04/03/2022 - 18:02

اليسار في ظلّ الأزمة الروسيّة - الغربيّة

في الصراع الخطير الجاري اليوم بين روسيا بوتين وحلف "الناتو" بقيادة الإمبريالية الأميركية، يصطف جزء من اليسار أوتوماتيكيا إلى جانب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو تكرار لموقفه من مساندة النظام السوري في سحق ثورة الشعب وتدمير مدن كبرى

اليسار في ظلّ الأزمة الروسيّة - الغربيّة

علما روسيا وأوكرانيا ("أ ب")

هل يحتاج العالم إلى اليسار، وإلى منظومته الفكرية والأخلاقية، وهل هو ذو شأن في القرارات الدولية الكبيرة؟ ولكن أيّ يسار وكيف نحدده في ظل كل التحولات العالمية الجارفة، وهل هناك من يهتم بموقفه، خصوصًا في ظرف الأزمة الروسية - الغربية الحالية شديدة الخطورة؟ وكيف نفهم موقف اليسار الذي يتحمس جزء منه، في منطقتنا والعالم، للحرب الروسية على أوكرانيا، وتأييده لبوتين، الذي هاجم رمزهم الأكبر بعد ماركس، أي لينين، منظر وقائد الثورة البلشفية، في خطابه المطول في 21 شباط/ فبراير المنصرم، وحمّله بشكل غير مباشر المسؤولية عن وضع بذور الأزمة الحالية، من خلال "اختلاق" دولة تُسمّى أوكرانيا. ويُذكر أن الثورة البلشفية كانت منحت حق تقرير المصير القومي لعدد من الشعوب السلافية وغيرها، إذ يُنسب للينين قوله إن روسيا القيصرية التي أطاحها البلاشفة كانت سجنًا للشعوب.

مع انفجار الأزمة الروسية - الغربية وتحولها إلى غزو عسكري كارثي لأوكرانيا، يجد يساريو العالم أنفسهم، على اختلاف أطيافهم، عديمي التأثير في حدث كبير تتحمّل مسؤوليته دول رأسمالية كبرى، تخلّت عما كانت تنادي به، مثل الديمقراطية الليبرالية بصيغتها السابقة، أو الاشتراكية. ليس هذا فحسب، بل حتى اجتهاداتهم النظرية والسياسية، الهامة والنوعية في الكثير منها، تضيع في زحمة ووفرة التحليلات المرتكزة للمدرسة السياسية الواقعية في العلاقات الدولية، الهامة أيضا، والتي تستند إلى الاعتبارات الجيوسياسية - الجغرافية السياسية، باعتبارها تلعب دورًا حاسمًا في العلاقات بين الدول، وفي قرارات الحكومات والزعماء. لكن، هل هذا يعني أن اليسار وقيمه التحررية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وغياب نظام القطبين عام 1991، ليس ذا شأنٍ في المشهد العالمي، أو في صياغة تصورات للمستقبل بديلا عن النظام النيوليبرالي الظالم الذي يتسيّد العالم كله.

منذ انهيار نظام القطبين، قبل ثلاثة عقود، يجد هذا اليسار على كافة تلاوينه، نفسه في أزمة فكرية خانقة. ففي السنوات الأولى من انهيار القطب الشيوعي، تبعثر اليسار شر بعثرة، وسادت حالة شديدة من الإرباك والتيه، ولم ينجُ من الأزمة وتبعاتها حتى ذلك التيار المستقل فكريا، أو فئات من المثقفين اليساريين الناقدين للنظام الشيوعي السوفييتي (التروتسكيون، وما عرف باليسار الجديد، والعديد من رموز الفكر الماركسي النقدي) باعتباره كان استبداديا، وعبارة عن رأسمالية دولة. وتوزع معتنقو الفكر اليساري الماركسي، بين دروب عدة، منها الانهزامية والتحول إلى المعسكر الأميركي الإمبريالي، وبين البقاء أسيرا للجمود الأيديولوجي والستالينية المقيتة. تيارٌ ثالث، غير منظم، سعى إلى تطوير يساريته بالعودة الى أصول الفكر اليساري/ الاشتراكي، أو الأخلاق اليسارية، التي تعود بداياته إلى القرن التاسع عشر؛ وإلى إعادة الاعتبار لقيمتي الديمقراطية والحرية وكانتا جزءا عضويا من بنيته الفكرية والأخلاقية، ولكنه لم يتبلور في تيار منظم أو يصل إلى صيغة أو وصفة لنظام اقتصادي اجتماعي بديل ناجح حتى اليوم.

