11/08/2020 - 21:58

الفساد طبيعة بشريّة من الملك حتى الخفير

لن يرضى الشعب اللبناني بالعودة إلى ما كان قبل انفجار المرفأ، ولن يقبل بمجرد استبدال أسماء بأخرى. الشعب يريد الحياة، فهل يستطيع اللبنانيون أن يتخلصوا من السرطان الطائفي الفاسد الذي يفتك بكل الجسد اللبناني؟

الفساد طبيعة بشريّة من الملك حتى الخفير

محتج لبناني يحمل علم بلاده في بيروت (أ ب)

عندما رفع اللبنانيون شعار"كِلّن يعني كِلّن"، قصدوا القول، إنه لا قداسة ولا عصمة لأحد، وهذا يشمل رجل الدين والعلماني والعسكري والمدني والأنثى والذكر ومثلي الجنس، والتابع لباريس أو لطهران أو لواشنطن أو لتل أبيب، ومن جميع المذاهب والطوائف والمناطق.

من شروط نجاح الحكم، احترام القيادة السّياسية، ولكن الاحترام يتحول إلى مشكلة جديّة عندما يصبح تقديسا، لأن التقديس يعني تقبّل تصرفات وتفسيرات وتحليلات القائد لكل حدث سياسي أو عسكري أو اقتصادي، دون نقد أو تفكير أو مراجعة منطقية.

تتفاقم هذه المشكلة عندما تحيط بهؤلاء القادة هالة مقدّسة، دينية أو مذهبية، فيصبح انتقادهم أشدَّ حساسية وأكثر تعقيدًا، حيث تكون تهمة الطائفية جاهزة للمعارضين، أو التهديد بتفجير الوضع.

كلما امتد الزمن، تمسّكت كل طائفة بزعيمها، لتدافع عنه بشراسة وتهاجم من ينتقده، لأن مصير الفرد في المجتمع الطائفي مرتبط بمصير الطائفة وليس بمصير الوطن، ويصبح حينها معيار الوطنية هو الالتفاف حول زعيم الطائفة، سواء كان هذا الزعيم ابن "بيك" أو ابن فلاح بسيط، حتى أن بعض القادة الطائفيين قد يفتعلون مشاكل وقلاقل في ما بينهم، ليرسّخوا سيطرتهم على رعيتهم، وليحسّن كلٌ منهم وضعَه داخل طائفته، وليقمع معارضيه، أو من يحاولون منافسته على التزعّم في مكانه.

يتفاقم الفساد حيث لا توجد محاسبة للزعماء، وقوانين صارمة فوق الجميع، وحيث لا شفافية وقدرة على الوصول إلى المعلومات التي تهم الشأن العام.

كثير من القادة بدأوا حياتهم السياسية في الكفاح ضد الفساد أو ضد الاحتلال والاستعمار، ومنهم من اجترح بطولات، ولكن طول المكوث في السلطة وغياب الرقابة، سمحا لهم بأن ينحرفوا وأن يفسدوا.

كثيرون من فاسدي هذه الأيام في السلطة، كانوا يومًا جنودًا أو فدائيين، ولكنهم تغيّروا في السلطة، إذ صاروا يملكون الثروات الهائلة، وفسدوا مثل المياه الراكدة.

موضوع فساد الثوار بعد وصولهم السلطة، عالجته رواية الطّاهر وطار؛ "الزلزال"، والكثير من قصصه القصيرة.

جمال عبد الناصر كان رجلا شريفّا نقي اليدين، يشهد له في ذلك العدو والصديق، ولكن عدم قدرة جهازه القضائي على محاسبة من كانوا حوله، وعدم قدرة الناس على النقد، بسبب العنف الذي واجهوه من جهاز المخابرات الحديدي، واحتماء الفاسدين خلف شخصية القائد المحبوب، جرّعته وجرعت الأمة هزيمة نكراء، لم تُمح آثارها حتى يومنا.

