16/07/2020 - 18:57

عن رفض صناعة السلطة لنظام الحقيقة: سليمان العبيد نموذجًا

تحت وطأة التعذيب، وضمن تشكيل وتفعيل آليات قوّة لتطويق سليمان العبيد وكسر إرادته، "اعترف" سليمان العبيد في غرفة التحقيق بشيء لم يقترفه ولم يسمع عنه ولم يتخيّله. وهذا انتصار لخطاب الحقيقة الخاص بالسلطة.

عن رفض صناعة السلطة لنظام الحقيقة: سليمان العبيد نموذجًا

سليمان العبيد عن الإفراج عنه ("عرب ٤٨")

مدخل

هل من الممكن أن نتخيل وضعا نكون فيه غير خاضعين للسلطة؟ أي سلطة كانت. هل من الممكن أن نتحرّر من أي شيء يقيّد حريّتنا؟ والحرية أعني بها "التطابق بين الخيال والقدرة على الفعل". السلطة متجذرة فينا. في أدقّ تفاصيل حياتنا: كيف نتحدث؟ ومتى نفكر؟ وما هي ضوابط حدود خيالنا؟ حتى أنّ وعيَنا المناهضَ للسلطة مشتقٌّ بالضرورة من السلطة. أي أنّنا نريد إلغاء وهدم السلطة، لكنّ عملية الإلغاء مشروطة بتواجد السلطة.
السلطة ملازمة للوجود البشري. موجودة في مجمل العلاقات الإنسانية وليست ضمن علاقة عامودية بين ثنائيات متقابلة كالدولة والفرد مثلا. شرط لاستمراريتها هو إنتاجها لذاتها كل الوقت، في صيغ ومفاهيم جديدة، بل والأنكى من ذلك "إنتاجها لأدوات إنتاجها"، بالتالي تفرض علينا بمراكمة التقصي والنبش وراء صورها، وإنتاج أدواتٍ معرفيّةٍ ووسائلَ نضاليّةٍ جديدة، سعيًا منّا للقضاء على حالة اللاتوازن في علاقات القوة بيننا وبين السلطة. لذلك، حتى لا نقع في شعور يفترض أنّنا نخضع "للّاخضوع"، أي نرفض الامتثال لأيّ سلطة كانت لمجرد كونها سلطة، فجزءٌ من مركبات السلطة، مقاومة السلطة للسلطة.

الخطاب الحقوقي: ما وراء الحكاية الرسمية

"لكنه هو ما نصارع من أجله وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها" (فوكو، "نظام الخطاب").

أمّا السلطة فهي تبتكر "نظام الحقيقة". فالحقيقة ليست حرّة بالطبيعة، وعملية إنتاجها ترافقها اختراقات روابط السلطة، من خلال توظيف المعرفة لترسيخ السلطة، أي تصبح المعرفة وسيطا لمحاولة دائمة لعقلنة التسلط وتطبيعه في مجمل سلوكياتنا الإنسانية. فتطرح السلطة حقائقها لكونها تسيطر فعليًا على وسائل إنتاج الحقيقة، مثل الإعلام، عبر تصدير وتعميم "حقائق" على الأفراد. بالتالي، احتكارها لصياغة وعي واقعي "وحقيقي". أمّا الجامعات –كأداة إنتاج للحقيقة- فتسعى لبناء ذات وطنية تتلاءم مع رؤية الدولة، بمعنى يصبح الفرد شاهدا على حقيقة الدولة ويصبح وجود الدولة حقيقة حتمية.

أمّا الخطاب الحقوقي –كوسيلة إنتاج للحقيقة- فطُرح وسُوّق على أنه أداة لكبح جموح السلطة اللامتناهي مقابل الفرد. وبالتالي المنظومة القانونية وخطابها هما أداتان لمواجهة السلطة منتظمان في نموذج "عقلاني" قائم على فجوة بين ما يسمى "حقل قانوني مستقل" من جهة، والأخلاق من جهة أخرى.

