02/05/2020 - 12:00

إسقاط فلسفة "معذّبي الأرض" و"تعليم المقهورين" على واقع غزة

شريحة كبيرة من موظفي السلطة في غزة ما فتئت تستجدي السلطة في رام الله، ولا تكفّ منذ ثلاث سنوات على شكرها وامتنانها سلفا على نيتها بحل الأزمة عبر تصريحات تتبع سياسة مماطلة ممنهجة، ولم تحل الأزمة حتى اليوم.

إسقاط فلسفة

أزمة رواتب مستمرّة في قطاع غزة (رويترز)

في أواخر شهر نيسان/أبريل الماضي نشرت "الوقائع الفلسطينية" في عددها 165 قرارين قضيا بتعديل قانون التقاعد العام، وقانون مكافآت ورواتب أعضاء المجلس التشريعي وأعضاء الحكومة والمحافظين. منحت تلك القرارات امتيازات مالية ومنصبية لأصحاب المواقع العليا من تلك الشريحة المذكورة، في الوقت الذي تعاني فيه موازنة السلطة الفلسطينية من أزمة مالية نتيجة لاستمرار حجز الاحتلال الإسرائيلي الأموال التي يجبيها من أموال الضرائب لصالح السلطة، وفي الوقت الذي يعاني فيه الشعب الفلسطيني من تداعيات الإغلاق بسبب انتشار جائحة كورونا. أثارت قرارات السلطة ردود فعل شعبية غاضبة، مدعومة ببيانات من بعض المنظمات الحقوقية مثل الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان التي استهجنت إصدار هذه التعديلات ما أجبر رئيس السلطة، محمود عباس، على إصدار قرار بإلغائها بعد يومين فقط من الاحتجاج.

لم تحاكي قرارات السلطة بصرف مكافآت مالية لأصحاب المناصب العليا في السلطة الحقوق المالية لموظفي السلطة في غزة الذين منذ ثلاث سنوات يعانون من سياسات السلطة الفلسطينية النقدية لإخضاع القطاع والتي اعتمدت إستراتيجية اقتطاع رواتب، تحويل للتقاعد مبكر، قطع لبعض الرواتب بالكامل، وحجز معاشات بعض عائلات الشهداء والأسرى. وإذا نزعنا سياق الاستعمار الاستيطاني والأبرتهايد والاحتلال الإسرائيلي الواقع على الفلسطيني نفسه سواء في الضفة أو غزة أو مناطق الـ48، وخاصّة بعد التهديدات التي تشكلها صفقة القرن على القضية الفلسطينية برمتها، وقرار تشكيل حكومة يمينية صهيونية برأسين (غانتس- نتنياهو) متفقة بالكامل على ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية المحتلة، وتأثير كل ذلك على جوهر القضية الفلسطينية من حيث كونها قضية تحرر وطني ونضال ضد استعمار استيطاني تحتاج، كشرط أساسي للوصول لأهدافها، إلى وحدة وطنية تشمل فئات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.

نجد أن هناك ثمة تعقيدات في الوضع الغزي قد لا يحسن فهمها المواطن أو الموظف العادي. تلك التعقيدات يرجع أساسها لخلافات فصيلي حماس وفتح وتناحرهما على سلطة بلا سلطة حقيقية تحت حراب الاحتلال على حساب حقوق الإنسان الفلسطيني. وفشل كل الفصائل سواء تلك المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية أو الموجودة خارجها، في إقناع السلطة العدولَ عن تلك الإجراءات غير القانونية وما تحمله من مناطقية تجلت في إقصاء 2 مليون فلسطيني في غزة. ما كشف، أيضًا، العجز في هيكلية نقابات الموظفين وقصور فهمها لدورها المنوط منها.

شريحة كبيرة من موظفي السلطة في غزة ما فتئت تستجدي السلطة في رام الله، ولا تكفّ منذ ثلاث سنوات على شكرها وامتنانها سلفا على نيتها بحل الأزمة عبر تصريحات تتبع سياسة مماطلة ممنهجة، ولم تحل الأزمة حتى اليوم.

لتفسير هذه الظاهرة بشكل تحليلي ونقدي بحت، وبالنظر إلى ما أطلق عليه العديد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية "سياسة العقاب الجماعي" المتبعة من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية التي تتحكم برواتب الموظفين في غزة من جهة، والاستجداء الذي يمارسه بعض موظفي السلطة لاستعادة رواتبهم من جهة أخرى، يمكن الاسترشاد بتنظيرات المفكرين الكبيرين فرانتز فانون وباولو فريري على سبيل المثال لا الحصر. حيث جادلا في حيثيات العلاقة القهرية بين المستعمِر المضطهِد الأبيض والمستعمَر المضطهَد الأسود/الملون وكيفية انتقالها لتتحول بذاتها بعد "الاستقلال" إلى العلاقة بين الطبقة البرجوازية الوطنية الرثة من الشعب والطبقات الكادحة. وقد تجلى ذلك في فلسفة فانون في كتابه "معذبو الأرض" مجادلًا أن السلطة تنتقل من الأيادي البيضاء إلى الأيادي السوداء، كما جادل فريري في كتابه "تعليم المقهورين" عن انعكاس الواقع المتناقض الذي يعيشه المقهورين وكيف ظلت صورة الرجل في مخيلتهم هي صورة القاهر.

ولعل أبرز ما يمكن استخلاصه من هذه التنظيرات بما ينسجم مع سياق المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني اليوم يمكن فرزه في محورين. المحور الأول، أن البرجوازية الوطنية التي لم تشارك في الثورات الشعبية مشاركة جادة بل اكتفت بمفاوضات سياسية مع المستعمِر لتلتقط فتات الامتيازات المذلة، وحتى تلك التي كانت جزءا من مسيرة التحرر قد تحولت إلى صورة عن المستعمِر وقد نسخت أدوات قهره واستخدمته ضد شعوبها. مع الفارق أن الشعب الفلسطيني لا يزال يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي ما يعقد الامور أكثر. أما المحور الثاني، أن الإنسان المقهور الذي تطبع في لا وعيه تحمّله للاضطهاد وامتهان كرامته وتسوله لحقه نجح في التصدي للمحتل الأجنبي، لكن خارت قواه أمام الحاكم من أبناء جلدته. بل في الواقع بات عونًا له من أجل استغلاله ونهبه وسرقة لقمة عيشه.

من هنا، نتيقن أن القراءة هي طوق النجاة المتبقي للمقهور. أن التحرر لا ينفصل عن الثقافة، والمستقبل لا يمكن استشرافه دون التعلم من تجارب الشعوب. وفي هذا يركز كتاب "تعليم المقهورين" على تغيير منظومة التعليم بالكامل لخلق نزعة نقدية وبذرة ثورية نتاجها نزع مخلفات تجربة الاستعمار على سيكولوجيا الشعوب الحرة. كي تبقى حرة إلى الأبد.


* كاتبة فلسطينية وناشطة نسوية مقيمة في غزة.

التعليقات