في غياب القطب الشيوعي، مع فوائده وأمراضه، ومع إعلان المعسكر الرأسمالي الغربي نهاية التاريخ، أي الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي، وجد يساريو العالم على كافة توجهاتهم، أنفسهم مهمشين، وتائهين وغير ذي شأن، أمام انقلاب عالمهم رأسا على عقب، إذ شاهدوا كيف التحقت أكبر الدول الشيوعية سابقا، مثل روسيا والصين، بنظام السوق الرأسمالي، وإن كانت الصين التي تحولت إلى عملاق اقتصادي، لا تزال تعلن نفسها شيوعية، حيث يقود الحزب الشيوعي الدولة، ويشرف على الاقتصاد التنافسي.

مرت سنوات طويلة قبل أن يعود ماركسيون إلى ماركس، وإعادة قراءته بصورة نقدية مجددا، بما يمكنهم من فهم الانهيارات السابقة فهما متحررا من الدوغمائية والجمود العقائدي؛ وقد برز في مقدمة عملية العودة جيل جديد متأثر بالتحليل الماركسي للظواهر المجتمعية ولبنية النظام الليبرالي والنيوليبرالي الذي انطلق من عقاله، جيل متأثر بمدارس فكرية تقدمية نقدية. وقد جاء ذلك في أعقاب تطورين هامين؛ الأول، انكشاف زيف الوعود الكبرى التي بشر بها منظرو المعسكر المنتصر، أي المعسكر الأميركي الغربي الرأسمالي، إذ تواصلت الحروب الإمبريالية الوحشية وتدمير الدول، وتعمق الفقر والجوع والمرض، رغم الثراء الخيالي والتوسع المذهل في عملية الإنتاج. ومن ناحي ثانية دخول هذا المعسكر في أزمات مالية كبرى، وظهور حركات اليمين الشعبوي المناهض للديمقراطية الليبرالية وللاشتراكية، والكاره للأجانب والنخب السياسية.

التطور الثاني؛ ظهور الموجه اليسارية الكبيرة في دول أميركا اللاتينية، بدءًا من أواخر تسعينات القرن الماضي، حين تمكنت شخصية يسارية مناضلة من الوصول إلى رئاسة دولة فنزويلا، بانتخابات ديمقراطية، وهو الراحل هوغو تشافيز، الذي ألهم حركات اشتراكية أخرى وتمكنها من الانتصار في دول أميركية لاتينية أخرى. غير أن هذا البلد اللاتيني يواجه حاليا أزمة داخلية كبرى، لأسباب داخلية وخارجية.

ولم تتأثر كثيرا موجة العودة إلى اليسار بالنكسة التي أصابتها لاحقا، والتي تعود إلى قصور ذاتي وعجز عن اجتراح صيغة ناجعة لنظام اشتراكي معقول؛ إذ خسرت بعض هذه الأنظمة اليسارية، مثل البرازيل وغيرها، أمام قوى يمينية شعبوية، وبسبب تصعيد التدخل الأميركي الإمبريالي في هذه الدول. ويبدو أن الائتلاف اليساري والديمقراطي بقيادة الشاب غبريال بوريك، الذي فاز في الانتخابات العامة في تشيلي قبل ثلاثة شهور (20 كانون الأول/ ديسمبر 2021)، يسعى إلى اجتراح خطٍ فكري وعملي مختلف عن تجارب اليسار اللاتيني، أقل تشددا أيديولوجيا، وأكثر اهتماما بالديمقراطية والحريات، وبالعدالة الاجتماعية والتنمية الشعبية. ولكن لا أحد يستطيع التكهن بمآل هذه التجربة، وهذا الفوز الهام لكتلة واسعة ذات توجهات يسارية وتقدمية وديمقراطية راديكالية.

ومن التناقضات التي تعتري بعض تلك الحركات الاشتراكية، هو أن رغم وصولها إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، فإنها تصطف مع أنظمة في قارات أخرى، استبدادية أو غير ديمقراطية، كونها فقط تناهض السياسات الأميركية، دون الاكتراث بما تعانيه مجتمعات تلك الدول من قمع قهر وظلم، والذي يناقض قيم اليسار. وربما يعود ذلك لسببين؛ الأول، مواصلة العيش في الثنائية القديمة بين قطبين، واحد إمبريالي وآخر ضد الإمبريالية والرأسمالية؛ والسبب الثاني، كون هذه الدول وشعوبها عانت ولا تزال بسبب السياسات الأميركية الإمبريالية العدوانية، والتدخل المزمن في شؤونها الداخلية وبشكل النظام فيها؛ والأمثلة كثيرة، وأبرزها الحصار المستمر على دولة كوبا منذ حوالي سبعة عقود.

