25/12/2020 - 19:45

تأملات في الأسئلة الكبرى في عالم اليوم

عاد الإنسان ليطرح الأسئلة الكبرى، أسئلة الوجود والمعنى والمستقبل وهل بالإمكان إصلاح العالم أو تأسيس نظام أكثر عدلا كبديل عن النظام الإمبريالي وبديل عن الاستبداد والطغيان.

تأملات في الأسئلة الكبرى في عالم اليوم

الربيع العربي فتح الباب على الأسئلة الكبرى

مسيرة الإنسان على الأرض مسيرة شقاء وحروب وموت وصراع وأمراض، كما أنّها مسيرة تقدّم اجتماعي وروحي وثقافي وتكنولوجي مذهل، هذا ما تقوله كتب التاريخ، وهذا ما نشهده اليوم.

تشكّل على مدار عشرات آلاف السنين مجتمع إنساني منظّم، ولكنّه زاخر بتناقضاته وفجواته في آماله وانكساراته.

عاشت الأجيال المتلاحقة تقلّبات حادة في حياتها الجماعية والفردية. فمع نمو المجتمعات وتوسّعها ونشوء المجتمع السياسي تعقّدت الحياة ونشأت حاجات جديدة وتوسّعت طموحات هذه الأجيال، ما ألزمها بابتكار آليات لإدارة حياتها وحلّ خلافاتها وتوزيع الثروة ومناطق النفوذ والسيادة. لا تسير الحياة بطريقة خطيّة مستقيمة، لكنّ حالات التمرد والثورة طالت كل المجتمعات، والتي تبدلت طبيعتها ومطالبها بحسب طبيعة كل حقبة تاريخيّة وطبيعة من يمسك بدفّة الحكم، سواءً كانت طبقة اجتماعية أو قبيلة أو فرد مستبد. وظهر خلال كل هذه الحقب مصلحون وأنبياء ومفكّرون ورجال دين وفلاسفة وقادة مع رسائل إما لإصلاح مجتمعاتهم المحلية وإمّا لإصلاح الإنسان أو الاثنين معًا.

عرفت البشرية في القرنين الماضيين تطورًا صناعيًا وتكنولوجيًا خياليًا، وزيادة الإنتاج بنسب مذهلة ساهمت في رفع مستوى المعيشة والراحة المادية، وأنقذت مئات الملايين من الفقر والمرض والعوز. ورافق هذا التقدم تطوّرٌ عميقٌ في النظام السياسي، من حيث فصل السلطات وتعزيز حرية الناس والأفراد في إطار نظام ديمقراطي مدعوم بآليات تحميه من السلطوية أو الدكتاتورية والاستبداد والانقلابات. وهذا التطور السياسي لم يأت بضربة واحدة بل خلال مسيرة تراكمية طويلة امتدّت على أكثر من ثلاثة قرون، مسيرة تخلّلتها حروب وثورات اجتماعية وعلمية وكشوفات وصراعات دامية داخلية وخارجية، انتهت بترسيخ عقد اجتماعي يحتكم إليه الجميع.

انطلق هذا التطور الحديث من أوروبا، التي ظلت تعيش منذ اضمحلال الإمبراطوريّتين الرومانية والإغريقية حتى بدايات القرن السادس عشر وهي الفترة التي عرفت بالعصور الوسطى المظلمة، التي كانت مظلمة لأوروبا وليس لكل المجتمعات البشرية. فالحقبة نفسها شهدت ثورة العرب وتحقُّقْ وحدتهم وازدهار حضارتهم وتسيّدهم العالم، وهي ثورة أطلقها النبي العربي الثائر، محمد بن عبد الله، من جزيرة العرب تحت راية الإسلام، الذي أطّر العرب في مشروع وحدوي، وحدة حول إله واحد متسام (على أنقاض عبادة الأوثان وقد كانت كل قبيلة تعبد وثنًا خاصًا بها) ومشروع سياسي واحد، بديلٍ عن التشتّت والصراع القبلي وإعادة الاعتبار للإنسان. وقد أخذ الإسلام من تراث العرب القديم ومن دياناتهم المسيحية واليهودية ما معناه أنه محدث لما كان وفاتح الباب لحياة روحية واجتماعية ومساواتية وحديثة لا تميّز بين البشر مقارنةً مع تلك الأزمنة. فالجهل لم يكن مطلقا قبل الإسلام، بل كان العرب ومن داخل دولهم القديمة، كالدولتين النبطية والغسانية وغيرهما، شيّدوا حضارات متقدّمة. غير أن حالة التراجع والتفكّك وانتشار الجهل و تواصل الاعتداءات من الخارج، الرومان من الغرب، والفرس من الشرق، هيّأوا لنزول الوحي وإطلاق الثورة والتغيير واستدامت مفاعيل هذه الثورة الحضارية لقرون طويلة وتغلغلت علومها انطلاقًا من الأندلس في القارة الأوروبية، والتي استمدت نهضتها العلمية مما أنجزه علماء العرب والمسلمين.