وتشتمل هذه المنظومة على مجموعة من الإجراءات البيروقراطية والتوازنات بين السلطات المختلفة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) هدفها الحد من توغل السلطة في شكلها الحديث –الدولة-. غير أنّ هذه الخطابات حول المنظومة القانونية، لم تكن قد تكاثرت خارج السلطة أو ضدًّا عليها، وإنّما صدرت عن نفس الموقع ذاته الذي كانت تمارس فيه – أي السلطة ذاتها-.

فالسلطة تُنظّم وتراقب عملية محاولة كبحها وتقييدها، هي تحدد الطريقة الذي يجري فيها ذلك، وما هو شكل الادّعاءات القانونية، وكيفية عرضها. بالتالي، لا يمكن تجاوز هذا السقف ووجب الخضوع له والامتثال له. فاستعمال أدوات السلطة واللجوء إلى مساحتها وفضائها، يؤدّيان إلى تكثيف وجود السلطة والقوة، من خلال تنظيم وجودها في مسميات وقوالب مؤسساتية حقوقية، فهي لا تضع حدودا للسلطة، إنّما تمدّد أشكالها المتنوعة ضمن خطوط اختراق لا متناهية، ومن خلال تجريد وإفراغ قيمة مثل العدالة من مضمونها، فالعدالة تتجلى في أن تبقى السلطة وتستمر، وتعيد إنتاج حقها في الوجود، من خلال تبني لغة ومفردات السلطة وتبني عيون السلطة، أيضًا، لذلك فتبنّي المجتمع لحكم السلطة انتصارٌ لنظام الحقيقة الخاص بالسلطة.

وكوسيلة لممارسة السلطة تنظمت في كل مكان، وفي أشكال وصور مختلفة ومتجددة. وعلى اعتبار أن الخطاب الحقوقي هو شكل من أشكال السلطة، وهو أبعد ما يكون عن قيم مثل: العدالة والحرية والدفاع عن الفرد والمجتمع. فالسلطة لا تعاقب من أجل حماية المجتمع، حيث لا تكتفي بضبط سلوك الأفراد، ضمن قوانين تحدد شكل العلاقة بين الأفراد، وبين الفرد والدولة والمجتمع، بل تعاقب كل من لا يخضع خياله للسلطة: فمن يجرؤ على أن يتخيل وضعا لا يحتكم فيه لقوانين السلطة وجبت معاقبته.

أمّا العقاب فيتحول إلى طقس سياسي، من خلاله تُبسَط هيمنة السلطة، وهُنا تُوظّف العدالة، فالعقاب تكريم للعدالة بالذات، حيث تتجلى بكل قوتها.

الدولة: إلهٌ لا يخطئ

وعلى خطى أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيلة"، الذي تطرق فيه إلى علاقة القومية وتشكل الدولة القومية الحديثة، كتعبير عن حق الأمة السيادية، فالانتماء القومي يتم التعامل معه كظاهرة طبيعية في الدولة الحديثة، من خلاله تتشكل الدولة وعن طريقه تأخذ شرعيتها، فالقومية تخيل اجتماعي جماعي ومشترك بأدوات واقعية، وهذا ما يعطي الدولة بعدا واقعيا في الخطابات اليومية.

نحن لا نفهم معنى الدولة بشكلها العاري، بالتالي غير قادرين على تعريف الدولة بشكل مجرّد، بل نشعر ونلمس وجودها، فمثلا، نخرج إلى الشارع فنرى الشرطي – كتعبير عن وجود الدولة - يحاول تنظيم حركة الناس ضمن رؤية "عقلانية"، ممنوع تجاوزها أو خرقها. بالتّالي، ندرك ونستشعر بفضاء اجتماعي محتكم للدولة، لكن لا نفهم معنى الدولة ببعدها الضيق، فهي متخيلة لكن بأدوات واقعية. ومن هذا المعنى تأتي شرعية المحكمة كتعبير عن وجود الدولة، هي متخيلة ومستمدة منا، هي ليست مطلقة، فالامتثال لقرار القاضي باعتباره صحيحا ومطلقا، لمجرد كونه قاضيا في محكمة تابعة للدولة، مرهونٌ باحتكامنا لخيال اجتماعي سياسي مشترك.