ففي الصراع الخطير الجاري اليوم بين روسيا بوتين وحلف "الناتو" بقيادة الإمبريالية الأميركية، يصطف جزء من اليسار أوتوماتيكيا إلى جانب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو تكرار لموقفه من مساندة النظام السوري في سحق ثورة الشعب وتدمير مدن كبرى وتسويتها بالأرض، دون إبداء أي تحفظ أو نقد، ودون الاكتراث بمبدأ سيادة الدول، ولا بالكارثة الإنسانية الناجمة عن ذلك، والتي تصيب الشعب الأوكراني أو السوري، وقد تصيب أيضا الشعب الروسي لاحقا. كما لا يرى مما يجري، أي الحرب الحالية وفظاعاتها وما قبلها، سوى جزءا من برنامج لإعادة بناء نظام متعدد الأقطاب على أنقاض نظام القطب الواحد الظالم. وفي هذا البرنامج، فإن الشعوب ومعاناتها وخسائرها الفادحة، من أرواح ودماء ودمار يصعب تقديره، والمخاطر الكونية التي ينطوي عليها هذا الغزو لا تحمل أهمية خاصة. ويخفق هذا الجزء من اليسار الاستبدادي في الإدراك أن الشعوب العربية، وغير العربية، التي ثارت وقُمعت بوحشية، مثلت الوكيل لإحداث التغيير في النظام العالمي الظالم الذي تحكمت فيه الإمبريالية الأميركية وحلفاؤها لزمن طويل، حيث عملت قوى الثورة المضادة، وعلى رأسها روسيا بوتين، على قمع الثورات ومساندة كل الانقلابات في العالم العربي. وتجدر الاشارة إلى أنه إضافة إلى الرئيس التشيلي، فإن رؤساء المكسيك وبوليفيا وكولومبيا، وهم يساريون، أعلنوا معارضتهم للحرب الروسية، مع إدانتهم لسياسات حلف "الناتو" الإمبريالية التوسعية. وهذا أمر مهم، في حين فنزويلا مثلا، أعلنت تأييدها لحرب بوتين.

من جانب آخر، هناك اليسار الديمقراطي الإنساني، المتمثل في جماعات منظمة أو فئات من المفكرين والمثقفين المستقلين في الغرب وفي العالم العربي وفلسطين، الذي يتخذ موقفا متسقا مع الأخلاق اليسارية والإنسانية والإستراتيجية، دون الاصطفاف مع أي من المعسكرين الرأسماليين والمعاديين للشعوب. هؤلاء اليساريون، مثل الكثيرين من الديمقراطيين الراديكاليين وأحرار العالم من جهة، يُحمّلون حلف "الناتو" بزعامة الولايات المتحدة المسؤولية، ليس فقط عن خلق الظروف التي دفعت الرئيس الروسي للإقدام على هذه المغامرة الخطيرة، بل أيضا عن معظم مآسي الإنسانية، خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة التي تفردت فيها بإدارة النظام الدولي.

بالنسبة لهذا اليسار الديمقراطي، ليس نظام بوتين نظاما اشتراكيا (وبوتين لا يدعي ذلك)، ولا هو ديمقراطي ليبرالي، ولا يسعى إلى تبني نموذج العدالة الاجتماعية أو اشتراكية أكثر إنسانية وعقلانية من النظام الشيوعي البائد، لروسيا وللعالم؛ بل هو يسعى الى استعادة عظمة روسيا بالقوة العسكرية، وليس عبر التأثير الناعم من خلال نموذج إنساني جذاب. إنه معادي للديمقراطية الليبرالية وللاشتراكية، كليا. وكان لافتا هجوم بوتين في خطابه فجر الهجوم على أوكرانيا على لينين، متهماً إياه باختراع أوكرانيا. لينين ما له وما عليه، لم يخترع أوكرانيا، وقد رد عليه مؤرخون وفندوا مزاعمه.

