22/03/2022 - 10:06

تطبيع النظام وتطبيع التطبيع

ربما باستثناء الجزائر والكويت ولبنان، لا يوجد دولة عربية غير مطبعة مع إسرائيل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وليس بعيدا عن الدقة القول إنه من الصعب اعتبار دولة عربية واحدة مستقلة بقراراتها بالكامل.

تطبيع النظام وتطبيع التطبيع

ربما باستثناء الجزائر والكويت ولبنان، لا يوجد دولة عربية غير مطبعة مع إسرائيل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وليس بعيدا عن الدقة القول إنه من الصعب اعتبار دولة عربية واحدة مستقلة بقراراتها بالكامل. فالقواعد الأميركية والغربية والروسية، منتشرة على أراضي جزء كبير من هذه الدول، ناهيك عن الارتباطات بشروط المؤسسات الدولية المالية، كصندوق النقد، والبنك الدولي. باختصار فإن التبعية للخارج باتت، منذ زمن طويل، مسألة بنيوية متجذرة، لم تفلح الثورات العربية المغدورة، حتى الآن، في تقويضها.

وقبل توقيع نظام السادات على اتفاقية الاستسلام عام 1979، والتطبيع العلني مع الكيان الصهيوني، مارست أنظمة عربية معروفة، التطبيع الخفي، بل الأدق تعاونها الأمني، مع هذا الكيان الاستعماري، في إطار التحالف الأميركي الغربي، الذي وفر لهذه الأنظمة كل أسباب البقاء. وكان كل ذلك موجها لمحاصرة المشروع القومي العربي الذي قاده الراحل جمال عبد الناصر، وخاض معارك طاحنة ضد الخارج في سبيل تحقيقه، ولكن دون نجاح.

وتأتي زيارة بشار الأسد لنظام الإمارات، لتكشف عن الميكافيلية المقيتة التي ميزت سلوك الحكام العرب، كطريق للحفاظ على عروشهم. يحاول المدافعون عن النظام السوري، التخفيف من وقع زيارة الأسد إلى نظام الإمارات، أو إخفاء تناقضها مع ادعاءاته، وصورته عن نفسه. أما قوى المعارضة السورية الفاشلة والمرتهنة للخارج، فتصدر بيانا تدين موقف نظام الإمارات على إقدامها على التطبيع مع نظام بشار الأسد، وكأن جرم نظام الإمارات في التطبيع والتحالف مع إسرائيل مسألة جانبية.

ليست زيارة بشار الأسد وتعزيز العلاقة مع نظام عربي متحالف مع إسرائيل، غريبة عن نهج النظام السوري، أي النهج الميكافيلي، ومقطوعة عن نهجه التاريخي. ففي عام 1976، كان له الدور الحاسم في قمع الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية المتحالفتين، في مواجهة نظام الحكم الرجعي، وحليفه حزب الكتائب، خوفا من امتداد نيران الثورة داخل سورية. وتبقى مجزرة تل الزعتر الرهيبة، من الجرائم المسجلة في تاريخ هذا النظام. كما في عام 1991، عندما احتل نظام صدام حسين الكويت، قرر نظام حافظ الأسد، الوالد، وهو "المعادي للإمبريالية" كما كان يعلن، الوقوف إلى جانب القوات الأميركية، وإرسال قواته إلى السعودية لإخراج القوات العراقية من هذا البلد العربي، مع أنه كان يدرك أن الإمبريالية الأميركية لم يكن هدفها تحرير الكويت، بل تدمير العراق، وإخراجه من معادلة القوة ضد إسرائيل، كقوة استعمار عدوانية. كان على النظام أن يقول لأميركا إن هذا شأنٌ عربيٌ يجب حله داخليا، وتحريم التحالف مع الإمبريالية الأميركية ضد قوة عربية، حتى لو كانت مخطئة، وقد كان هذا التحالف خطيئة بقدر ما كان غزو صدام حسين للكويت جريمة وخطأ إستراتيجيا كارثيا، على حد سواء.

