29/05/2020 - 19:36

كورونا: علاقة الخوف والسلطة وحالة الطوارئ

في المقدار ذاته الذي يشكل الخوف فرصة للسلطة، فهو فرصة المجتمع، وتحديدًا في حالتنا، لإعادة بناء نفسه وتنظيم نفسه وصياغة مفاهيم وقيم جمعية، بهدف زعزعة العلاقات غير المتساوية بينه وبين السلطة.

كورونا: علاقة الخوف والسلطة وحالة الطوارئ

مدخل

في الأزمات، لا يستفيد غير السلطة عمومًا، فهي الوحيدة القادرة على تحويل وترجمة خوف الناس إلى مزيد من السلطة، وكم بالحري حين نتحدث عن خوف غير خاضع لسيطرة الإنسان، بل ومتحرر من علمه الحديث، على الرغم من وعد الدولة الحديثة بضبط الخوف من الطبيعة وإخضاعها للعقل البشري، ومن ثم السيطرة على العالم لتحقيق السعادة الأبدية. لم تفشل الدولة الحديثة في هذا فسحب، بل ألقت مسؤولية الأمن على الأفراد واستطاعت توزيع المخاوف الكبرى على تفاصيل الحياة اليومية، بالتالي أصبحت حياتنا عبارة عن نضال أبدي ضد الخوف.

السلطة لا تحتكر الخوف، بل تحتكر تصدير الخوف وتعريف ما يقع ضمن الأزمات، بمعنى أن الخوف يستمد شرعيته الأخلاقية بعبوره من طريق السلطة، وحتى يكون مبررًا يجب أن تصادق السلطة عليه. تساهم أجهزة الدولة بتصدير الأزمة، وبيروقراطية الدولة التي تفصل حقولا مختلفة – منها ما يسمى بوزارة الصحة على سبيل المثال- تسعى لإيجاد مخرج من الأزمة. أما من يخرج عن ذاك الإجماع السلطوي، فهو بالحد الأدنى غير أخلاقي، ويسعى لضرب المصلحة العامة. كل ذلك يجري في فضاء لا يسمح لأي عملية مسائلة للسلطة.

تنطلق هذه الأسطر من أن على مدار تاريخ تطور شكل السلطة الذي استقر أخيرًا بالدولة الحديثة، كان ولا زال الخوف الغطاء الشرعي الأخلاقي لوجود السلطة، بل لا معنى لوجودها في غياب الخوف، فنتنازل عن كل سلطة نملكها مقابل الحصول على الأمان، فتحول الخوف بجميع صوره - عدا السائلة - ضمانًا لديمومة الدولة وزيادة قوتها. بالتالي، أزمة وباء كورونا وما تنتجه من خوف وكيفيّة تعامل السلطة معه، ليس استثناء بل قاعدة.

فكيف عبّرت إسرائيل عن نفسها بوصفها دولة حديثة وحالة استعمارية تجاه المجتمع الفلسطيني؟

قوننة القمع

على الرغم من العلاقة الوثيقة بين إعلان أنظمة الطوارئ وتجديدها بشكل دوري في إسرائيل منذ إقامتها، إذ أعلنت حالة الطوارئ بعد أربعة أيام من إعلان إقامتها، أي في يوم 19 أيار/ مايو 1948، واستندت بذلك على قانون الطوارئ الذي فرضه الاستعمار البريطاني في فلسطين في العام 1945.

ساهمت أنظمة الطوارئ في تأسيس بنية "عقلانية للقمع" في المنظومة القانونية الإسرائيلية، من خلالها يتم خلق فجوة بين قانونية القانون وأخلاقيته، ليس بهدف الحفاظ على أخلاقية القانون أو عدالته، إنما بهدف قوننة القمع كإجراء روتيني يحافظ على كل التوازنات بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في إسرائيل.

إذ سعت من خلال ذلك إلى بناء إطارمن الإجراءات الاستثنائية الدائمة، والحفاظ على نظام لممارسة القمع على الفلسطينيين. احتل نظام الطوارئ على نحو نموذجي حيزًا مركزيًا في النظام القانوني بكل ما يخص الفلسطيني؛ السيطرة على حيزه المادي وأرضه، ضبط حركته، وتحديد علاقته مع العالم العربي ضمن رؤية إسرائيلية ترى في ذلك "تواصلا مع العدو"، ومصادرة حريته ضمن اعتقال مطلق، ليس على المستوى الزمني فحسب، بل على الطبيعة القانونية للاعتقال التي تلغي بشكل جذري مكانته القانونية ضمن ما يسمى بالاعتقال الإداري.