وظلّ العرب على هذه الحال حتى عادوا إلى ما هو أسوأ بكثير عما كانوه عشيّة ظهور الإسلام، ولا زالوا رغم كل محاولات الإصلاح والنهضة المهمة التي خاضها مصلحون وثوّار ومفكّرون، وأوضاعهم اليوم تشبه أوضاعهم أيام الحملات الصليبية، حين تمكّن الغزاة الأوروبيون من تشتيتهم إلى ممالك خاصة وتحالفهم معهم وزجّهم في حروب داخلية ضد بعضهم البعض.

رافقت نهضة أوروبا الحديثة تناقضات صارخة وسياسات وحشية ضد الشعوب غير الأوروبية، تمثّلت في غزو وإبادة شعوب واستغلال شعوب أخرى. في مرحلة متقدمة من تطوّرها نشأت طبقة وسطى واسعة في دولها عزّزت النهضة وعمّقتها ومنحتها أبعادًا جديدة. لكن هذه البرجوازية ما لبثت أن تحولت إلى طبقة برجوازية كبيرة ووحش كاسر، ليس ضد الشعوب الأخرى فقط، بل ضد فقرائها وبؤسائها وخصوصا الطبقة العاملة في المجمعات الصناعية الضخمة. ونتج عن ذلك تصاعد الغضب ونموّ الوعي الثوري وانفجار الانتفاضات والثورات داخل الدول الأوروبية وانطلاق المقاومة في الدول المستعمرة، في أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا بما فيه الوطن العربي. وظهرت أفكار وأحلام ويوتوبيات حول عالم خال من الحروب والاستغلال والظلم والفقر والعوز، وحقّقت شعوب كثيرة تحررها من الاستعمار ولكنّها أخفقت في تحرير الإنسان من تراث الكولنيالية والاستبداد والفقر. وتبلورت نظريات ونظريات مضادّة ونظريات تجمع بين عناصر في هذه النظريات. وحملت هذه النظريات والتصورات طبقات وحركات وأحزاب وشرائح اجتماعية واسعة. وحققت الشعوب، بنضالها، داخل دولها الرأسمالية إنجازات هامة في مجال الحقوق والتنظيم النقابي والمهني والسياسي، وصدرت مراسيم تحمي هذه الحقوق وتوفر الرفاهية والحماية الصحية.

وفي القرن العشرين، انقسم العالم بين معسكر شيوعي أو اشتراكي وبين معسكر رأسمالي. وفي كل معسكر تعدّدت التوجهات والتيّارات التي كانت تحاول التخفيف من غلواء نظرية كل معسكر. البعض أراد اشتراكية معتدلة والبعض أراد رأسمالية مخفّفة أقلّ وحشية أو أكثر تجاوبا مع حاجات الناس. وخلال حقبة هذا الصراع سادت فكرة المثال، أي الأنموذج الذي يوجه أخلاق الفرد، كما ساد اليقين، والذي تحول مع الوقت إلى دوغمائية قاتلة، دفعت الشعوب، لقاء ذلك، أثمانا باهظة.

سقط المعسكر الشيوعي وصمد النظام الرأسمالي، وعمّت الفوضى الفكرية والأخلاقية. نعم، النظام الرأسمالي المتطرف لم يسقط، ولكن تبيّن أن احتفاءَه المبكر بإعلان الانتصار على المعسكر الشيوعي ونهاية التاريخ، أوائل التسعينيّات من القرن العشرين، لم يكن إلّا تدشينًا لمرحلة رأسمالية أكثر توحّشًا وبربرية، ومقدمة لأزمات مالية وأخلاقية وسياسية متلاحقة لهذا النظام.

