27/03/2023 - 11:15

احتجاج غير ديمقراطيّ على دكتاتوريّة غير جديدة

النضال الفلسطينيّ، حتّى في أساليبه العُنْفِيَّة، محكوم برؤى ديمقراطيّة مَنصوصَة لا شفويّة فقط، أكثر بكثير من احتجاجات اليهود على نظامهم وخطاب هذا الاحتجاج، منصوصِهِ ومنطوقِهِ، حيث تحكمه قيم ومقولات وتصوّرات كولونياليّة أوضحتُ بعضها سابقًا.

احتجاج غير ديمقراطيّ على دكتاتوريّة غير جديدة

(Getty Images)

Out

مِنْ موقع الرغبة في الاندماج (Integration) فلسطينيًّا، والاستيعاب (assimilation) إسرائيليًّا، لا تزال أصوات تتساءل، بنبرة المتفاجئ أو المتّهم: لماذا لا يشارك فلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948 في الاحتجاج ضدّ ما يُسَمّى "الانقلاب القضائيّ"، من قبل الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو، على الرغم من أنّ هذا "الانقلاب" سيمكّن قوى يمينيّة- دينيّة يهوديّة من مقاليد الحكم تمامًا، ومن المرجّح أن يؤدّي الأمر إلى سيناريوهات أكثر سوءًا للفلسطينيّين المُجَنَّسين إسرائيليًّا بعيد النكبة. [في مثل هذا النوع من الخطابات يحصل انتزاع لهذه الفئة من الفلسطينيّين من مُجْمَل شعبها، ضمن عمليّات صناعة الوعي الأقلّياتيّ الّتي تقوم على إنتاج فئة ذات خصوصيّة وهميّة، لتسهيل مهمّة الضبط والتحكّم الكولونياليّين].

يغلب على بعض الإعلاميّين الفلسطينيّين أيضًا، مِنْ موقع الحرص على الاندماج إسرائيليًّا كذلك، تمسّكهم التكراريّ المهووس باتّهام الأحزاب السياسيّة الممثّلة للفلسطينيّين في أراضي 48، وقياداتها، بأنّها لا تعمل على تسييس شارعها، ولا تقوم ‘بواجبها‘ في استغلال الظروف الحاصلة لفرض الصّوت الفلسطينيّ على الطّاولة الإسرائيليّة [هؤلاء الإعلاميّون لا يستخدمون صفة ‘فلسطينيّ‘ ويفضّلون لفظ ‘عربيّ‘، وهذا من الملامح المركزيّة الّتي تميّز وعي الأبرتهايد التابعيّ ومعجم هذا الوعي].

في الحقيقة أنّ القوى الراغبة بالاندماج دون تغيير جوهر النظام، أو التركيز على هذا التغيير على الأقلّ في خطابها وسلوكها، متمثّلةً بـ «الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة» بقيادة أيمن عودة، و«العربيّة للتغيير» بقيادة أحمد الطيبي، و«القائمة العربيّة الموحّدة» بقيادة منصور عبّاس، وطيف من رؤساء السلطات المحلّيّة، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، وقوى من الطبقة الوُسْطى، والوُسْطى العُلْيا، والثريّة [تشمل أكاديميّين ورؤساء طوائف وأصحاب وظائف ومواقع نفوذ في النظام، وتجّار ورؤوس أموال]، حاولت كلّ ما تستطيع لتكون جزءًا من احتجاجات المركز التل أبيبيّ، وبعض وجوه تلك القوى لا ينفكّ يمدح المتظاهرين، ويعتب على قيادات الاحتجاج اليهوديّ، إلّا أنّ كلّ محاولات قوى الاندماج باءت بالفشل، ببساطة لأنّ مجتمع الاحتجاج، في أكثر من مناسبة وبأكثر من صيغة، قال لها: Out!

هذه ليست المرّة الأولى الّتي لا يجد فيها فلسطينيّو أراضي 48 - حتّى هؤلاء الّذين صوّتوا لأحزاب قوى الاندماج والاستيعاب - أنفسهم أصحاب مصلحةٍ في الاحتجاج ضمن الجماعة ذات التعريف العرقيّ- الدينيّ، أي اليهود، الّتي تفرض سيادتها على مُجْمَل جغرافيا خريطة الانتداب البريطانيّ بقوّة السلاح [القدس، أراضي 48، قطاع غزّة، الضفّة الغربيّة]، فقد حصل ذلك سابقًا في ظلّ الاحتجاج الخجول على «قانون القوميّة» (2018)، وأيضًا على غلاء المعيشة المعروف بـ «احتجاج الكوتيج» (2011) بتأثّر من الثورات العربيّة، وكان مركز الاحتجاجين تل أبيب أيضًا، كما هو حاصل الآن، وثمّة احتجاجات أخرى عديدة ينطبق عليها هذا التوصيف.