حافظ الأسد بدأ الحكم كضابط في سلاح الجو السوري، ولكنه تحول إلى دكتاتور، وسعى لتوريث الحكم لابنه الذي ما زال متمسّكا بالسلطة التي غرقت في الفساد.

عدم تحديد المدّة الزمنية للمكوث في الحكم، يحوّل الجهاز كله إلى مستنقع آسن (متغيّر اللون والرائحة).

الفساد موجود في الطبيعة الإنسانية، الأوروبي مثل العربي والإسرائيلي وغيرهم، إذا ما أتيحت لهم الفرصة، ولهذا يحتاج جهاز الحكم إلى رقابة دائمة، وإلى تنظيف ذاتي، من خلال العقوبة الرادعة، ودستور يسمح بمراقبة الجميع.

ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، قرر في الأيام الأخيرة مغادرة بلاده إلى جهة لم يعلن عنها، وذلك لتورّطه في صفقة فساد بقيمة 100 مليون دولار أخذها من السعودية في ما يسمى"قضية القطار السريع بين مكة والمدينة المنورة"، وذلك مقابل وساطته لشركات إسبانية للحصول على إقامة المشروع، وذلك في عام 2011 قبل تسليمه العرش لابنه فيليبي عام 2014!

الملك كارلوس لا ينقصه شيء، لا مال ولا وجاهة، جلس على العرش منذ العام 1975 حتى تنحيّه عام 2014، فالدولة توفر للقصر تسعة ملايين يورو سنويا، ولكنه طمع في المال، ولعشيقته نصيب منه.

لعبت الصحافة دورًا كبيرًا في الحديث عن صدق الملك وشفافيته وتواضعه ووصفته بالمتقشف، لكن لسوء حظه أنه يوجد قانون في إسبانيا يسمح بمراقبة حسابات أي مسؤول، حتى ولو كان ملكا من سلالة ملوك، وذلك بعد أن أزيلت عنه حصانته الملكية، وهذا أدى إلى كشف حقيقة فساده، رغم أنه كان في يوم ما متواضعًا وصالحًا.

تقديس البعض لشخصية الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني، حسن نصر الله، والحرص على عدم المس بها ولو بكلمة هو تعصّب يحجب الحقيقة، لا نقول إن حسن نصر الله فاسد بمعنى سعيه لربح مالي بشكل شخصي، بل إنني أستبعد ذلك ولكنه رجل سياسي مثل أي سياسي آخر، إضافة إلى أن مرجعيته دينية إيرانية، فهو مستعد لفعل وقول أي شيء لتبرير أو تبرئة تنظيمه مما جرى ويجري، وقد تجلى هذا في زعمه أثناء خطابه الأخير بأنه يعرف ما يدور في ميناء حيفا أكثر من الذي يدور في ميناء بيروت! وذلك لتبرئة حزبه من الشراكة في مسؤولية كارثة المرفأ!

لن يرضى الشعب اللبناني بالعودة إلى ما كان قبل انفجار المرفأ، ولن يقبل بمجرد استبدال أسماء بأخرى. الشعب يريد الحياة، فهل يستطيع اللبنانيون أن يتخلصوا من السرطان الطائفي الفاسد الذي يفتك بكل الجسد اللبناني؟

ليس سهلا إلغاء التقسيمات الطائفية المتجذرة في وعي اللبنانيين وحياتهم اليومية، ولكن كخطوة أولى إلى الأمام، يجب إخضاع الجميع على مستوى واحد تحت طائلة القانون، والبدء بمحاسبة قيادات الطوائف، وكل من كان يعلم بوجود هذا الخطر داخل منطقة مأهولة، حتى ولو كانوا زعماء هذه الطوائف بأنفسهم وليس صغار الموظفين، حينئذ ممكن البدء في مسيرة إصلاح على مراحل قد تطول، ولكن طالما أن المسؤولين الكبار قادرون على التملص من العقاب، فإن المستقبل القريب على الأقل لا يبشر بالخير.

التعليقات