10/06/2022 - 16:26

عن الدم والغاز... والتحرُّر

في عالم من هذا النوع، سيتعيّن على الشعوب المقهورة، ومنها شعبنا الفلسطيني، وشعوبنا العربية، إعادة التأكيد على قوّاها الذاتيّة، و إعادة صياغة إستراتيجياتها التحررية، وتعزيز مفاهيمها وقيَمها الأخلاقية، وتوطيد علاقاتها الكفاحية مع الشعوب المقهورة

عن الدم والغاز... والتحرُّر

قصف منشأة طاقة أوكرانية (Getty Images)

بعد أن تهاوت حسابات المتورطين في الحرب الروسية - الأوكرانية - الغربية، وامتدّت حتى الآن لأكثر من ثلاثة أشهر، والتي هي بمثابة حرب بالوكالة، تحوّلت إلى مجرّد خبر عاديّ فى نشرات الأخبار، واستُبدل الحديث عن الدماء المراقة بالحديث عن النفط والغاز والقمح والهموم اليومية. إنه مشهد سرياليّ، يقف الفرد العاديّ إزاءه، مشدوها، ومتسائلا بمرارة: كيف يمكن للبشرية، بعد كل هذا التطوّر المذهل، في جميع الحقول العلمية والإنسانية، والسياسية، وإدارة الصراع، والحلول، و إعلان حقوق الإنسان، وبعد أن مرّت بحروب مرعبة؛ أن تُعيد إنتاج وحشية هذا الماضي، البعيد والقريب، بصورة أشدّ رعبا ودموية؟ وكيف تنتعش حرب الأكاذيب المتبادَلة، والدعاية والدعاية المضادة، وكيف تسقط جحافل المثقفين والإعلاميين، في الغرب والشرق والشمال والجنوب، في نفس أخطاء الماضي، وتخون مهنتها ورسالتها الأخلاقية والإنسانية؟

إنّ العالم يشهدُ حربا مجنونة، تجري تغذيتها بالأسلحة الفتّاكة، والمضيّ بها وفق منطق النتائج الصفرية، وكأنها حرب وجودية. لقد أراد نظام بوتين من غزوه الوحشي للبلد الجار، أن يكون قاصما وفي غضون أيام؛ احتلال أوكرانيا وتغيير النظام، ونزع الأسلحة من البلد، ومنعه من الانضمام إلى حلف الناتو الإمبريالي العدواني. أما الناتو بقيادة الإمبراطورية الأميركية، والذي دأب على التوسّع نحو الحدود الروسية والاستخفاف بمصالح هذا البلد الكبير، رغم اختفاء العدو الشيوعي قبل ثلاثة عقود، وجد بهذا الغزو فرصته. هكذا يظنّ، لاستنزاف روسيا وهزيمتها، وذلك في إطار رؤيته لإضعاف روسيا، ولمحاصرة الصين، الدولة الصاعدة اقتصاديا وتكنولوجيا. ورغم تعثُّر تحقيق الأهداف القصوى من قِبل نظام بوتين، وتخفيض سقف طموحاته في أوكرانيا، تُصرّ إدارة جو بايدن على إلحاق الهزيمة الساحقة به، مع أن خبراء في العلاقات الدولية في أميركا والغرب، يحذّرون من مغبّة هذا التفكير غير الواقعي، بل الكارثي. بل إنهم يعتقدون أنه كانت هناك فرصة للدبلوماسيّة لمنع هذه الحرب وتحقيق تسوية تضمن مصلحة كل الأطراف، والتي تتمثّل في تحييد أوكرانيا وعدم انضمامها عسكريًّا إلى أي من التكتّلات والأحلاف، غير أن جنون بوتين، وغطرسة الناتو، وجشع المجمع الصناعي العسكري الأميركي، وخضوع الاتحاد الأوروبي للضغوط الأميركية؛ كلّ ذلك أدى إلى إشعال حرب في غاية الدموية، في عموم بلدٍ كبير وواسع يمتد على أكثر من 600 ألف كيلومتر مربّع، ويعيش فيه نحو 44 مليون إنسان.

لا يستطيع أحد أن يتنبأ كيف سيتطوّر مجرى الصراع، وكيف ستنتهي الحرب، ولكنّ المعسكر الغربيّ، الذي نسي واسترخص الدماء والأرواح المزهقة على الأرض الأوكرانية، وقوافل اللاجئين الهائمين على وجوههم، يكتوي الآن بالسلاح ذاته الذي اعتمده الناتو ضدّ روسيا، ألا وهو العقوبات الاقتصادية الجارفة، والتي أرادها حربا اقتصادية خاطفة وجارفة تقصم ظهر "الدبّ الروسي"، وإذا بها تخنق الغرب ذاته، فهذا الغرب ومعه العالم كله، يواجه الآن أزمة نقص القمح وارتفاع أسعار الغاز والنفط، ومستوى المعيشة، وارتفاع مستويات التضخم. أي أن الأزمة لا تطال روسيا فحسب، بل دول المعسكر الغربي، الذي يدير الحرب بالوكالة من خلال الرئيس الأوكراني.

