26/10/2023 - 09:03

الإخفاق الكبير وبداية الأزمات الداخلية في إسرائيل

الجميع يتحدث فقط عن الحاجة إلى استعمال أقصى درجات العنف دون أي رادع أو قيود، أي تبني الحل الأمني بأقصى حدود، على الرغم من أن هذه الحلول فشلت على مدار الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وكذلك في تجارب شعوب أخرى.

الإخفاق الكبير وبداية الأزمات الداخلية في إسرائيل

(Getty Images)

الإخفاق الكبير والصدمة. هذا هو الاستنتاج الأبرز في كل وسائل الإعلام والتقديرات الإسرائيلية، بعد هجوم حماس المفاجئ، صباح يوم السبت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، على بلدات وقواعد الجيش على حدود غزة وبداية معركة "طوفان الأقصى".

ما حدث لم يكن له أي مثيل في تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وفتّت العقيدة العسكرية الإسرائيلية، القائمة على الردع، والإنذار المبكر، ونقل المعركة إلى أرض "العدو" والحسم السريع.

كما يوضح هجوم حماس فشل العقيدة السياسية الإسرائيلية تجاه تقسيم الشعب الفلسطيني، وإضعاف السلطة الفلسطينية، والادعاء بأن الحفاظ على الانقسام ودولة حماس في غزة، مفيد لإسرائيل، وبأن لدى إسرائيل الحرية بالقيام بما تريد في الضفة الغربية، وتوسيع الاستيطان وفرض الأمر الواقع بضم غير رسمي لمناطق "ج" واستمرار التنكيل والقتل بدون رادع.

الحرب في سياق التصدع السياسي

تأتي هذه الحرب في سياق مختلف لم تشهد مثيله إسرائيل من قبل، خاصة في جانب التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي، والخلافات الحادة بين المؤسسة العسكرية والحكومة، وانخفاض كبير في ثقة الشارع الإسرائيلي بالحكومة ورئيسها، بل إن المؤسسة العسكرية والأمنية حذرت رئيس الحكومة مرارا من تداعيات التصدع السياسي على جهوزية الجيش لأي حرب قادمة، وعبّرت عن قلق حيال ظاهرة رفض التطوع في قوات الاحتياط، وادعت أنها باتت تمس بالعصب الأساسي لقدرات الجيش والتدريبات. هذا التصدع سيؤثر على إدارة الحرب الحالية وإسقاطاتها السياسية والاقتصادية.

تاريخيا، للإخفاقات أو النجاحات العسكرية إسقاطات بالغة على المشهد السياسي في إسرائيل. هكذا تحوّلت القيادة الأمنية والعسكرية إلى نجوم سياسية بعد حرب الـ67، مقابل بداية نهاية حكم حزب العمل بعد إخفاق إسرائيل في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، وهكذا شكل الفشل العسكري في حرب لبنان الثانية عام 2006 بداية النهاية السياسية لرئيس الوزراء السابق، إيهود أولمرت.

نتنياهو يعي ذلك تماما ويتابع الاتهامات الموجه له شخصيا بعد إخفاق الجيش في الجنوب، فبعد صدمة هجوم حماس، لم تتأخر الاتهامات الواضحة والمباشرة لتحميل نتنياهو شخصيا وحكومته مسؤولية الإخفاق الكبير، وربط ذلك مع نتائج الخطة الحكومية لتقييد القضاء على المجتمع والجيش.

أهداف الحرب الضبابية

منذ بداية الحرب، أعلنت القيادات السياسية والعسكرية والإعلام في إسرائيل، أن الحرب على غزة هي "حرب وجودية" وأنها "حرب على البيت"، وأنها لن تقبل أن تنتهي الحرب دون القضاء على حركة حماس. إعلان هذه الأهداف ووصف الحرب بأنها وجودية، بالإضافة إلى رغبة الانتقام وترميم ثقة المجتمع الإسرائيلي بالنفس وبالجيش، يشكلوا معا تبريرا إسرائيليا للهجوم على غزة وأهلها، والإشهار بإلغاء أي حواجز أو ضوابط لقوات الجيش.

إسرائيل تعي أن القضاء على حماس في غزة ليس بالأمر السهل وإخراجه كفاعل سياسي وعسكري من الشعب الفلسطيني يعني تدمير قطاع غزة. لذلك كانت أهداف الحرب الرسمية التي وضعتها الحكومة المصغرة أكثر ضبابية وأقل حدة، وحددتها بـ"تدمير قدرات حماس العسكرية والإدارية".

