03/03/2022 - 17:30

روسيا والناتو: تركة ثقيلة.. وآليات أثقل

الحرب هي الحرب. قتلٌ ودماءٌ ولجوءٌ ودمارٌ وخرابُ بيوت. بغض النظر إن كانت عادلة أم غير عادلة. يصبح من العبث، إذا ما قامت، البحثُ في أسبابها. وتتركّزُ الأنظار على وقائعها ونتاجها وتداعياتها على الأطراف المتحاربة وعلى العالم.

روسيا والناتو: تركة ثقيلة.. وآليات أثقل

(أ ب)

الحرب هي الحرب. قتلٌ ودماءٌ ولجوءٌ ودمارٌ وخرابُ بيوت. بغض النظر إن كانت عادلة أم غير عادلة. يصبح من العبث، إذا ما قامت، البحثُ في أسبابها. وتتركّزُ الأنظار على وقائعها ونتاجها وتداعياتها على الأطراف المتحاربة وعلى العالم.

ولعلّ أوّل ما كشفته الحرب الروسية على أوكرانيا أنّ روسيا التي تجر تركة الاتحاد السوفييتي الإستراتيجية وأحماله السياسية، والتي كانت ربّما من الأسباب الرئيسية للحرب، ما زالت تجرّ، أيضًا، آليّاته وعرباته العسكرية القديمة والبطيئة، العاجزة عن إنجاز الحرب الخاطفة التي تميّز العصر الحديث، والتي أراد بوتين تنفيذها في أوكرانيا.

لقد "تورطت" روسيا بالامتياز الذي حظيت به كوريث وحيد للاتحاد السوفييتي، والذي منحها إياها الغرب وأميركا، والذي أريد به تركيز السلاح الإستراتيجي السوفييتي، وخاصة السلاح النووي، في دولة واحدة. وبطبيعة الحال، وقع الاختيار على روسيا بصفتها الدولة الأكبر، والتي أسّست وقادت الاتحاد السوفييتي على مدى سنوات عمره القصير، حيث جرى نقل الأسلحة النووية، التي كانت منتشرة في دول سوفييتية أخرى، وتركيزها في روسيا، الأمر الذي جعل منها القوة العظمى النووية الموازية لأميركا.

أمّا التركة الأخرى التي أورثها الاتحاد السوفييتي لروسيا بمباركة الغرب، وربما الأصح أن نقول أورثها الغرب وأميركا لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واستئثار الأخيرة بأسلحته الإستراتيجية، هي صفة "العدو" الذي كان يمثّله الأخير بالنسبة للغرب وأميركا، وشكّلت المبرّر الجاهز للتسليح والغزو والسيطرة والتوسع، الذي مارسته الأخيرة وحلفها (الناتو) في مختلف مناطق العالم.

وبينما كان من الطبيعي أن تقوم أميركا بحل حلف "الناتو" بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانحلال حلف وارسو الذي كان يقوده، فقد قامت عوضا عن ذلك بتوسيع الحلف وتعزيزه والضم التدريجي لدول شرقيّ أوروبا من الأعضاء السابقين في حلف وارسو وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، حيث ازداد عدد الدول الأعضاء في الحلف من 16 دولة عشية انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى 29 دولة 27 منها أوروبية.

واللافت أنّ هذا التوسع بدأ في عهد يلتسين "حبيب الغرب"، إذا جاز التعبير، وليس في عهد بوتين "صاحب النزعات الإمبراطورية"، وكردٍّ على هذه النزعات، فقد قام الناتو عام 1999 بضم بولندا والمجر والتشيك، تبع ذلك ضم سبع دول إضافيّة هي: بلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا عام 2002، أي بعد سنتين من تولي بوتين لمقاليد الحكم، كما واصلت أميركا - في عهد بوتين - توسيع الحلف شرقًا نحو حدود روسيا، وصولا إلى الخلاف حول انضمام أوكرانيا الذي قاد إلى الحرب.

وغني عن البيان أنّ حلف الناتو هو تشكيل دولي عسكري وليس منظمة خيرية، وأنّ زحفه نحو أوروبا باتجاه الشرق يستهدف دولة بعينها هي روسيا. وقد حمّل بوتين الغرب مسؤولية التعامل مع روسيا من طرف واحد وكأنها عدو، وحذر منذ عام 2007 من ضم جورجيا وأوكرانيا الواقعتين على حدوده.

طبعا، أنا لا أبتغي تبرير الحرب وانتهاك سيادة الدول واحتلال أراضي الغير بالقوة أو الانتقاص من مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها. ولكن الدول، كما الأفراد، أيضًا، تغضب لكرامتها والمس بمكانتها وكبريائها القومي، خاصة عندما تحتل المكانة التي تحتلها روسيا في التاريخ والجغرافية.

أرادت أميركا اصطناع العدو البديل للاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي المنحل، فهي لا تكتفي بالعدو الوهمي الذي لا يرى المسمى "الإسلامفوبيا". ولذلك، أورثت روسيا سلاح الاتحاد السوفييتي ودور الاتحاد السوفييتي، ولم تترك لبوتين أو غيره من حكام روسيا أي مجال سوى لعب دور العدو، ولكنّها أرادت أن يكونوا "عدوًا دمية"، يُرضي حاجة أميركا الإستراتيجيّة، ولا يحظى بمواصفات وامتيازات العدو الفعلي المتمثل في القطب الدولي وفي الدولة العظمى الموازنة لها.

بوتين، من جهته، لبّى رغبات أميركا سالفة الذكر التي التقت مع طموحاته الإمبراطورية وحلمه باستعادة أمجاد روسيا القيصرية والسوفييتية، وبدأ يتصرف كدولة عظمى لها أطماع إقليمية وتنافس على النفوذ، ولها مجال حيوي يبدأ بحياد أوكرانيا وجورجيا وعدم ضمهما للناتو، وينتهي بعدم نصب صواريخ الناتو في دول شرقيّ أوروبا، وطالب باحترام هذا المجال الحيوي.

في المقابل، أرادت أميركا، التي تَراجَعَ دورها الدولي في عهدي أوباما وترامب، نفخ الحياة في شرايين أحلافها وتشكيلاتها السياسية والعسكرية، وخاصة حلف الناتو الذي وصفه الرئيس الفرنسي، عمانوئيل ماكرون، بانه يعاني من موت سريري، فأعادت في سبيل ذلك إيقاظ القضية الأوكرانية النائمة منذ عام 2014.

بلال ضاهر | خدعة إسرائيل بالوساطة بين روسيا وأوكرانيا

ونجحت إدارة بايدن من خلال سلسلة تصريحات وممارسات منهجية في إثارة كبرياء بوتين، وجرّه لما تسعى لأن يتحول إلى "المستنقع الأوكراني" الذي تغرق فيه روسيا ويستنزف قدراتها، بحيث يجعلها تنسحب من ساحات مواجهة أخرى، لتتفرّغ هي وحلفاؤها لمواجهة ما تصفه بالخطر الصيني. والسؤال، هل تنجح؟ أم هي بداية حرب باردة ثانية تقف فيها الصين وروسيا في جبهة واحدة؟

هذا ما ستكشفه الأيام القريبة القادمة.

التعليقات