28/08/2022 - 13:52

انتهى دور الشِّعر كحبوب مُهدِّئة...

دعيتُ قبل أيام قليلة برفقة صديق إلى أمسية شعرية، ألقى خلالها عدد من "الشعراء" قصائدهم، بعضها من الشِّعر العمودي وأخرى من شعر التفعيلة، ولم يكن من بينها ما يُسمى قصيدة النثر، أو الشِّعر الحُرّ.

انتهى دور الشِّعر كحبوب مُهدِّئة...

صورة تعبيرية (Gettyimages)

دعيتُ قبل أيام قليلة برفقة صديق إلى أمسية شعرية، ألقى خلالها عدد من "الشعراء" قصائدهم، بعضها من الشِّعر العمودي وأخرى من شعر التفعيلة، ولم يكن من بينها ما يُسمى قصيدة النثر، أو الشِّعر الحُرّ.

في طريق عودتنا جرى حديث بيننا عن كثرة الشُّعراء في وطننا، فهم يملؤون منصات التواصل الاجتماعي، ولدينا اتحادان للكتاب والشُّعراء العرب الفلسطينيين في داخل منطقة الـ48.

لو أحصينا أعداد الشعراء الذين أصدروا مجموعات شعرية لوصل إلى المئات، أما من ينشرون على صفحات التواصل تحت تسمية شعر فهم بالآلاف وبعضهم يفوز بشهادات تقدير من مختلف المنتديات الثقافية التي ينتمي إليها.

برأيي الذي بُحت فيه مرَّة منذ سنوات لشاعر كبير، بأنَّ الشِّعر أعاق النضال الفلسطيني! فردَّ غاضبًا ومستغربًا طالبًا تفسيرًا!

أوضحت له ما هجستُ به وقلت، لو أنّ كل شاعر تحدَّث في شعره عن التضحيات والبطولات وتحطيم القيود والثورة على السَّجان والظلم وحارب النفاق الاجتماعي وناصر الضعفاء ونطق بالحق في الواقع كما يتغنى في شعره لكان وضعنا أفضل بكثير مما هو عليه اليوم! إذ يفترض بالأدباء والشعراء أن يكونوا طليعة وخميرة مجتمعهم، إلا أنه وكما جاء في القرآن الكريم "يقولون ما لا يفعلون"!

نعم إنها حقيقة، ومن النادر جدًا أن يفعل أحدهم ما يقوله، وهذا طبيعي جدًا، وما ينطبق على الشعر يصلح لغيره من الفنون.

الفنُّ كما يقول النقد، أداة لحفظ التوازن في مواجهة عالم قاس لا يرحم ومليء بالتناقضات، ومن الطبيعي جدًا أن يكون الشُّعراء وهم فئة من الناس شديدي الحساسية الذين يتأثّرون بما يدور حولهم، إلا أنّهم أمام عجزهم عن مواجهة الواقع، يمارسون أعمالا بطولية ويواجهون على الورق أو شاشة الكمبيوتر! يناصرون الضعفاء والأسرى ولا يبخلون بأرواحهم للوطن.

إضافة إلى المكبوتات الوطنية التي يطلق الشعر سراحها، هنالك ميادين الحب والغرام التي تهطل كما لو كانت أمطارًا غزيرة، فالعشق والغرام والهيام يسيطر على المشاعر، ويخدِّرها فتنهمر القبلات ودموع الفرح بلقاء الأحبة والاحتفاء الجسدي والروحي، وهذا نجده خصوصًا لدى الجيل المتقدم سنًا الذي لم يشبع من علاقات عاطفية شبه متحرِّرة كما هو واقع الجيل الشاب الذي تسهَّلت علاقاته العاطفية أكثر بكثير.

إضافة إلى غريزة حُبِّ الظهور والتميّز عن الآخرين، إذ وجد البعض في الشعر مطيّة سهلة، وقد ظنوا هذا لجهلهم في الشعر أصلا.

معظم ما يُكتب وينشر من "شعر" هي عمليات تفريغ لشحنات داخلية تسعى إلى تحقيق توازن نفسي أمام هجمات خارجية شرسة، والشعر والفن في الواقع هو عملية علاجية نفسية لكاتبها ولمن يـتأثر به فيحفظ منه، ويستمتع إذا وجد صورة فنية قادرة على فرض نفسها عليه.

سألت صديقي: ما هو عدد أبيات الشعر التي يحفظها الناس أو يردّدونها لهذا الشاعر أو ذاك أو حتى لمجموعة من الشعراء! والأهم من هذا هل هناك أفكار لافتة في هذا الشعر تثير الجدل مثلا؟

الشِّعر الحقيقي يبقي بصمة وأثرًا لدى الناس فيحفظون منه بيتا أو بضعة أبيات أو على الأقل الفكرة التي جعلتهم يتوقفون عندها أو الصورة الجمالية التي ابتكرها الشاعر!

هناك شعراء كبار لا يتناقل لهم الناس سوى بيتين أو ثلاثة أبيات عُرفوا من خلالها! قلائل من يعرفون شعرًا لأبي القاسم الشابي سوى "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.. ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر"... الفكرة القوية والظرف التاريخي الذي ظهرت فيه، خلدت الشعر والشَّاعر، فالأساس هي الفكرة القوية التي تقول بأن القَدر يستجيب لإرادة الشَّعب، وبمعنى آخر، فالقدر لن يستجيب ما لم يتحرَّك الشعب ويستعد لنيل حرِّيته بيده.

هذا ينطبق على شعر عبد الرحيم محمود الذي خلّده بيته الشِّعري.. "سأحمل روحي على راحتي، وأهوي بها في مهاوي الرَّدى، فإما حياة تسرُّ الصديق، وإمام ممات يغيظ العدا" هذان البيتان عاشا بفضل شاعر وقَّعهما بدمه، ولو أنه لم يستشهد فعلى الأرجح أننا لم نحفظ هذين البيتين، بل لما اهتم أحد في جمع ديوانه.

لقد لعب الشِّعر المحلي لعقود عديدة دور الحبّة المهدِّئة ولكن هذا الدور انتهى ولم يعد صالحا، فما كان ثوريًا في الستينيات أصبح بضاعة قديمة ومبتذلة، وعلى الشِّعر أن يحمل رسائل إنسانية ووجودية كبيرة.

بلا شك أن هناك أصواتًا شعرية جدِّية ظهرت وتعاملت مع الشعر بفنية وجمالية وبوعي تام لدوره السياسي والاجتماعي والفكري، فتعدّدت مواضيع شعرها، وفنّيتها، فلم تكن مجرد صرخات تفريغ لشحنات غضب أو إحباط أو هروبًا من الواقع والعجز، ولكنها قليلة، وهي أصوات أقل ضجيجًا وأقل إنتاجًا، ونادرًا ما نراها على المنابر.

اقرأ/ي أيضًا | عن الكتابة والقراءة

التعليقات