18/06/2022 - 18:08

العِلم في الكِبَر..

تؤكد دراسات وأبحاث علمية، أن التعلّم في الكِبر يقي من الشيخوخة أو يؤخّرها. وبرأيي المتواضع فإن العلم يقي الشبان من الشيخوخة المبكِّرة، وهم أولئك الذين لا يطمحون

العِلم في الكِبَر..

تؤكد دراسات وأبحاث علمية، أن التعلّم في الكِبر يقي من الشيخوخة أو يؤخّرها. وبرأيي المتواضع فإن العلم يقي الشبان من الشيخوخة المبكِّرة، وهم أولئك الذين لا يطمحون لإضافة أي شيء إلى ما عرفوه خلال فترة التعليم المنهجية، وكأن هدفهم قد تحقق بعد نيل الشهادة التي تؤهلهم لعمل منظم أو لوظيفة، وكأن المعرفة بذاتها لا تهمهم بشيء، رغم أنهم ما زالوا في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم.

هناك حاجة إلى تفجير الرغبة والفضول والظمأ إلى المعرفة، لتتحول إلى حالة اجتماعية في الرغبة لتجديد مخزون معرفتنا، والاستفادة القصوى من الوقت وعدم ترك الأيام تمضي في روتين واحد، دون تعلّم أي شيء جديد، أو تعميق ما كنا نعرفه، سواء في مجالنا المهني أو في أي مجال آخر.

هناك أناس مميّزون، يواصلون التعلّم في شيخوختهم، وبعضهم يستأنف التعلّم بعد عقود، انشغل خلالها بتوفير الحياة الكريمة لأسرته، وبترفيه نفسه.

هناك من يستغل فرصة التقاعد لتجديد علاقته مع أرضه التي انقطعت خلال عقود انشغاله في العمل، فيعود إلى تنظيفها وتشجيرها والعناية بها، وهؤلاء قلّة، لأن الأرض نفسها باتت قليلة.

وهناك من ينتبهون إلى العلم بعد خروجهم إلى التقاعد، مستغلين وقتهم في مقاعد الدراسة بالجامعات.

أحد هؤلاء من هذه القلّة في مجتمعنا، هو الدكتور يوسف فخر الدين من دالية الكرمل، الذي حقق الدكتوراة في سِن الثمانين.

بعد خروجه إلى التقاعد من العمل في وظيفته بعد تجاوزه الستين عامًا، بدأ رحلة تعليمية في جامعة حيفا، وكما يقول، كان هذا بدافع الفضول وحبّ المعرفة، وقد حقق اللقب الأول والثاني ثم فتحت شهيته للدكتوراة التي حصل عليها في سن الثمانين.

وطرق د. يوسف فخر الدين في بحثه باب الزّجل، وهو فن عريق معروف في أكثر البلدان العربية، فأضاف إلى المكتبة العربية أبحاثا هامة، في هذا الموضوع وحقّق مخطوطات لعددٍ من السابقين.

يوسف فخر الدين شاعر زجال، وصدر له ديوانان شعريان هما "وادي النحل" و"حجر البدّ"، وهو مطّلع بشكل ممتاز على الأوزان الشعرية في الزجل وأصوله، ولهذا كان اختياره في مجال يعرفه ويحبّه موفقًا، مندفعًا بشغف كبير.

وتكمن أهمية أبحاث د. فخر الدين بأنها تحقق في أعمالٍ لم يسبقه أحد إليها، مثل ديوان سراج الدين المحّار عمر بن مسعود الذي ولد عام 1311.

وتحقيق ديوان ابن حجة "بلوغ الأمل في فن الزجل". 1366-1433 م.

والتحقيق والبحث الذي أنجز من خلاله الدكتوراة "دقة الأوزان في أزجال ابن قزمان".

وهذا إنجاز علمي أدبي تاريخي هام، وخصوصًا أن التاريخ العربي في الأندلس تعرّض للطّمس والمحو والإخفاء.

وفي بحثه هذا عارض آراء بعض الباحثين الغربيين الذين أنكروا على الزجل في الأندلس أن يكون عربيًا، وزعموا أن ابن قزمان القرطبي أخذه عن الإسبان وغيرهم من الأوروبيين، وقد عارضهم فخر الدين بالحجة والدلائل والقرائن ومعرفته باللغة والأوزان ليثبت أن زجل ابن قزمان القرطبي قائم بذاته، ووجد فيه أكثر من مئة وزن شعري مختلف، وبهذا خدم هذا الجانر الفني خدمة جليلة، ووضع بصمة قويّة في مجال لم يلتفت إليه أحد منذ قرون.

لقد مثل فخر الدين نموذجا للشباب قبل الكهول والشيوخ، لأن يستغلوا وقتهم المتاح للتعلم والمعرفة، ومجال العلم والمعرفة ليس محدودا لجيل معين، بل هو حقّا من المهد إلى اللحد.

لم يكن الأمر سهلا، فقد واجه الباحث صعوبات كبيرة، وخصوصًا لعدم وجود مصادر متوفرة سوى ما ندر.

حتى أستاذه الذي عرض عليه فكرته لأطروحة الدكتوراة، شكّك في أهمية الموضوع، ولكن الباحث الجادّ أصر مدفوعًا بشغفه على أن يعد البحث في كل الحالات سواء أهّله للدكتوراة أم لا، وتبيّن أنه كان محقًا.

لقد أصبح الوصول إلى مصادر المعرفة ميسورًا أكثر من ذي قبل، وليس على الإنسان سوى النظر بجدية إلى طلب المعرفة.

هذا ينطبق على كل العلوم، بما فيها الهوايات، فبالإمكان إشغال أوقات الفراغ بتعلم الكثير من الأمور الشّيقة مثل اللغات أو العزف على آلة موسيقة وغيرها، فالدّروس ومواقع التعليم متوفرة بالملايين على الشبكة العنكبوتية.

ما أجمل أن يتحوّل حبُّ المعرفة إلى حالة عامة، ليس فقط لأجل الحصول على شهادة تأهيل للعمل في مهنة ما، إنما لأجل المعرفة بذاتها، فالمعرفة مصدر سعادة وقوة وصحة نفسية وجسدية، وتمنح الساعي إليها ثقة بالنفس، وتنعكس على المحيط والمجتمع كله ليصبح أجمل وأفضل.

التعليقات