26/04/2020 - 18:26

ضرورة القطع مع الأوهام

أن تنتظر وتنتظر، ولا تسأم الانتظار، منتظرًا معجزة تحط عليك من السماء، هو أقل ما يوصف بالكسل والاتكالية في حالة الفرد العادي. فماذا يمكن أن يوصف إدمان قيادة شعب كبير، واقع تحت الاستعمار ووحشيته، على الانتظار لأكثر من عقدين لمعجزة

ضرورة القطع مع الأوهام

أن تنتظر وتنتظر، ولا تسأم الانتظار، منتظرًا معجزة تحط عليك من السماء، هو أقل ما يوصف بالكسل والاتكالية في حالة الفرد العادي. فماذا يمكن أن يوصف إدمان قيادة شعب كبير، واقع تحت الاستعمار ووحشيته، على الانتظار لأكثر من عقدين لمعجزة تأتي من مراهنة على تغير في أخلاقية العدوّ، وحليفه المطلق.

بعد عودة بنيامين نتنياهو مظفرًا رئيسًا لنظام الأبرتهايد الكولونيالي على صهوة جوادٍ آخر، من طينته ولونه، يقف فريق أوسلو الآن مشدوهًا، خاصة وأن الجواد (الجنرال بني غانتس) الذي راهن عليه هذا الفريق، ومعه شبيههُ داخل الخط الأخضر، هو ذاته الذي سرّع دفن الأحلام والأوهام القاتلة. أليست هذه فرصة أخرى للتحرر من الوهم والشلل، وفتح العقول وإطلاق المخيلة السياسية المجمدة في ثلاجة المقاطعة؟

ربما، وبناءً على التجربة الماضية والمراهنات المتكررة، سيظل هناك من يصر على عدم قطع الخيوط مع هذه الأوهام، ليظل الشعب الفلسطيني مرهونًا بهذه الطبقة السياسية، محرومًا من الآمال والرؤى التي تمكنه من إطلاق طاقاته نحو تغيير واقعه، الذي تشتد قسوته وبؤسه. ليس سهلا بل ربما غير ممكنٍ البتة، إحداث قطيعة مع الأوهام والفرضيات المميتة، كونها تمأسست وتأدلجت، مصلحيًا وطبقيًا، دون فعلٍ جماعي من خارج مؤسساتها، التي باتت، والدور الذي تلعبه، مصلحة لما يسمى المجتمع الدولي، الذي يدعم إسرائيل ويغطي على جرائمها.

لقد عطّل العُقم والعجز لدى المتعلقين بالأوهام، إمكانية قراءة الخريطة الإسرائيلية التي تمر بتحولات جذرية منذ عقود، وخصوصًا في العقد الأخير الذي بات تحالف اليمين واليمين القومي والديني الاستيطاني مهيمنًا على مفاصل الكيان الاستعماري ومجذرًا مشروعه الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس، وانتهاء بدسترة هذا المشروع من خلال "قانون القومية". وقد تساءل الباحثون والمفكرون الفلسطينيون، مرارًا، حول جدوى تلك المراكز البحثية التي تحيط بسلطة أوسلو، والتقارير التي تصلها، والأموال التي تصرفها. سبب آخر وراء هذا العقم، هو اختزال قيادة السلطة في شخص واحد أو في فريق صغير تجسيدًا لحكم الأوليغارشية.

لقد اختفى ما يسمى معسكر السلام الإسرائيلي منذ عقدين، وجرت مياه كثيرة جرفت معها ما تبقى من اليسار الصهيوني، وظهرت إسرائيل على طبيعتها الأصلية؛ نظام استعماري استيطاني إحلالي، وفصل عنصري متغطرس لا يأبه لا بالقيادة الفلسطينية، ولا بالقانون الدولي، ولا بالمعايير الإنسانية.

ما العمل إزاء ذلك؟

ألا يجب أن يكون الرد الفلسطيني مستندًا إلى هذه القراءة لإسرائيل؟ ألا يستحق ذلك مراجعة حقيقية لمجمل هذا النهج، بعد كل هذه الخسائر الفادحة التي لحقت بالمشروع الوطني التحرري، التي ستواجهها الأجيال الفلسطينية القادمة، وتنشغل بإعادة تكوين الرؤية والمشروع؟ ألم يحن الوقت للعودة إلى جذور الصراع، وتمزيق اتفاقيات الاستسلام السياسية والاقتصادية التي نرزح تحتها، والتي أنتجت وكيلا فلسطينيا بات يحمي امتيازات المستوطنين والمستعمرين؟

لقد أنتج المثقفون الفلسطينيون المستقلون النقديون، من الجيل القديم والجديد، خلال فترة المحنة المستمرّة، مراجعات هامة وقدموا اجتهادات جديرة بالوقوف عندها جماعيًا، لصياغة خارطة طريق تستعيد الرواية الفلسطينية وتستعيد وحدة الشعب، وتواجه العالم بخطاب تحرري ديمقراطي أخلاقي، يتم العمل عليه بالمدى التاريخي. وظهرت مبادرات عديدة لإعادة القيادات إلى الصواب دون جدوى.

ما معناه، إذا كانت الطريق سُدت أمام حل الدولة في الضفة والقطاع، خصوصًا بعد "قانون القومية" والخطة الأميركية - الإسرائيلية، بعد كل التنازلات واتفاقات الاستسلام التي أقدمت عليها القيادة الفلسطينية، فإنه لم يبق أي حجة بمواصلة التعلق بالأوهام وبالامتيازات التي راكمتها الطبقة السياسية والاجتماعية، من خلال العلاقات الكولونيالية التي نشأت وتطورت خلال حقبة أوسلو، كبديل عن التنمية الاقتصادية الشعبية المستقلة، التي تمكن الفلسطيني من الصمود والمقاومة، والتأسيس لحياة إنسانية يومية، وكفاحية جديدة، تستعيد شعوره بالكرامة والانتماء، لوطن ولقيم.

نحن اليوم في ظل واقع كولونيالي عدواني صارخ في كل فلسطين التاريخية، وأمام عدو مستعمر متوحش، يرفض حتى التقسيمات التي أُجبرنا على قبولها؛ فلسطينيو الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، واللاجئون، فلسطينيو 48، اعتقادا منا أن هذا التقسيم قد يسهل على المستعمر قبول إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967. وإذ بالمستعمر يرفض أي شكل من أشكال الحقوق السياسية أو الجماعية لأي جزء من الشعب الفلسطيني، حتى الحق في المساواة، لفلسطينيي 48. أما اللاجئون، أساس القضية الفلسطينية، فقد بات أمرهم مركونًا في زوايا التجاهل والإنكار الكامل.

وهكذا تواطؤنا مع هذا التقسيم والتجزئة، واستيقظنا على حالة في غاية الرثة. وقد حان الوقت لإصلاح ذلك، على الأقل على المستوى الثقافي والتاريخي، والبدء بالتصرف كشعب واحد، تربطه الأرض الواحدة والمصير الواحد.

إن التعويل الأساسي في مشروع التغيير، هو على الأفراد والحراكات الأكاديمية والمثقفين، والحراكات الشبابية، والأطر واللجان الشعبية ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات النقابية والمهنية التي نجت من عملية التخريب الأخلاقي، ومن عملية الاستتباع لمباني السلطة المسؤولة عن كل هذا الإخفاق، وحافظت على جمرة الرفض. لم يعد أمام الجميع أي خيار آخر سوى القطع مع القديم والبدء بالتحرك نحو مخرجٍ آمن، تكون الخطوة الأولى استعادة الوعي.

التعليقات