ومثّل اصطفاف نظام حافظ الأسد إلى جانب العدوان الأميركي على العراق آنذاك، سابقة تاريخية مشينة، في تاريخ التيار القومي العربي، إذ أن هذا النهج كان مقصورا على القوى العربية الرجعية. واليوم، يُقدم الابن، بشار، على زيارة نظام عربي، الإمارات، وهو ليس مطبعا فحسب، إذ سقطت مقاطعة الأنظمة المطبعة من قاموس الجامعة العربية منذ عقود، بل زيارة لنظام متحالف، عسكريا وأمنيا، واقتصاديا، مع إسرائيل، وهو تحالف يستهدف في الأساس أحد أطراف "محور الممانعة" أي إيران، ناهيك عن كونه طعنة في خاصرة الكفاح الفلسطيني. ونظام الأبرتهايد الاستعماري لا يتوقف عن الاعتداء على سورية، مستهدفا القوات الإيرانية تحديدا، بالتنسيق مع روسيا. طبعا أن نسجل موقفنا تجاه عصابة نظام الإمارات، باعتباره طليعة محور الثورات المضادة، لا يضير النظام السوري، الذي يعتبر كل ثورات الشعوب العربية جزءا من مؤامرة إمبريالية وعربية رجعية.

في بدايات حكم بشار، عوّل بعضنا، نحن المحسوبون، على التيار القومي الديمقراطي العربي، عليه، لكونه شابا يحمل رؤية إصلاحية شاملة للبلد. وسكتنا على مضض على عملية التوريث المسرحية، لأن التغيير من خلال حركة شعبية بدا آنذاك مستحيلا، في سورية وفي العالم العربي، نظرا لطبيعة الأنظمة المستبدة، وخنق المجتمع المدني. ورأينا بدعمه للمقاومة اللبنانية عام 2006 في مواجهة العدوان الصهيوني، خطوة مغذية للأمل. غير أن ما حظي به من تأييد وتقدير لهذه الخطوة زادته غرورا، وثقة بعدم ضرورة إجراء إصلاحات داخلية، انتظرها الناس منه، كشاب واعد، بل أوغل في القمع، فاسحا المجال لنمو شرائح اقتصادية اجتماعية في سياق سياسة انفتاح نيولبرالي قاد إلى تعميق الفقر والفجوات بين طبقات الشعب. وتوقع بعض المحللين السوريين، النقديين، إمكانية نشوء حراكات بل غضب شعبي عارم. وفي أواخر عام 2010، انفجرت الثورة المجيدة في تونس، ولتدشن ثورة عربية عابرة لحدود "سايكس بيكو" الاستعمارية التقسيمية، ضد أنظمة رجعية متخلفة، استبدادية، التي فشلت في تحرير فلسطين، وفي بناء الوحدة العربية، بل وفي بناء دول قطرية حقيقية، ديمقراطية وقوية اقتصاديا.

وقد صرح بشار الأسد، في حينه، وقبل ثلاثة أسابيع من وصول الزلزال العربي إلى عتبة بيته، ردا على سؤال وجهته له صحيفة "وول ستريت جورنال"، الأميركية، بأن الشعب السوري لن يثور لأنه راضٍ عن النظام. وفي محاضرة لي في مركز التراث في بلدة مجدل شمس، والتي غطاها التلفزيون السوري الرسمي، قلتُ تعليقا على هذا التصريح بالحرف الواحد: "إننا في لحظة تاريخية غير مسبوقة، وإن وصول الثورة إلى سورية حتمي، إذا لم يسارع سيادة الرئيس، بالاستجابة لمطلب الإصلاح، خاصة وأن الجميع يعرف أن الفساد في مؤسسات الحكم في تصاعد". ولكن هذا الجزء من المقابلة، تم حذفه، مما أكّد على إصرار النظام على نفس النهج، أي رفض النقد، وتجاهل مطالب الإصلاح. وهكذا حوّل النظام الثورة إلى مقتلة، تمكنت من خلالها قوى خارجية، عربية رجعية، وأميركية، وإقليمية طائفية، وصولا إلى الاستعانة بروسيا بوتين، الذي استخدم سياسة الأرض المحروقة الوحشية، ليحوّل الأرض السورية والشعب السوري لحقل تجارب لأسلحته، متباهيا لاحقا بنجاعة هذه الأسلحة وزيادة الطلب عليها. أما قوى المعارضة، التي سارعت في الأشهر الأولى من الثورة السلمية، إلى الارتهان لدول خارجية، إقليمية، وغربية إمبريالية، وإلى عسكرتها، فكانت وبالا على الشعب السوري وثورته، التي يتذكرها السوريون كثورة بطولية تعرضت للغدر والتخريب من الداخل والخارج.

إن تمتين العلاقات بين نظام الأسد ونظام الإمارات، هو تلاقٍ بين قوى الثورات المضادة، وتطبيع مع النظام السوري، وفي الوقت ذاته تطبيع التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يستعمر فلسطين، والجولان العربي السوري. هذه هي النتيجة الفعلية، والتي لا تُبقى مجالا لمواصلة التضليل وتزييف الوعي.

التعليقات