29/10/2021 - 15:34

الخطة الخمسية والمخاطر الدفينة

باتت الميزانية أمرًا واقعًا، على الأقل من ناحية رسمية، وإن كان تطبيقها والإيفاء بكل بما جاء فيها محل تساؤل، إذ يضع بعض المهنيين العرب علامات سؤال كبيرة على إمكانية تنفيذ كل ما جاء فيها، خصوصًا وأن انتقاداتهم على الخطة الخمسية

الخطة الخمسية والمخاطر الدفينة

(مكتب الصحافة الحكومي)

فيما رقص البعض على إيقاع الخطة الاقتصادية الخمسية، التي أعلنت عنها حكومة الأبرتهايد الإسرائيلية بخصوص المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، الأحد الماضي، ووصفها بالفتح التاريخي غير المسبوق، يتم تجاهل حقائق تاريخية وأخلاقية دامغة، فضلًا عن المثالب المهنية الكبيرة، التي أشار إليها مهنيون عرب يُشهد لهم بالخبرة والنظرة الشمولية لمفهوم التنمية.

ليس سهلًا بطبيعة الحال في ظرف الحصار والتهويد والاستعمار الداخلي والحرمان الطويل، وما نتج عن كل ذلك من مشاعر البؤس وفقدان الثقة بالحاضر والمستقبل، مقاومة إغراء الميزانيات "الضخمة" المتضمنة في الخطة الخمسيّة، وهي ما يزيد عن 30 مليار شيكل، من جانب جزء من المقهورين والمحرومين، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بما يحتاجه المجتمع العربي.

وقد علّمنا تاريخ الشعوب وتجربتها ضد الاستعمار والتمييز والعنصرية، أن هذا الظرف، أي ضائقة الناس، يستغله المستعمر للتفنن في إخضاع الضحية وتجريد حقوقها وتطلعاتها من السياق التاريخي الصراعي، وتحويل قضيتها كمجموعة أصلانية إلى مسألة هامشية، إلى مسألة ميزانيات وبعض الحقوق اليومية، بديلا عن كونها قضية تحرر وتحقيق الذات الجمعية. ودائمًا ما تكون هناك نخب جاهزة للتكيّف مع هذا التوجه تحت دعوى الواقعية، التي تسعى بكل قوة لإضفاء طابع الحرص على "هموم الناس" على سلوكها غير السياسي، وتتحول الانتهازية إلى أيديولوجيا متكاملة لهذه الفئة من النخب. يساعدها في ذلك ضعف الحركة الوطنية وتشتتها، وتآكل أيديولوجيتها ذات الطابع الأخلاقي والنضالي، في ظروف الانحسار المؤقت.

باتت الميزانية أمرًا واقعًا، على الأقل من ناحية رسمية، وإن كان تطبيقها والإيفاء بكل بما جاء فيها محل تساؤل، إذ يضع بعض المهنيين العرب علامات سؤال كبيرة على إمكانية تنفيذ كل ما جاء فيها، خصوصًا وأن انتقاداتهم على الخطة الخمسية التي أطلقتها حكومة نتنياهو عام 2015 (الخطة 922)، ثبتت صحتها. إذ يقولون إن الميزانية المتضمنة في خطة الحكومة اليمينية السابقة لم يصرف منها سوى 60 في المئة، ناهيك عن مثلبها الأساس ألا وهو خلوها من البعد التنموي الشامل. ولهذا لم تساهم هذه الخطط بتقدم جمعي في المجتمع الفلسطيني. هناك تقدم ملموس على المستوى الفردي، أي اتساع الطبقة الوسطى، ولكن نصف المجتمع يعاني من الفقر ويواجه مقتلة داخلية - خارجية تتفاقم كل يوم.

بطبيعة الحال، ستُدخل الخطة تأثيرات ملموسة في حياة الناس، المادية والاجتماعية، وستحرّر السلطات العربية المحلية من أعباء مالية، وتطلق يدها لمشاريع معطلة أو مشاريع جديدة. فالميزانيات هي حق من حقوق المواطنة وليست منةً من المستعمر. فقد خاض الفلسطينيون حملة المواطنة الإسرائيلية نضالًا مضنيًا على مدار عشرات السنين لانتزاع حقهم بالميزانيات، دون أن يتلطّخوا في دعم حكومات إسرائيل وسياساتها العنصرية. ولولا هذا النضال، لحوّلهم المستعمر إلى شراذم شعب يتوسل الأكل والشرب وبعض الاحتياجات الأخرى، ولما تمكنوا من إعادة تشكيل لُحمتهم القومية، أي كجزءٍ من شعبٍ ولهم ملامح جماعة قومية بعد أن أدمتهم النكبة. ومن المفترض بعد كل هذا التقدم الجماعي الوطني، ألّا نعود إلى نهج الخمسينيات تحت الحكم العسكري الذي كان مفهومًا في سياق معركة البقاء والنجاة من عملية تطهير عرقي جديدة. وتنطوي هذه الخطة وعملية الترويج لها، على قدر كبير من الأوهام وتشويه الوعي وتعزيز الفردانية، ونشر الانقسام والتفتت الداخلي، وإضعاف روح الجماعة، والكفاح المؤسساتي والشعبي الجماعي؛ ما يعني إبقاء الأسباب الجذرية لانتشار الجريمة والمقتلة المستمرة بمستويات مرعبة.