على خلفية هذا التأزم الأخلاقي والمادي والسياسي تصاعدت مظاهر العودة إلى الدين من جهة، ومن جهة أخرى عاد الكثيرون لينفضوا الغبار عن كارل ماركس ليعيدوا قراءة تحليله الفذّ لديناميات النظام الرأسمالي، ليفهموا أولا لماذا تحولت الدول الشيوعية، التي ادّعت أنها تستلهم نظريات ماركس، إلى أنظمة شمولية استبدادية، وقاتلة للتطور الداخلي، وساعدتهم المراجعة على إمعان النظر مجددا بالتحولات العميقة التي مرت بها الأنظمة الرأسمالية المتوحشة، والطبقات الاجتماعية المختلفة، خاصة الطبقة الوسطى والعاملة. وأيضا ليحدّدوا أن نظرية ماركس ليست دينًا، وأنّه لا يجوز إخضاع الواقع للنظرية، وأنّ الحرية ليست ترفًا والديمقراطية التعددية وحرية الرأي ليست كماليّات، وأن الأخلاق لها مكان في الحياة السياسية؛ وأيضا ليفهموا أنّ الدين ليس شأنا خاصا بالفرد وإن كانت حرية الاعتقاد والإيمان كذلك، بل يجب الاعتراف، أيضًا، بدور الدين في الشأن العام، من خلال فصل الدين عن الدولة، أو بمفهوم نظرية الفعل التواصلي، التي تقول بضرورة الحوار والتواصل بين المتدينين (المعتدلين) والعلمانيين (المعتدلين)، بدل النبذ أو التكفير المتبادل. وهي نظرية تعود إلى أحد أهم الفلاسفة الماركسيين النقديين الألمان المعاصرين، يورغن هابرماس، الذي تحوّل من علماني متشدد إلى علماني معتدل ومنفتح منذ الثمانينيّات. ومع ذلك، تجد بعض المثقفين العرب غير قادرين على التحرر من التبعية المطلقة للفكر العلماني الغربي المتشدد، وغير مواكبين للمراجعات الهامة للعلمانية التي قام بها عدد كبير من مثقفيه في سياق نقد الحداثة وما بعد الحداثة. ومن أبرز المثقفين العرب، الذين تصدّوا لهذه المسألة وقدّموا إضافات نوعية، المفكّر عزمي بشارة في مؤلّفه (ثلاثة مجلدات) "الدين والعلمانية في سياق تاريخي".

وفي العقد الأخير، عقد الثورات العربية المغدورة، وعقد تفشي السلطوية والشعبوية والعنصرية في الديمقراطيات الغربيّة وتأزّم الاقتصاد العالمي وتدمير البيئة، وأخيرًا، جائحة كورونا، التي قلبت حياة العائلة البشرية برمّتها رأسًا على عقب، عاد الإنسان ليطرح الأسئلة الكبرى، أسئلة الوجود والمعنى والمستقبل وهل بالإمكان إصلاح العالم أو تأسيس نظام أكثر عدلا كبديل عن النظام الإمبريالي وبديل عن الاستبداد والطغيان. وتتنوّع الردود على هذه الأسئلة والتحديات بين الاستسلام لليأس والكفر بكل شيء والقنوط والاستكانة والثورة والتمرد. ويتساءل إنسان العالم الثالث، بمرارة، إزاء مصيره وحظّه من التطور الذي استفادت منه نسبة كبيرة من البشرية، وبينما هو كان يتمرّد ويثور للّحاق بالدول المتطورة في مواجهة الاستبداد المحلي وأنظمة العجز والفساد، والمرتبط غالبا بالهيمنة الخارجية، يجد نفسه أمام انتكاسة لا ثوراته فحسب، بل أيضًا، انتكاس النموذج الغربي الذي كان معجبًا به وكارهًا له في الوقت ذاته.

مع ذلك، لا يمكن تخيّل تخلي الإنسان عن الاشتباك مع هذه الأسئلة وهذه المعضلات، خاصّة الإنسان المقهور، لأنّه يعيش العذاب يوميًا الذي يمارسه القاهر ضدّه، وبالتالي ليس لديه خيار آخر. بل إنّنا نشهد عودة العواطف الأممية، عواطف التضامن، في إطار تقاطعية النضال المشترك، تجسيدًا للوعي بوحدانية مصدر الإجحاف والسحق الذي يعود إلى نظام واحد، رأسمالي ومستبد، متصارع في داخله على مناطق النفوذ والثروة. أمّا الأنظمة التابعة على كافة أنواع الحكم فيها، فهي ليست إلا تجسيدا كاريكاتوريًا لهذا النظام العالمي، تخدمه لقاء حماية نخبه الفاسدة المتوحشة ضد شعوبها. ولذلك، ليس لهذا النظام أن يستقر طالما ظل الإنسان المقهور ومن يعبّر عنه في شكل تنظيم أو حركة أو مجموعة، يتمرد ويصرُّ على الحياة ومستعدّ أن يواصل دفع ثمن حريته وأمنه.

التعليقات