24/12/2023 - 17:21

الطلّاب الفلسطينيّون في الجامعات الإسرائيليّة بين الدمج والسيطرة

منذ سنوات الحكم العسكريّ، والسنوات الّتي تلتها، صارت مراقبة الطلّاب في الجامعات أمرًا روتينيًّا، حيث شارك الكثيرون بمن فيهم جزء من الطلّاب اليهود في الأشكال المختلفة من النشاطات الرقابيّة...

الطلّاب الفلسطينيّون في الجامعات الإسرائيليّة بين الدمج والسيطرة

من اقتحام مساكن الطلاب العرب في نتانيا في أكتوبر 2023 (تويتر)

منذ بداية العدوان على غزّة، قام مجلس التعليم العالي في إسرائيل بتأجيل موعد افتتاح السنة الدراسيّة في الجامعات والكلّيّات للمرّة الثالثة على التوالي. بحسب التصريحات الرسميّة، فإنّ هذا التأجيل المستمرّ في افتتاح السنة الدراسيّة، يأتي استجابة للواقع الأمنيّ المركّب في إسرائيل في ظلّ العدوان الإسرائيليّ على غزّة، إضافة إلى العدد الكبير من الطلّاب المجنّدين في جيش الاحتياط والدفاع المدنيّ الإسرائيليّ، دون وجود أيّ موعد مرتقب لتسريحهم مع استمرار العدوان والتعنّت الدوليّ لمواصلة الحرب.

إضافة إلى ذلك، ثمّة تخوّف لدى رؤساء الجامعات والكلّيّات والأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة من تحوّل الجامعات إلى ساحة صراع سياسيّ بين الطلّاب اليهود الإسرائيليّين والطلّاب والمحاضرين الفلسطينيّين الّذين يحملون المواطنة الإسرائيليّة. تتكثّف هذه التخوّفات في ظلّ الهجمة الشرسة والمستمرّة الّتي تشنّها الجامعات الإسرائيليّة، بالشراكة مع جمعيّات مجتمع مدنيّ يمينيّة وبمشاركة الطلّاب اليهود على الطلّاب الفلسطينيّين من أجل قمع وتجريم أيّ تمظهر للهويّة الفلسطينيّة لدى الطلّاب لو من خلال منشور على شبكات التواصل، أو معارضة الرواية الرسميّة من خلال المطالبة بوقف العدوان على غزّة.

لطالما شكّلت الإنتلجنسيا أو الطبقة المثقّفة في أوساط فلسطينيّي الداخل عائقًا أمام المشروع الصهيونيّ، حتّى إنّها رأت في تشكّلها وتناميها المستمرّ خطرًا وجوديًّا، يهدّد استقرار منظومات الرقابة والسيطرة الّتي تفرضها الدولة والمجتمع الإسرائيليّ على الفلسطينيّين أو "الأقلّيّة غير اليهوديّة" كما يسمّونها.

"ثمّة تعليم عال في أيّامنا هذه، وثمّة إنتلجنسيا تظهر (في المجتمع الفلسطينيّ) ويمكن أن تتعاون مع الدولة، لكنّها تصبح انتلجنسيا بروليتاريّة شديدة الخطورة على الدولة، وإذا ظلّت هذه المشكلة من دون حلّ، فسوف تصبح قوّة رئيسيّة من قوى العصيان والانفصاليّة… لا بدّ لحلّ لهذه المشكلة". (1)

منذ سنوات الحكم العسكريّ، والسنوات الّتي تلتها، صارت مراقبة الطلّاب في الجامعات أمرًا روتينيًّا، حيث شارك الكثيرون بمن فيهم جزء من الطلّاب اليهود في الأشكال المختلفة من النشاطات الرقابيّة. وأدّى تعاون الجامعات نفسها إلى جعل هذه الرقابة أمرًا ممكنًا، لكنّه أدّى أيضًا إلى جعلها أقلّ ظهورًا ممّا هي عليه في المدارس وكلّيّات إعداد المعلّمين، مع أنّها لا تقلّ قمعًا عنها.