إدارة الحرب وتحقيق أهدافها السياسية يحتاج، إسرائيليا، إلى ترتيب البيت الداخلي، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، والتعامل مع الجبهة الداخلية، وإلى دعم دبلوماسي واسع، خاصة دعم أميركي.

ترتيب البيت الداخلي سياسيا

كجزء من محاولات نتنياهو امتصاص الغضب الشعبي والانتقادات الحادة، وضبط انهيار التماسك في المجتمع، ومحاولة رفع معنويات جماعية، وتحضيرا للمرحلة العسكرية القادمة، توجه نتنياهو إلى توسيع الحكومة وإقامة حكومة طوارئ وطنية، بالشراكة مع حزب "المعسكر الرسمي" بزعامة بيني غانتس، وزير الأمن الأسبق ورئيس الأركان السابق، وغادي آيزنكوت قائد الأركان السابق وصاحب عقيدة الضاحية. هذا لا يلغي الأهداف الضيقة لنتنياهو من تشكيل حكومة الطوارئ، منها منع انهيار الحكومة، وحاجته إلى رجال عسكر إلى جانبه في اتخاذ القرارات العسكرية، وشرعنة هذه القرارات والخطوات القادمة في الحرب، خاصة أن مواقف غانتس وآيزنكوت الأمنية لا تختلف عن مواقف الإجماع الأمني الإسرائيلي.

دعم غربي غير محدود

في الجانب الدبلوماسي، لم يكن حاجة في هذه الحرب لكي تعمل إسرائيل على تجنيد دعم دولي، خاصة من الولايات المتحدة ورئيسها، وأصدقائها في أوروبا. كلهم تجندوا مباشرة وطوعا لدعم إسرائيل وتبنوا روايتها وموقفها. الإدارة الأميركية تجندت فورا للوقوف إلى جانب إسرائيل وأعلنت دعمها اللا محدود، دبلوماسيا وعسكريا واقتصاديا. هذا الدعم لا يعكس موقفا سياسيا فقط، بل يشي بوجود قلق أميركي من وضع إسرائيل العسكري ومن حجم الضرر. في هذا السياق نضع قرار الولايات المتحدة إرسال أكبر وأحدث حاملة طائرات إلى السواحل الإسرائيلية، وفتح جسر جوي لنقل السلاح، على الرغم من أننا ما زلنا في الأيام الأولى للحرب ولا نقص في العتاد والسلاح في إسرائيل. هذه القرارات تعكس دعما أميركيا سياسيا وعسكريا غير مشروط، وشراكة حقيقية في إدارة الحرب، لكنها قد تكون أيضا مؤشر قلق أميركي على أمن إسرائيل، ويعبّر عن حجم الإخفاق الإسرائيلي، بحيث لم يعد الردع الإسرائيلي كافيا لمنع أي تطور أمني في جبهات أخرى، وكذلك لا يكفي الردع الكلامي للولايات المتحدة، بل هناك حاجة بتعزيزه بخطوات عملية.

بدايات الأزمات الداخلية

تاريخيا، تتوحد القبيلة الإسرائيلية أوقات الأزمات والحروب، إلا أن هذه الوحدة تبدأ بالتآكل والتصدع مع مرور الوقت وتزايد الخسائر، البشرية والمادية والمالية، وخاصة في حال التعثر في تحقيق إنجازات عسكرية، إلا أنه في الحرب الحالية بدأت الانتقادات والأزمات تعلو بعد فترة قصيرة نسبيا من بداية الحرب، ناهيك عن اتهام مباشر يوم هجوم حماس بالمسؤولية عن الإخفاق الكبير.

مع دخول الحرب على غزة أسبوعها الثالث بدأت تتكشف بوادر خلافات وتصدعات في إدارة الحرب، وداخل الحكومة. الأبرز هي الخلافات بين المستوى العسكري ورئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، حول إدارة الحرب والخطوات الميدانية، منها البدء بالحرب البرية والتعامل مع الجبهة الشمالية. ونرى حالة عدم ثقة لدى قطاع الأعمال بإدارة الحكومة للملف الاقتصادي، وامتعاض لدى النازحين من منطقة الجنوب بسبب تردي الظروف المعيشية وأداء الوزارات.

بدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث بشكل واضح بداية الأسبوع الثالث من الحرب، عن وجود خلافات جدية في عملية صناعة القرار العسكري في إسرائيل. بدأ ذلك بمعلومات حول خلاف بين نتنياهو ووزير الأمن حول اقتراح وزير الأمن وقيادة الجيش بتوجيه ضربة استباقية في جبهة الشمال، أي توجيه ضربة لحزب الله، قبل البدء في المعركة البرية في غزة، لمنعه من المبادرة إلى عمل عسكري في حال بدأت المعركة البرية. بعد ذلك بدأت ترشح معلومات عن خلافات أوسع حول إدارة المعركة ومحاولات نتنياهو لتأخير الحملة البرية، ولو كان ذلك بسبب طلب الإدارة الأميركية بغية محاولة التوصل إلى صفقة ما بموضوع الأسرى، أو بسبب حاجة الولايات المتحدة ترتيب أوراقها العسكرية في المنطقة. ومن ثم وضّح الإعلام وجود أزمة ثقة بين نتنياهو والقيادات العسكرية، وهي التي تعيق بدء المعركة البرية.

الأزمات لا تقتصر على عدم ثقة نتنياهو بقيادات الجيش ووزير الأمن، بل هناك بوادر لخلافات سياسية داخل حكومة نتنياهو، بحيث بدء عدد من وزراء حزب الليكود باستشعار النتائج السياسية للإخفاق العسكري الكبير على حكومة نتنياهو وحزب الليكود، ويشاهدوا الثقوب في سفينة هذه الحكومة، لذلك يبادروا إلى فك الارتباط بين مصيرهم السياسي ومصير نتنياهو، الذي حُسم على ما يبدو، فقد نشر موقع "واينت"، يوم الإثنين، أن هناك ثلاثة وزراء على الأقل، يدرسوا مسألة مواصلة مسارهم في الحكومة وإمكانية الاستقالة من الحكومة، مما يشير إلى هشاشة الوضع السياسي الحالي وتراجع مكانة نتنياهو، خاصة على ضوء تحميله المسؤولية الكاملة للإخفاق الكبير، يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

من المتوقع أن تتسع التصدعات والخلافات السياسية داخل المؤسسة السياسية والعسكرية مع استمرار الحرب، وربما توسعها، ليس فقط بسبب الإخفاق الكبير، والإدارة العسكرية، لكن أيضا نتيجة تخبط الحكومة في إدارة الملفات المدنية، منها الملف الاقتصادي، وملف التعامل مع الجبهة الداخلية، والأعداد الكبيرة من النازحين.

نتنياهو في مأزق أمني وعسكري وسياسي واضح، ومعه الحكومة الإسرائيلية، فبعد الأسابيع الأولى للحرب والمساحة التي منحت للحكومة للتعامل مع الأزمة وإدارتها، بدأت أصوات النقد تتعالى في الأيام الأخيرة، وتتكشف أزمة ثقة بين المؤسسة السياسية والعسكرية، وبين قطاع الأعمال والحكومة، وبين النازحين والوزارات المعنية. ومع إطالة مدة الحرب وإمكانية توسعها، وازدياد الخسائر المادية والبشرية ستزداد هذه الأزمات وتتعمق، وسيكون عنوانها واضح، وهو نتنياهو وحكومته.

على الرغم من الإخفاق العسكري الكبير والصدمة، وعلى غرار حالات سابقة، تبتعد إسرائيل عن طرح الأسئلة الصعبة الحقيقية التي ساهمت في الوصول إلى هذا الحال، أهمها سؤال الاحتلال وسؤال حصار غزة، وإستراتيجية إسرائيل لإضعاف السلطة الفلسطينية، والحفاظ على سلطة حماس في غزة. ناهيك عن الوهم الكبير بأن الجوانب الاقتصادية وتحسين طفيف لحياة الناس اليومية يمكن أن يكون بديلا عن المطالب القومية، أي عقيدة السلام الاقتصادي أو الهدوء الاقتصادي بحالة غزة، الذي يمكن أن يستبدل الحاجة لحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية.

في الأجواء الحالية في إسرائيل لم يطرح أحد هذه الأسئلة، لا الإعلام ولا محللين ولا سياسيين، والجميع يتحدث فقط عن الحاجة إلى استعمال أقصى درجات العنف دون أي رادع أو قيود، أي تبني الحل الأمني بأقصى حدود، على الرغم من أن هذه الحلول فشلت على مدار الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وكذلك في تجارب شعوب أخرى.

التعليقات