لقد أثارت هذه الحرب منذ انطلاقها، خليطا من المواقف والآمال والتوقّعات المتناقضة لدى الشعوب المقهورة، ويخاصة تلك التي عانت من الاستعمار والإمبريالية الأميركية والغربية. وانقسم مثقّفوها وقادتها ونشطاء الأحزاب والحركات، إلى معسكرات وفرق. حتى التيارات اليسارية، سواء في الغرب أو في بقية أنحاء العالم، شهدت وتشهد انقساما في الموقف والرأي والتشخيص. ولم يستثنِ هذا الانقسام شعبنا الفلسطيني ونُخَبه. ومن المفارقة التي لا تزال قائمة، اصطفاف أوساط من هذه النخَب إلى جانب الغزو الروسي، باعتباره حربا ضد التسلّط الأميركي، ومن أجل نظام متعدد الأقطاب. وكما في الثورات العربية، فإن هذا الموقف تخلّى عن البُعد الأخلاقي للتحرّر، والذي يرتكز إلى الحرية وكرامة الإنسان، ومبدأ حقّ تقرير المصير للشعوب.

وقد كان حريًّا بأن تقف هذه النخب موقفا تحرريا أخلاقيا، يستند إلى الحرية والعدالة الإنسانية، وإلى رفض الحروب الإمبريالية، فهذه هي القيَم الأصيلة التي تبنّاها تاريخيًّا اليسار الديمقراطي، والديمقراطيون الراديكاليون. ليست هذه الحرب صراعا بين الديمقراطية والأوتقراطية، بين التنوّر والتقدّم، كما يصوّرها الغرب الإمبريالي، أو كما يدّعي الرئيس الأوكراني الصهيوني زلينسكي. وهي ليست حربا طبقية لتحرير الطبقة العالمية والفئات المستغلة من استبداد النظام النيوليبرالي المتوحش، أو انعتاق الشعوب العربية من الاستبداد والفقر، كما يعرضها بعض المنتمين لليسار، وليست حربا لتحرير فلسطين كما يخيَّل لبعض النخب الفلسطينية. بل هي حربٌ إجرامية عبثية، وقد أظهرت مجددا ازدواجية الغرب، من خلال تمجيد المقاومة الأوكرانية، ووسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب. كما أظهرت انتهازيّة نظام بوتين، الذي فطِن إلى أن احتلال الجولان العربي السوري هو احتلال غير شرعي، فقط عندما أدان وزير خارجية إسرائيل، يئير لبيد، مع بداية الحرب، الغزو الروسي. وهذا النظام الذي اعتمد إستراتيجية الأرض المحروقة، ضد المدن السورية، كما فعلت الإمبراطورية الأميركية في العراق وأفغانستان وغيرها من دول العالم، سُمِح ويُسمَح لإسرائيل بشنّ مئات الهجمات والغارات على سورية.

من الصّعب التنبّؤ كيف سيكون شكل العالم ما بعد هذه الحرب. والتوقُّع العام هو عالم متعدد الأقطاب، ولكنه عالم بدون ادعاءات أخلاقية، أو سرديات كبرى كما كان عليه الحال قبل عقود، بل عالم المصالح وتقاسُم النفوذ. عالم يحتكم للاقتصاد النيوليبرالي الذي أثبت أنه غير مـؤهل لتحقيق عدالة اجتماعية، وسدّ الفجوات الاجتماعية الخطيرة ومنع الحروب، والصراعات الأهلية.

في عالم من هذا النوع، سيتعيّن على الشعوب المقهورة، ومنها شعبنا الفلسطيني، وشعوبنا العربية، إعادة التأكيد على قوّاها الذاتيّة، و إعادة صياغة إستراتيجياتها التحررية، وتعزيز مفاهيمها وقيَمها الأخلاقية، وتوطيد علاقاتها الكفاحية مع الشعوب المقهورة في أرجاء المعمورة، في نضالها من أجل هزيمة الاستعمار والأبرتهايد والاستبداد، وتحقيق التنمية المستدامة. أما على صعيد الدول، فإن قيادات حركات التحرُّر ومنها الفلسطينية، سيتعيّن عليها المناورة بين هذه الأقطاب المتعددة المتشكّلة، والاستفادة من صراعاتها، وفق رؤية براغماتية عملية، ولكن دون الاصطفاف في التحالفات التي ستنتج عنها، و بدون التنظير والتماثل الأخلاقي مع أي من هذه الأقطاب.

اقرأ/ي أيضًا | نجوم المرحلة الرديئة

التعليقات