صادرت إسرائيل خوف الفلسطيني واستبدلته بمزيد من السلطة، وجرت قوننة هذه العملية، إذ قابلت إسرائيل حق الفلسطيني بالتعامل مع إسرائيل كحالة استعمارية بمزيد من السلطة وبمزيد من العنف الرمزي، الذي يهدف إلى إلغاء الوجود الفلسطيني، وإلى تأبيد الهيمنة الإسرائيلية على المكان وفي وعي الفلسطيني، وقد استغلت أخيرًا الخوف الذي سببه وباء فيروس كورونا، بالتالي اتخذ شكل الخوف دور تطبيع علاقة المجتمع الفلسطيني مع حالة الطوارئ التي أعلنتها إسرائيل، مع كل إسقاطاتها من تدخل وإدارة المجلس القومي ودخول "الجبهة الداخلية" في الجيش الإسرائيلي وبزاتها العسكرية الخضراء وطرودها الغذائية البائسة.

حالة الطوارئ تكشف بشكل واضح جوهر سلطة الدولة، وتظهر السلطة بشكلها الحقيقي كما هي، أي بشكل مجرد، أداة تحتكر القوة، إذ تبرهن الدولة أنه لا حاجة للاستناد إلى القانون من أجل صناعة القانون.

كيف اختارت إسرائيل أن تعبر عن ذاتها أمام المجتمع الفلسطيني في الداخل خلال أزمة كورونا؟ دوريات الشرطة تجوب البلدات العربية ومكبرات الصوت الخاصة بها تصدح في الشوارع، لا لشيء جدي إلا لأنها ببساطة باستطاعتها فعل ذلك؛ وكذلك إغلاق شوارع فرعية بين الحارات في البلدات العربية، لا لتنظيم حركة الناس ضمن رؤية تهدف لحماية الناس، بل لتوكيد ولبسط الهيمنة على ذاك الحيز المتحرر من أي علاقات سلطوية، حتى أضحى المكان غريبًا، وأُفرغ من قيمته حتى الجمالية وذوت حالة الاغتراب الذي يعيشها الفلسطيني منذ النكبة.

أما عن دور الجيش، فمن نافلة القول إنه "لربما إسرائيل لا تعرف أن تنتصر إلا من خلال الجيش"، إذ وزع بعض الطرود الغذائية في البلدات العربية، ولم يكن اتصالا مباشرًا بين الجيش الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني، حيث تمت العملية ضمن وكيل إسرائيل – من وجهة نظرها -، المجالس المحلية أي الحكم المحلي للسلطة التنفيذية المركزية. أما عن الطرود الغذائية فهي فائض عن حاجة المجتمع الإسرائيلي الذي يقع في أولوية علوية أبدية، أو لأنها لا تلبي المعايير التي تحددها الشريعة اليهودية، فهي ليست "كاشير" بما فيه الكفاية لقضاء عيد الفصح اليهودي، وبالتالي جرت الاتاحة للفلسطيني بالسعي وراء فائض المجتمع الإسرائيلي –وهو "امتياز حصري" لفلسطينيي الداخل- بناء على مدى صلة المجلس المحلي بوزير الداخلية. أما السعي فلا يعني أبدًا تحقيق النتيجة.

نظرة إلى الأمام

الخوف هو جزء من الهوية الإنسانية وتعبير عن إنسانية الإنسان، لذلك لم تكن هناك محاولة للانتقاص من الخوف، ولربما أن كاتب هذه السطور قد أفرط في خوفه، بالتالي كنوع من الهروب منه، أصبحت الكتابة عن الخوف ضمن محاولة تفكيكه وتجريده من رهبته، ولتسليط الضوء على توظيف الخوف من قبل السلطة بهدف إحكام سيطرتها، ومحاولة مقايضة لجوء الفرد لها بهدف الحصول على الأمان.

الأزمات فرصة حقيقية لمعاينة عيوب السلطة، ومن ثم القضاء على الوهم الذي يربط الفرد مع السلطة، وتفتيت محاولة السلطة باستثمار "خطر طبي" لتعميق تغلغلها، وحتى لا نقع أسرى لخوف صدرته السلطة، بل نترجم ذاك الخوف إلى فعل سياسي نحطم من خلاله أسطورة السلطة في مواجهة الأزمات، ونحوله إلى فعل نحرر به أنفسنا من لجوئنا إلى الدولة للشعور بالأمان. ففي المقدار ذاته الذي يشكل الخوف فرصة للسلطة، فهو فرصة المجتمع، وتحديدًا في حالتنا، لإعادة بناء نفسه وتنظيم نفسه وصياغة مفاهيم وقيم جمعية، بهدف زعزعة العلاقات غير المتساوية بينه وبين السلطة.


محمد عواد، ناشط سياسي وطالب حقوق في جامعة تل أبيب.

التعليقات