تنطوي الخطة الخمسية الحالية على خللين خطيرين، أخلاقي وإستراتيجي، جرى تجاهلهما كليًا.

الأوّل يتعلق بالأرض، وهي أداة الإنتاج التاريخية لمجتمعنا الفلسطيني، التي من أجل تجريدها من أيدي الفلسطينيين واستعمارها واستيطانها ولجعل مواجهتها قانونيا صعبًا، أقامت إسرائيل مؤسسات يهودية خارجية شبه رسمية، مثل "الكيرن كاييمت" أو "الصندوق القومي اليهودي". والخطة لا تتضمن موقفا، ولا آلية بخصوص كيفية التعامل مع هذه المؤسسات التي تحركها أيديولوجية عرقية عدوانية، وإجبارها على إعادة أراض لنا؛

كيف يمكن تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، تجيب عن الاحتياجات المستقبلية للمواطنين الفلسطينيين، كأفراد وكجماعة قومية، في الوقت الذي تصرُّ دولة الأبرتهايد الاستيطانية على الأيديولوجية والممارسة الصهيونية، وتحشر 20 في المئة، حوالي مليون و600 ألف مواطن عربي، في غيتوهات محاصرة بالاستيطان، تشكّل فقط 3٪ من الأرض التي كانوا يمتلكونها عشية جريمة التطهير العرقي. هل يكفي تخصيص بضع مئات أو بضعة آلاف الدونمات، كما هو متضمن في الخطة، للمدن والقرى العربية في إطار خطة الإسكان أو التصنيع؟ كيف يمكن أن تتطور اقتصاديا وتتبلور مجموعة قومية، أقلية وطن، وتصون تاريخها وثقافتها وهويتها، ومصلحة أفرادها، وتجاري العصر، ومتطلبات النهوض الشامل، في ظل سيطرة يهودية صهيونية مطلقة.

الثاني، وهو الفصل الخاص بالتعليم كما هو الحال مع قضية الأرض، يتجاهل عن عمد البعد القومي المغيب في برامج التعليم المفروضة على المدارس العربي، منذ النكبة. وكما هو معروف، تمنع وزارة المعارف الصهيونية تدريس الرواية الفلسطينية، وتركز الجزء الأكبر من منهاج التاريخ على التاريخ اليهودي الصهيوني. كما ترفض مطلب تغيير بنيوي في عملية إدارة التعليم العربي وفصله عن وزارة التعليم اليهودي، وعن سيطرة جهاز الأمن العام ("الشاباك").

كذلك، لم تدرج مسألة جامعة عربية، وهي مطلب قديم، ليس الهدف منه تعليميا فحسب، بل في الإساس إعادة إنتاج الهوية الفلسطينية كأحد ركائز عملية نهوض وتبلور قومي لأقلية وطن، تحتاج للتمكين والحماية في وجه سياسات التفتيت والتشويه وطمس الهوية الوطنية.

من المهم التذكير بحقيقة أن هذه الخطة الإسرائيلية الخمسية، والخطط السابقة، لم تصدر لأسباب إنسانية، أو حرصًا على مصلحة المواطنين الفلسطينيين، بل لأسباب ودوافع محددة ومعروفة.

الدافع الأول هو الأمن. إذ بعد هبة القدس والأقصى قبل عقدين، التي سطع فيها نجم فلسطينيي 48، وفرض أنفسهم على خارطة الصراع الأوسع بعد انخراطهم في هبة شعبية عارمة غير مسبوقة من حيث الحدة والشمولية والطول الزمني؛ تنبهت إسرائيل إلى فشل سياساتها السابقة في تقويض الهوية الوطنية وروح المقاومة لدى فلسطينيي 48. أي أن الهدف هو الاحتواء وإبقاؤهم تحت السيطرة. ولكن، لا بد من الإدراك أن حتى هذا التوجه الإسرائيلي الرسمي، لم يكن ليحصل من دون النضالات والتضحيات الكبيرة؛

والسبب الثاني، هو حاجة إسرائيل للانضمام لمنظمة التعاون والتنمية الدولية (OECD)، إذ أدرك خبراء الاقتصاد في إسرائيل قبل عقد ونصف، أن عدم إدماج العرب في الاقتصاد الإسرائيلي يشكل عقبة أمام تطوره وانخراطه بصورة أوسع في النظام الاقتصادي العالمي النيولبرالي.

في ظل هذا كله، تزداد التحديات أمام التيار الوطني الفلسطيني الذي سيواجه بصورة أكبر مخطط أسرلة ضخمًا، وقوده مبالغ مالية كبيرة نسبيًا، وقوة عربية انخرطت في السياسة الحكومية للمشروع الاستيطاني الإحلالي الدموي الذي يتغول في كل فلسطين.

التعليقات