22/09/2021 - 20:18

فلسطين: احتمالات التصعيد العسكريّ

نلحظ من التدقيق في الظرف الدولي والإقليمي، ارتفاعا واضحا في تكلفة حملات التطهير العرقي الصهيونية في الوقت الراهن، التي قد تصل إلى حدّ يهدد إمكانية حماية الصهيونية من تبعات خطرة قد تهدم إنجازاتها الماضية

فلسطين: احتمالات التصعيد العسكريّ

من مواجهات بيتا (أ ب أ)

تتوالى الأحداث والمستجدات على الساحة الفلسطينية، كما تتعدد أشكال مواجهة الدولة الصهيونية، ما بات يطرح تساؤلات حول طبيعة الرد الصهيوني وحجمه وشكله، فعادة ما تبادر الدولة الصهيونية إلى التصعيد العسكري، ولا سيما على قطاع غزة، كرد سريع وفوري على تنامي أشكال النضال الشعبي، بغرض تطويق إمكانيات تطور النضال الشعبي وقطع الطريق أمامه، لما يسببه هذا الشكل النضالي من إرباك وتخبُّط داخل الهياكل والمؤسسات الصهيونية، فضلا عن نجاح هذا الشكل النضالي في إلحاق هزائم، أو بالأصح إلحاق ضرر كبير في المنظومة الصهيونية الداخلية والخارجية، ما يضعها في موضع لم تعتَد عليه في مواجهاتها العسكرية داخل وخارج فلسطين.

طبعا لا يعني ذلك التقليل من دور أشكال النضال الأخرى، بقدر ما يعني التركيز على إيجابيات النضال الشعبي في المرحلة الراهنة من الصراع مع الصهيونية. بكل الأحوال، تتطلّب محاولة إدراك طبيعة وحجم الخطط الصهيونية الراهنة، فهم تأثيرات الوضع الدولي والإقليمي والصهيوني والفلسطيني عليها، وهو ما سوف نتناوله تباعًا.

الوضع الدولي:

لتكن البداية من الوضع الدولي، انطلاقًا من دور المجتمع الدولي في حماية ودعم بل وزرع الصهيونية في منطقتنا عامة وعلى أرض فلسطين خاصة، حيث نشهد تصاعدا ملحوظا في حجم وتأثير الأصوات التي تحمّل الدولة الصهيونية مسؤولية الوضع الفلسطيني، بل وتدين السياسات والتوجهات العنصرية وممارسات التطهير العرقي والترحيل القسري الصهيونية أيضا. إذ شكل الموقف الشعبي العالمي وبعض تجلياته السياسية، أحد أهم العوامل التي سرعت من إيقاف الحرب على غزة في أيار/ مايو الماضي، رغم اندلاعها بقرار فلسطيني في حينه عبر إعلان فصائل المقاومة في غزة عن إطلاق عملية "سيف القدس" العسكرية، كشكل من أشكال الدفاع عن حيّ الشيخ جراح وسكانه والقدس عامة، وهو الخطاب ذاته الذي جرى تبنّيه من قِبل شرائح شعبية واسعة على مستوى العالم أجمع، حتى طال أحد أهمّ معاقل الدعم الصهيوني؛ الولايات المتحدة الأميركية، إذ جرى تحميل الدولة الصهيونية مسؤولية الحرب والمواجهات المندلعة في كل فلسطين، كما تم الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في مواجهة آلة الإجرام والتطهير العرقي والفصل العنصري، بغض النظر عن الشكل والمكان والزمان، وهو تطوّر مهم ومؤثر في الوقت ذاته.

طبعا لم يقتصر ذلك على المستوى الشعبي فقط، بل امتدّ إلى بعض الهياكل السياسية المؤثرة على مستويَي الأحزاب والمؤسسات التشريعية، كما في الكونغرس الأميركي الذي طرح لأول مرة مشروع قانون يطالب بحجب مبيعات الأسلحة للدولة الصهيونية، نظرا لحجم الجرائم الصهيونية المرتكبة بحق الأرض والشعب الفلسطيني، وهو ما دفع الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تصعيد الضغط على الدولة الصهيونية، من أجل التوصل إلى اتفاق هدنة ينهي الاعتداءات الصهيونية العسكرية على قطاع غزة بأسرع وقت ممكن. لذا، تتخوف الدولة الصهيونية وداعموها الدوليون من تأثيرات أي عملية عسكرية صهيونية على صورتها العالمية، ولا سيما وسط شعوب العالم "المتحضّر"، التي تملك هامشا واسعا من الحرية والحقوق التي تمكّنها من التأثير الفاعل والحيوي على المدى المتوسط والبعيد.