إنّ كسلًا في المخيال وسؤاليّة السؤال فلسطينيًّا، وجهلًا أو عمًى في ذلك إسرائيليًّا، تدفع تلك الأصوات الحائرة الاتّهاميّة إلى النظر باتّجاه واحد فقط، أي نحو الفلسطينيّين المُجَنَّسين بجنسيّة الاستعمار، فتعفي نفسها من قراءة موادّ الاحتجاج اليهوديّ، من حيث القوى المكوّنة له، والشعارات الّتي يرفعها، والرموز السيميائيّة الّتي يتبنّاها، واللّغة الّتي يتحدّث بها لسانيًّا، والآفاق السياسيّة الممكنة له، وبيوغرافيّات قادة الاحتجاج.

احتجاج عمقه العسكر

إنّ احتجاجًا من مكوّناته ومكامن قوّته المركزيّة الأجهزة العسكريّة والاستخباراتيّة، وشعاراته تدور حول الحفاظ على "دولة اليهود" و"البيت اليهوديّ" من التفكّك، ولا يُسْمَح فيه إلّا برفع العلم الإسرائيليّ [وعلى نحو هامشيّ أيضًا عَلَم المثليّة في تل أبيب المحترفة في توظيف الهويّات الجندريّة لشرعنة نفسها عالميًّا على حساب المقهورين]، ولسانه العبريّة فقط، ذات المخزون الاستعاريّ العسكريّ، ولا يطرح آفاقًا سياسيّة تشمل 14 مليون فلسطينيّ، 8 ملايين منهم يعيشون في جغرافيا الخريطة الانتدابيّة تحت حكم النظام الإسرائيليّ المباشر وغير المباشر، قانونيًّا- اقتصاديًّا- عسكريًّا- ثقافيًّا- خدماتيًّا، أي تحت حكم هؤلاء المحتجّين اليهود على "الانقلاب القضائيّ"، وتقف على رأسه شخصيّات ذات تاريخ طافح بالعنصريّة والتحريض على الفلسطينيّين ووجودهم في وطنهم... إنّ احتجاجًا هذه موادّه ومكوّناته، هو احتجاج غير ديمقراطيّ على دكتاتوريّة كان تُمارَس سابقًا ضدّ الفلسطينيّين فقط، لكنّها تشدّدت اليوم أكثر لتُمارَس ضدّ إسرائيليّين أيضًا، خدمةً لمصالح زعامات صهيونيّة عينيّة ومعسكراتها، من نوع بنيامين نتنياهو وأرييه درعي، حيث الدولة تغدو رَهْنَ رغبات الزعيم الفرد ومصالحه.

والأصحّ عدم استخدام الجماعة الفلسطينيّة للثنائيّة الاصطلاحيّة "ديمقراطيّة/ دكتاتوريّة" في قراءة وتوصيف الحالة الّتي أمامنا، لأنّ هذه الجماعة من حيث الموقع، هِيَ خارجة ومُخْرَجَة من عمق بنية النظام الإسرائيليّ، مُمَوْضَعَة في قشرته التمثيليّة والاستهلاكيّة والخدماتيّة. الاستعمار ليس دكتاتوريّة ولا ديمقراطيّة من وجهة نظر المستعمَر، هو سلطة عنيفة تقوم في جوهرها على الإخضاع والإقصاء والاستغلال، وبالتالي فإنّ كلّ ما يجري في فلك الاستعمار لا يمكن أن يكون ديمقراطيًّا، وإن أدار عمليّات انتخابيّة إجرائيّة، ووصف ذلك بأنّه "ديمقراطيّة"، فذلك لخدمة مصالح قواه ومكوّناته. لا أرتاح أيضًا مع القول "ديمقراطيّة داخليّة" أو "ديمقراطيّة لليهود فقط"، حتّى في سبيل اتّهام إسرائيل ونقدها، لأنّ هذا الفصل الافتراضيّ التخيّليّ لا يعبّر عن بنية النظام؛ إذ لا وجود "للداخل الإسرائيليّ" من دون الفلسطينيّين الّذين يستعمرهم هذا الداخل، ولا مِنْ دون اليهود الّذين يُشَكَّلون ويُسْتَخْدَمون مادّةً للاستعمار، منزوعي الوكالة والإرادة بخطابات التخويف الوجوديّ.

