عنصري وما شابه.

أظهرت بعض النكات في زمن كورونا سطحية في النظرة للعلاقة بين الرجل والمرأة، فبدا وكأن أحدًا لا يطيق البقاء في البيت مع زوجته، فمئات النكات أو المنشورات تتحدث عن الجحيم الذي يحياه الزوج قرب زوجته، حتى تفضيل الخروج وتقبّل كورونا برحابة صدر على البقاء مع الزوجة، والعكس كذلك، فالزوجة تفضل أن يصاب زوجها بالزهايمر على أن يعود إلى البيت، أو تتصل للإبلاغ عن حرارته المرتفعة وسعاله الجاف كي يأخذوه إلى الحجر الصحي.

الضحك مطلوب، ولكن النكتة تعكس المستوى الثقافي ووعي صاحبها وتفكيره.

ممكن للضحك أن ينتقل من واحد إلى الآخرين تمامًا مثل النكد، فبعض الناس يروي نكتة فتشفق عليه وتحزن بدلا من أن تضحك، ويأتي آخر يحكي النكتة نفسها، فينقل شحنة الضحك والمرح إلى المستمع ويضحكه، لأن هذا يظهر من ملامحه ونبرة صوته وينقلها إلى المتلقي.

هناك أمر لا يقل أهمية، فمن خلال النكات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن معرفة اتجاهات الرأي العام، فالنكتة تعبر عن احترام وتأييد وموافقة أو رفض واستخفاف بنظام أو باتجاه سياسي أو اجتماعي معيّن، ويمكن معرفة مزاج الشعب من خلال نكاته وتعليقاته الساخرة على الأحداث، فهي تعبّر عن مكبوتات الناس العميقة، طبعا النكتة السياسية غير متاحة في كل الدول، ويعاقب القانون عليها وتعتبر مسّا بالذات الرئاسية أو الملكية، وقد تؤدي بصحابها إلى الهلاك في أنظمة العار العربي.

في هذه الفترة، انتشرت نكات تسخر من العرب وقدراتهم على اكتشاف الأدوية وعلى رجال الدين المسلمين والدعاء "للكفار" بأن يكتشفوا دواءً كي نتعالج ونعود للدعاء عليهم بالفناء لأنهم كفار بالإضافة إلى غيرها من النكات.

هناك من استغل الأزمة بقصد أو بغير قصد، كي يكرّس مفهومًا خاطئًا، بأن كل ما يأتي من الغرب جيد، وكل ما يأتي من العرب غبيٌ ورديء، ولكن إذا أخذنا مثالَ جونسون رئيس وزراء بريطانيا الذي دعا إلى نشر مناعة القطيع، ثم أصيب هو نفسه بالكورونا، وأُدخل إلى العلاج المكثف، لو كان هذا رئيسًا عربيًا لسخرنا منه إلى يوم المساخر، علمًا أن تصرّفه وتفكيره وما حدث معه يستدعي السخرية.

تفنن رواد مواقع التواصل الاجتماعي، في الصوت والصورة والكتابة وفي الغش والتزوير، مثل إظهار المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل وكأنها تشكر باحثا تونسيًا اسمه "كمّون" لاختراعه مصلا مضادًا، وتناشد الرئيس التونسي قيس سعيّد السماحَ لألمانيا بإنتاج المصل، ليتضح أن الكلام لا أساس من الصحة، ولكن ليس قبل أن يصدّقه كثيرون، وهذا ما حدث معي، فنشرت علم تونس ومباركة لتونس والعرب بهذا الإنجاز التاريخي، ويعد بضع دقائق علمت أنها فبركات.

كالعادة تصدّر المصريون ميدان النكتة وخفة الظل في التعامل مع الأزمة، وهذا بحد ذاته يمنح الناس مناعة ويحسّن من مزاجهم، فأبدعوا في تعقيباتهم على الطبيبين اللذين زعما بأن الفول والملوخية اليابسة "الشّلَولَو" مضادان لكورونا، بل إن صاحب نظرية الفول زعم أن الأميركيين اتصلوا به ليسألوه: ما العمل؟ فقال لهم ببساطة "كلوا فول..بس إيه؟؟ على الطريقة المصرية..طبْ ازاي!!".

الأغذية التي تحدث عنها الطبيبان ممتازة وتقوّي المناعة، ولكن هذا لا يعني بأنها تقضي على الفيروسات، وهنا تكمن خطورة بث مثل هذه الأفكار، إلا أننا عندما نرى أعداد المصابين المُعلن عنهم في مصر وفي دول الشرق الأوسط عمومًا، نشعر أن بعض الشعوب أكثر مناعة من شعوب أخرى لفيروسات معيّنة، مثلما أن بعض شعوب الشرق الأقصى لديها مناعة للسعات العقارب والأفاعي أو البعوض وغيرها، ومثلما أن الروسي يستحم بماء مُثلّج، وذلك من خلال الاكتساب الطبيعي بحكم الجغرافيا والمناخ وطريقة الحياة والتلقيح الطبيعي المبكر لبعض الفيروسات والجراثيم والسموم وعوامل الطبيعة.

أخيرًا بلا شك أن النكتة جيّدة وصحيّة وتفيد في تقوية المناعة الشخصية والعامة، ولكن دون إسفاف ودون تحقير أو تبخيس لا لأنفسنا ولا للآخرين.

التعليقات