الوضع الإقليمي:

تستمر محاولات التطبيع الرسمي إقليميا وعربيا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، من خلال تمتين العلاقة مع الدول المُطبعة أولا، والمضي في مسار التطبيع السياسي مع الدول غير المُطبعة ثانيا، وتعزيز المشاريع الاقتصادية الإقليمية عبر بوابة الدول المُطبعة ثالثا، ولا سيما عبر دولتي مصر والأردن، كما في إعادة إحياء خط الغاز العربي القائم على ضخ الغاز من دولة مصر تجاه الأردن وسورية ولبنان على التوالي، على أن يُستكمل المشروع من خلال ربطه بخطوط الغاز التركية، ما سوف يسهل عملية تصدير الغاز نحو أوروبا، مع العلم بأنه يتمّ ضخ كميات محدودة حاليا من الغاز الفلسطيني المسروق عبر خطوط الغاز الصهيونية- المصرية، كي يختلط الغاز المسروق مع الغاز المصري في شبكة الغاز المصري، وهو ما يعني تصديره مع نظيره المصري عبر خط الغاز العربي.

يتطلب مشروع التطبيع بعض الاستقرار والهدوء من أجل تجنّب استفزاز القوى الشعبية في المنطقة العربية المناهضة بمجملها لمشاريع التطبيع السياسي والاقتصادي، إذ يتصاعد رد الفعل الشعبي في الفترات التي تتصاعد فيها الاعتداءات والجرائم الصهيونية، ما قد يشكل عائقا على مسار التطبيع الإقليمي، وهو أيضا من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في إنهاء الحرب على قطاع غزة، بعد مضيّ قرابة العشرة أيام فقط، وهي مدة زمنية قصيرة نسبيًا، مقارنةً بالاعتداءات الصهيونية السابقة.

الوضع الصهيوني:

يمكن ملاحظة عاملين مؤثرين في الظرف الصهيوني الراهن. الأول، يرتبط بتصاعد قوة تيارات اليمين؛ والثاني، متعلق بتوازنات القوى السياسية الصهيونية غير المستقرة في المرحلة الراهنة، والتي أدت إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة أربع مرات في خضم عامين فقط، والتي أدت مؤخرا إلى الإطاحة ببنيامين نتنياهو من رئاسة الحكومة. يشكل العامل الأول عامل ضغط شعبي وسياسي على القيادة السياسية، يدفعها نحو التصعيد العسكري ورفع وتيرة حملات التطهير العرقي، ما يشكل عائقا أمام توقيع أي اتفاقات مع كل من سلطتَي رام الله وغزة، وهو ما ينعكس بمماطلة صهيونية واضحة تجاه المبادرات السياسية الإقليمية الرامية إلى تهدئة الشارع الفلسطيني من ناحية، وتحسين ظروف حياته اليومية من ناحية ثانية.

أما العامل الثاني، فيؤدي إلى إرباك وتخوّف القيادة الصهيونية المتحكمة اليوم، نتيجة توجسها من تبعات التصعيد مع الفلسطينيين على الكتلة الاجتماعية التي تدّعي تمثيلها، وعلى التوازنات السياسية بين الأحزاب الصهيونية، إذ لا تملك القيادة الصهيونية هامشا واسعا للمناورة مع الجانب الفلسطيني في هذه المرحلة، نتيجة حجم التضييق والاعتداءات الكبيرة والكثيرة، والذي تم تطبيقه على الفلسطينيين في المرحلة الماضية، إذ بات انتزاع مزيد من الأرض والحقوق الفلسطينية وزيادة وتيرة الترحيل القسري والطرد التعسفي والتطهير العرقي، مكلفا جدا، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاحتلال وخسائره المادية وربما البشرية واللوجستية، وهو ما سوف يفقد القيادة الصهيونية جزءا وازنا من رصيد دعمها المدني والسياسي، ويمنح معارضيها فرصا جديدة للانقضاض عليها وإسقاطها.

الوضع الفلسطيني:

تعمل المؤسسات الصهيونية على تطهير الأرض والشعب الفلسطيني عرقيا، وفق خطة عمل طويلة الأمد، تعود بداياتها إلى مرحلة الاحتلال/ الانتداب البريطاني، وتتسارع وتيرتها أحيانا وتتباطأ في أحيان أخرى تبعا للظرف الدولي والإقليمي والصهيوني والفلسطيني، إذ عادة ما تتسارع وتيرة حملات التطهير العرقي في المراحل التي تشهد تصاعد النضال الفلسطيني، وكأن إسرائيل تقول للفلسطينيين: "عليكم الموت بصمت وهدوء، وإلا سوف تتسارع وتيرة القتل والإبادة الجماعية".