إن كانت "الديمقراطيّة السياسيّة هي أن يتمتّع كلّ مواطن، مهما كان دينه أو مذهبه أو عرقه أو جنسه، بحقّ الإسهام في الشأن العامّ"، فإنّ هذا لا ينطبق على إسرائيل طالما هي عرقيّة- دينيّة أبرتهايديّة، وإن كانت "الديمقراطيّة الاجتماعيّة هي أن يتمتّع كلّ مواطن، مهما كان دينه أو مذهبه أو عرقه أو جنسه، بحقّ الاستفادة من الخيرات العامّة"، فإنّ هذا لا ينطبق أيضًا على إسرائيل الّتي تحصر موارد وخيرات فلسطين في الجماعة اليهوديّة، وإن منحت الفلسطينيّ شيئًا من خيرات بلاده، فهي تمنحه فتات الفتات وفق موازناتها السنويّة العامّة، وبالتالي فإنّه لا ديمقراطيّة في إسرائيل ليكون هناك تهديد لها من ديكتاتوريّة ما، أو إمكانيّة للدفاع عنها.

يبدو غريبًا اضطرارنا إلى توضيح ما يُفْتَرَض أن يكون واضحًا، لكنّ هذا التوضيح مردّه أنّ المتن الفلسطينيّ بات مليئًا بالتشوّهات والشواش المفاهيميّ والأخلاقيّ. لقد لخّص الراحل إميل حبيبي هذا النوع من المتون بـ "التشاؤليّة"؛ ففي الصبح النفس ناصريّة، وفي العشيّة ميرتسيّة!

ديمقراطيّة النضال الفلسطينيّ

لم يتوقّف الفلسطينيّون يومًا، في مختلف أماكن وجودهم، عن ممارسة أفعال الاحتجاج والنضال والمقاومة ضدّ الكولونياليّة الصهيونيّة، بخصائصها العُنْفِيَّة والتسلّطيّة، حمايةً لبقائهم في وطنهم، وتنجيعًا لهذا البقاء وتمكينًا له، بل إنّهم قدّموا دومًا رؤى وبرامج سياسيّة ديمقراطيّة الأسس لا تختزل الأمر بأنفسهم، وإنّما تشمل الجماعة اليهوديّة كذلك، من أجل التوصّل إلى تسوية تاريخيّة معها وإنهاء الحالة الكولونياليّة المتشكّلة منذ بدايات القرن العشرين، وهذا مَلمَح غير شائع قياسًا على تجارب تحرّريّة مِنَ الكولونياليّات حول العالم؛ أي أن تنهمك الجماعة المُسْتَعْمَرَة بمصير الجماعة المستعمِرَة إلى هذا الحدّ.

إنّ رؤى «الدولة الواحدة»، و«الدّولتان لشعبين»، و«دولة المواطنة»، حتّى تلك الرؤية الّتي طرحتها حركة «حَماس» في «وثيقة المبادئ والسياسات العامّة» (2017) [وإن اختلفنا مع بعض هذه الرؤى لما تسبّبته من خسارات]، جميعها يشترك في أنّها تأخذ بالحسبان الجماعة اليهوديّة، دون المناداة بتطهيرها عرقيًّا وسلب حقوقها المدنيّة مثلًا، وذلك في حال انتصر الفلسطينيّون على النظام الصهيونيّ وتحرّروا من بنيته الكولونياليّة، بل ثمّة تأكيد فلسطينيّ مستمرّ على أنّ الصراع هو مع الصهيونيّة، لا مع اليهود واليهوديّة.

مِنْ هذه الناحية، فإنّ النضال الفلسطينيّ، حتّى في أساليبه العُنْفِيَّة، محكوم برؤى ديمقراطيّة مَنصوصَة لا شفويّة فقط، أكثر بكثير من احتجاجات اليهود على نظامهم وخطاب هذا الاحتجاج، منصوصِهِ ومنطوقِهِ، حيث تحكمه قيم ومقولات وتصوّرات كولونياليّة أوضحتُ بعضها سابقًا، تُخْرِجُ الفلسطينيّ تمامًا من أيّ تفكير أو حساب، بما يتوافق مع وعي المحو، وفعل هذا الوعي، الّذي يُعَدُّ ركيزةً في تشكيل الجماعة اليهوديّة بصيغتها الإسرائيليّة الكولونياليّة.

أمّا ماذا نفعل، نحن الفلسطينيّين وأنصارهم الديمقراطيّين، من يهود وغير يهود، في ظلّ الحالة الّتي تعيشها إسرائيل، فهذا مبحث مفتوح...

التعليقات