يشجع بوتين الحركات اليمينية الشعبوية في الغرب، وليس الحركات الشعبية واليسارية ذات التوجه الديمقراطي والإنساني، المناهضة لسياسات حكوماتها الداخلية والخارجية. كما لا يتبنى حركات تحرر وطني ولا يساندها. بل باتت روسيا، على سبيل المثال، شريكا وإن بدرجة أقل، في التعاون والتنسيق الأمني مع إسرائيل، والذي يتجلى ذلك في سورية.

نعم تتحمل روسيا "السوفييتية" بقيادة ستالين، المسؤولية عن جريمة الاعتراف بقرار تقسيم فلسطين، وتزويد الحركة الصهيونية بالأسلحة، التي لولاها وباعتراف دافيد بن غوريون ما قامت إسرائيل. ولكن منذ أواخر الخمسينات، كان الاتحاد السوفييتي صديقا وداعما لحركة التحرر الوطني العربية، وللحركة الوطنية الفلسطينية، وقدّم الأسلحة والتدريب العسكري والمنح الدراسية. ولكن اليوم، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تحولت روسيا إلى حيادية، وغير مكترثة بقضيتنا. بل بالعكس، ترى مصلحتها (في إطار السعي لاستعادة عظمتها القومية وليس ماضيها الاشتراكي والمناهض للرأسمالية الإمبريالية الأميركية) في التنسيق والتعاون الأمني مع إسرائيل، أي الكيان الاستعماري الاستيطاني الذي يشكل جزءا عضويا من الإمبريالية الأميركية والنظام العالمي الذي يقهر الشعوب.

في هذا المشهد السياسي العالمي المركب، الآخذ في التشكل، يستوجب الالتزام الأخلاقي بقضايا الشعوب، وبالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وبقضية فلسطين، أن يعتمد اليسار (في فلسطين أيضًا) موقفا أخلاقيا، أي اتخاذ موقف يناهض المنظومة النيوليبرالية والإمبريالية ككل، ويستعيد مفهوم حرية الإنسان. سيتعين على شعبنا، والقوى اليسارية والدول المستقلة المناورة بين الأقطاب الدولية المتعددة التي تتشكل، بحكمة وتعقل بما يفيد قضية التحرر والحرية وحق تقرير المصير والعدالة، وذلك في الوقت الذي تبذل فيه الجهود من أجل خلق بديل تحرري انساني.

نعم، إن العالم لا يحتاج إلى عالم متعدد الدكتاتوريات أو الإمبرياليات أو الهمجيات، بل يحتاج إلى نظام عادل وأخلاقي متوازن، غير عنصري، ينصف الفقراء والمقهورين في أنحاء العالم، والذي يرزح بعضهم حتى الآن تحت نير الاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري، كما هو الحال مع شعب فلسطين.

إن النظام الحالي والدول الكبرى، باستثناء الصين، يتحمل مسؤولية جريمة تدمير فلسطين المستمرة، وهو مستمر بتوفير الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي، والحماية من العقاب للجيب الأوروبي الاستعماري الذي زرعه هذا النظام، على أنقاض شعب مشتت وخاضع لأنظمة قهر وتنكيل يومي. ومن عجائب هذا النظام الدولي، أن يقف الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي تتعرض بلده لغزو خارجي، شاكيا الظلم على بلاده في حين هو يقف أسوة بحكومات الغرب الكولونيالية العنصرية، إلى جانب معتدٍ ومغتصب آخر، في فلسطين. وبالنسبة لشعبنا الفلسطيني، فهذه هي الفرصة التي يجب أن نصعد حملتنا لتعرية نفاق القطب الأميركي والغربي، الذي يفرق بين مقاومة شعب ومقاومة شعب آخر بناء على مصالحه التوسعية وأيدولوجيته العنصرية. والموقف من قضيتي فلسطين واليمن من الأمثلة الصارخة التي تقول كل شيء عن هذا النفاق المقزز.

لا نستطيع مواجهة هذا النفاق بنفاق مقابل، بل بموقف متسق مع الإنسان ومصلحته، وعبر إستراتيجية نضالية فعالة. وفي هذا الزمن، سيتعين على قوى اليسار والحرية والديمقراطية، علمانية ودينية مستنيرة، المناورة بين الأقطاب الدولية الحالية أو التي قد تتشكل، بما يفيد قضاياها العادلة، دون التنازل عن قيمها التحررية الانسانية. بهذه المقاربة تنتصر الشعوب ويفوز الإنسان، في نهاية المطاف.

التعليقات