طبعا يخدمها في تطبيق ذلك مجتمع دولي يسخّر لها جلّ وسائل الدعم بما فيها الإعلامية التي تشيطِن الفلسطيني وتجمّل آلة القتل الصهيوني. لذا كان من المنطقي توقُّع زيادة وتيرة آلة القتل الصهيوني في هذه المرحلة التي تشهد تصاعدا وتمددا واضحا في أشكال النضال الشعبي، لو كنا في مرحلة دولية وإقليمية وصهيونية مغايرة.

الخلاصة:

نلحظ من التدقيق في الظرف الدولي والإقليمي، ارتفاعا واضحا في تكلفة حملات التطهير العرقي الصهيونية في الوقت الراهن، التي قد تصل إلى حدّ يهدد إمكانية حماية الصهيونية من تبعات خطِرة قد تهدم إنجازاتها الماضية، وربما يطال إمكانية استمرارها على المدى المتوسط. كيف لا ونحن نشهد تطور الفعل الشعبي الدولي المناهض للحركة الصهيونية، الذي يسعى إلى دكّ أهم حصون الحركة الصهيونية حول العالم، ليهددها من داخل الكونغرس والحزب الديمقراطي وحزب العمل البريطاني والقادم قد يكون أخطر بالنسبة إليها. كما قد يهدد مصالحها الإقليمية، إذ قد يضع حدا أو يحاصر بالحد الأدنى محاولات التمدد الصهيوني الحاصلة مؤخرا سياسيا واقتصاديا تجاه دول المنطقة العربية والإقليمية. كما ترتفع مخاطر المغامرة الصهيونية على مستقبل القيادة المتحكمة بها اليوم، كما أوضحنا في الفقرة التي تناولت الوضع الصهيوني، فاحتمال نجاح المؤسسات الصهيونية في تحقيق نجاح ناجز من وجهة نظر صهيونية وغير قابل للشك، ضئيلة جدا، ما سوف يعرضها لمزيد من الضغط والغضب والمعارضة الداخلية، ويمنح معارضيها السياسيين فرصا أوسع لإسقاطها. كما قد يهدد استمرار التحالف الحاكم أيضا. وهو ما تجلى في الأشهر الأخيرة بمحدودية الرد الصهيوني على نضالات بلدة بيتا في الضفة الغربية، رغم حجم الخسائر المعنوية والإعلامية والسياسية التي ألحقها أهالي البلدة، إلا أن رد الفعل الصهيوني كان مدروسا ومحدودا قياسا لحدة وعنف الرد الصهيوني في مناسبات أخرى.

لذا، ونتيجة المخاطر الدولية والإقليمية والصهيونية العالية، أعتقد أن احتمال التصعيد العسكري الحربي المباشر مستبعَد في هذه المرحلة الزمنية، على الرغم من تصاعد أشكال النضال الشعبي الفلسطيني. لكن ومن ناحية أخرى، لن تقف المؤسسات الصهيونية مكتوفة الأيدي أمام النضال الشعبي المتصاعد، بل سوف تلجأ إلى الخيار الأصعب كونه الأكثر أمانا عبر الموازنة بين التهدئة والتصعيد، بمعنى الرد على النضال الفلسطيني بشكل مدروس ومحدود، كي لا تنزلق الأمور نحو مواجهات واسعة وكثيفة. وعليه أعتقد أن مصلحتنا الوطنية والتحررية تقتضي استثمار هذه المرحلة جيدا، من خلال رفع وتيرة الضغط الشعبي داخليا وخارجيا، من خلال العمل على ديمومة النضال الشعبي والعمل على رفع وتيرته إن أمكن، والرفع من كفاءة التيار المناهض للصهيونية عالميا، لأننا بذلك نرفع مستويات الضغط الممارسة على المؤسسات الصهيونية، ونزيد من إرباك القيادة الصهيونية وتخبّطها، ما سوف يؤدي إلى مزيد من الأخطاء والانزلاقات التي سوف تؤدي إلى مزيد من الخسائر الميدانية، والتي ستسرّع من وتيرة الكشف عن حقيقتها أمام الرأي الشعبي العالمي.

التعليقات