14/04/2020 - 21:52

العودة إلى الروح...

في هذه الأيام الفضيلة، افتُضح أمر الإنسان الذي قدّر وقدّس المادة حتى العبادة، فجعل المال بديلا للقيم الروحية، فلم يعد قيمة إلا للدولار والذهب والسيارات ومختلف الأملاك.

العودة إلى الروح...

فجأة، وخلال أسابيع قليلة، ظهرت البشرية من أقصاها إلى أقصاها لطيفة ومتضامنة ورقيقة وحنونة على بعضها بعضًا، في مشاهد غير مسبوقة.

لم نعش هذا الدفق الإنساني منذ وعينا، فصار الصومالي المُعدم يشفق على الأميركي، والمشرد السوري يصلّي لأجل الطلياني والإسباني والألماني، والفلسطيني يدعو الله رفع البلاء عن البشر كلهم، واليمني يفتح ذراعيه لمن يريد الاحتماء في اليمن الذي لم يتجرّأ الفيروس عليه.

عدنا خلال أسابيع مئات آلاف أو ملايين السنين، يوم كان الإنسان الأول يقف إلى جانب أخيه الإنسان مضطرًا لمواجهة الظواهر الطبيعية الفتاكة والحيوانات المتوحشة، والكفاح لمجرد البقاء والتكاثر وحماية صغاره حتى يبلغوا أشدّهم.

في هذه الأيام الفضيلة، افتُضح أمر الإنسان الذي قدّر وقدّس المادة حتى العبادة، فجعل المال بديلا للقيم الروحية، فلم يعد قيمة إلا للدولار والذهب والسيارات ومختلف الأملاك.

صار المال إلهًا حتى بعد الموت، هو الذي يحاسِب وهو الذي يسألك ماذا فعلت في دنياك؟ وشبابك بِمَ قضيته؟

فقد تفنن الإنسان في تفصيل وتشييد الأضرحة وتزويقها، هناك أضرحة مكلفة جدًا لا يطيقها الفقراء، تقدّر تكلفة ضريح في بعض البلدان مثل نيويورك بعشرة آلاف دولار على الأقل، هذا يتعلق بموقع القبر وبنوع الرخام وما يُنقش عليه، وكأن الميّت يريد مواصلة الظهور بمظهر الغنى حتى وهو ميّت، يريد أن يكون ضريحه أفخم من أضرحة الآخرين، وهناك أضرحة تصل إلى عشرين ألف دولار وأكثر.

هناك شركات تتصل بالناس حتى وهم في ريعان شبابهم، وتعرض عليهم ضريحًا فخمًا في موقع جميل ومن نوعية رخام عالية الجودة، وقد تعرض للزوجين معًا وحتى للأسرة كلها، كي يكون الموقع مصدر فخر للميت ولعائلته.

فجأة تغير شيء ما، أميركيون يقيمون مسيرة سيارات تحية لعالم باكستاني حتى بيته، وذلك لاختراعه جهازًا يمنح قدرة توزيع التنفس الصناعي إلى سبعة أشخاص بدلا من شخص واحد، في دفعة واحدة.

طواقم طبية في أحد مستشفيات أوسلو تستقبل بالدموع والتصفيق طبيبًا عربيًا وهو خارج من العناية المركّزة على عربة، بعدما أبلى بلاء حسنا في مواجهة "كوفيد 19"، حتى مرض وغاب عن الوعي لمدة شهر.

والصيني بعد أن تحول إلى مادة للتهكّم حول طعامه الغريب، انقلب الأمر، وحظي باحترام كبير، إذ أبدى قدرات غير عادية على احتواء المرض، فتطلّع العالم إليه بإعجاب، وذرف البعض الدموع وهم يشاهدون الجماهير في ووهان، تودّع الطواقم الطبية بالزهور وتلوح بالمناديل وبعلم الصين.

في إسرائيل صار العرب الفلسطينيون ينشرون صور أحبائهم من أعضاء الطواقم الطبية من وسط المعركة مباشرة من الجبهة الأمامية، وحظوا باهتمام لافت، وذلك بسبب نسبتهم المرتفعة من هذه الطواقم قطريًا، فانهالت الكتابات المندّدة بالعنصرية، وخصوصًا التي وصفت ممثليهم حتى الأمس القريب بأنهم داعمو إرهاب، بينما يخوض أبناؤهم الحرب وفي الصفوف الأمامية.

الدموع تنهمر عبر العالم تضامنًا مع الطليان ومدنهم الخاوية، ومع الإسبان وملاعبهم، وتنعى أيام السياحة إلى باريس واللوفر وضفاف نهر السين في لندن وجندول البندقية، تتحسّر الشواطئ والآثار والمتاحف والمطارات على مئات ملايين السائحين المتنقلين في أجواء وأرجاء المعمورة، المساجد والكنس والكنائس والمعابد تتساءل أين ذهبوا؟ تتحسر المطاعم وقاعات الأفراح والحدائق العامة على الضجيج والحركة والمأكل والمشرب والرقص والصخب، حتى الحيوانات في أقفاصها تتساءل أين ذهب الناس؟؟

تبدو الكرة الأرضية كأنها سفينة عملاقة تحمل ما لذّ وطاب، ولكنها مخطوفة بأيدي قراصنة مجرمين ومسلّحين، وعصابات تصارع بعضها بعضًا وتتناحر على خيراتها، وفجأة تهبُّ عاصفة هوجاء فتهدد الجميع بالغرق، فصار الجميع يصلّون ويبتهلون، القباطنة والقراصنة والمسافرون من كل الأصناف والأجناس والشرائح، الجميع يصلي من أجل العودة إلى ما كانوا عليه قبل العاصفة، ولكن ما الذي كانوا عليه، غير ظلم وعدوان وبطر واغتصاب حقوق ومادّية صفيقة؟؟

سوف يجد الإنسان علاجا للمرض، وإن تأخر، وسيستأنف القراصنة صراعهم من جديد، وهذه المرة على تسويق الدواء والأسواق.

ورغم ذلك، لا بد أن شيئًا ما سيتغير لدى ملايين من أبناء البشرية، لا يمكن لما حدث ويحدث إلا أن يكون درسًا قاسيًا للبشر، درسًا يقول إنه لا غنى عن الروح والروحانيات في حياة الإنسان، وأنه ليس بالمال ولا بالسلاح وحده يحيا الإنسان، ولا بالشكليات الدينية فقط، بل أنه يحتاج إلى عمق روحي، يتحاور فيه عن معنى وجوده ومصيره وكيفية ممارسة وجوده المؤقت والسريع على هذا الكوكب.

التعليقات