وعلى اعتبار أنّ قبولنا للدولة مرهون بضبط حدود خيالنا وفقا للدولة. أي تستمد الدولة شرعية وجودها وشرعية حركتها منا، وهي تفعل باسمنا، تنزع حياة المتهم باسم الحفاظ على حياتنا، وتدين المتهم باسمنا، وتبرّئ المتهم باسمنا، ونحن كمجتمع نتبنى هذا القرار وندين "المتهم" اجتماعيا، وننبذه ونرفض وجوده بيننا، ألا يحق لنا أن نسائل السلطة؟ ألا يحق لنا أن ننبش وراء كل ما تفعله السلطة باسمنا؟ ألا يحق لنا أن نفكّك كل شيء تحاول السلطة تعميمه؟ ألا تقع هذه الأسئلة ضمن واجبنا تجاه إنسانيّتنا وحريتنا وكرامتنا ووجودنا؟

أين سليمان العبيد من هذا؟

عانق سليمان العبيد الحرية في تاريخ 17. 06. 20، بعد قرابة 27 عاما قضاها في السجون الإسرائيلية. خرج لوحده. لم يقف ليستقبله أحد. لم نتكبّد عناء السفر لتهنئته بنيله حريته. لم نساهم بتحويل معاناته إلى قضيّة عامّة نتفاعل جميعا معها، ونناضل من أجلنا جميعا. لم نسع جاهدين تحويل مشاعر الظلم إلى فعل سياسي يصطدم مع السلطة ويزعزع علاقات القوة غير المتكافئة. وأخيرًا، عند خروج سليمان العبيد، لم نواجه أنفسنا ضمن تواطئ اجتماعي سياسي تام، مع علاقتنا كمجتمع مع نظام الحقيقة الخاص بالسلطة. لم نسائل أنفسنا عن أدوات إنتاج الحقيقة، بل تبيناها بثقة عارية. وفي اللحظة ذاتها، أقررنا بمشروعية تغلغل السلطة بيننا وفينا.
تحت وطأة التعذيب، وضمن تشكيل وتفعيل آليات قوّة لتطويق سليمان العبيد وكسر إرادته، "اعترف" سليمان العبيد في غرفة التحقيق بشيء لم يقترفه ولم يسمع عنه ولم يتخيّله. وهذا انتصار لخطاب الحقيقة الخاص بالسلطة، فإنّ سلطة الهيمنة ليست من جانب الذي يتكلم ويعترف، لكن من جانب الذي يصغي ويسكت. أمّا بعد، حين أدرك قوته وأيقن أن جسده تحوّل إلى ساحة مواجهة وصراع بينه وبين السلطة فتمسك بحقيقته ونظامها الخاص، بأدواتها ومنطقها ومفرداتها ولغتها البسيطة والمتحررة من أي علاقات سلطوية. "أنا بريء" ردّدها طوال 27 سنة إلى حدّ الساعة، متحديا ورافضا تعميم نظام الحقيقة الخاص بالسلطة. رَفَضَ خطاب المحكمة وأيقنَ أنَّ خطاب الحقيقة هذا، الخاصّ بالسّلطة، إنّما يأخذ مفعوله ويجسّد هيمنته، لا في من يتلقاه، ولكن في من ينتزعه منه. رفض الامتثال له وفضّل زعزعة كل العلاقات السلطوية الخاصة بصياغة حقيقة السلطة المنتظمة، رفض سقفه أعلى من أن يقبل أن يمتثل إلى طلب التخفيف عن حكمه.

هي دعوة لنا لإعادة النظر في مجمل كل علاقتنا مع خطاب الحقيقة الخاص بالسلطة، ومساءلة أنفسنا: كم شخص كان يتوجب عليه أن يكون سليمان العبيد وانكسر؟ كم مرة أخفقنا في تصديق أمثال سليمان العبيد؟

التعليقات