استمرّ اقتناع القيادة الصهيونيّة بأهمّيّة الدور الّتي تقوم به الإنتلجنسيا والمثقّفين والكتّاب العرب في نشوء الوطنيّة الفلسطينيّة إلى يومنا هذا، وحاولت على مدار السنوات، نقل تجربة الرقابة الشاملة في الجامعات وتطبيقها في مؤسّسات التربية والتعليم من خلال إعطاء المعلّمين العرب واليهود دورًا مهمًّا في الرقابة والضبط، بالإضافة إلى فرض المضامين الّتي تنقل من خلال التعليم، كلّ ذلك لمحاربة الروح الوطنيّة الفلسطينيّة واستبدالها بأخرى إسرائيليّة.

مساعي الدمج والفصل:

شهد العقد الماضي زيادة غير مسبوقة في عدد الطلّاب الفلسطينيّين من حملة الجنسيّة الإسرائيليّة في الجامعات الإسرائيليّة، ترافق هذا الازدياد الملحوظ في افتتاح وحدات في الجامعات الإسرائيليّة تعنى في دمج الطلّاب العرب، ومساعدتهم على التجسير على الفجوات في مستوى التعليم الثانويّ مقابل نظيرهم الطالب اليهوديّ، كما تساهم في تأقلمها في البيئة الجامعيّة وتخطّي حاجز اللغة.

أقيمت هذه الوحدات تلبية لتوصيات اللجان الوزاريّة المتعاقبة الّتي شدّدت على ضرورة دمج الشباب من المجتمع الفلسطينيّ في الداخل في الأكاديميّة الإسرائيليّة، كوسيلة للاندماج في سوق العمل في وظائف ذات جودة تساهم في استمرار النموّ الاقتصاديّ الإسرائيليّ، إضافة إلى ذلك أشارت التقارير إلى ضرورة تخصيص موارد حكوميّة لسدّ الفجوة العميقة في مستوى التعليم العربيّ، إذ تشير التقارير العالميّة أنّه الأسوأ على مستوى الشرق الأوسط.

تعمل وحدات دمج الطلّاب العرب في الجامعات على مرافقة الطلّاب في ثلاث مراحل أساسيّة، الأولى في الاندماج في الحيّز الجامعيّ من خلال اكتساب أدوات البحث العلميّ والتعرّف على الخدمات الّتي تقدّمها الكلّيّات، أمّا المرحلة الثانية تعني في دمج الطلّاب في البرامج الأكاديميّة المتعدّدة لاكتساب الأدوات اللازمة من أجل الاندماج في سوق العمل، أمّا المرحلة الثالثة والأخيرة ترافق الطلّاب في الاندماج في الشركات الكبرى في البلاد.

لا تتخلّل هذه البرامج في أيّ مرحلة من مراحلها أي تتطرّق إلى هويّة الطالب الفلسطينيّ بصفتها هويّة قوميّة وطنيّة، والتعامل معه فقط بناء على أنّه "الآخر" أو "الأجنبيّ"، الّذي يأتي من مجتمع ضعيف ثمّة حاجة إلى مساعدته على التكيّف مع البيئة الجديدة. كما أنّه لا يوجد أيّ عنصر في برنامج التوجيه يشجّع الطلّاب على الحفاظ على ارتباطهم الاجتماعيّ الوطنيّ بالمجتمع الّذي أتوا منه، أو تشجيع على تطوير التفكير النقديّ والتحليليّ لدى الطلّاب لفهم منظومات الهيمنة الّتي تحكم الواقع الفلسطينيّ داخل الجامعة وخارجها. (2)

أيّار 2020 - الصدّام المباشر

شكل الشباب الفلسطينيّ في الداخل ممن هم في الجامعات ومن هم مقبلون عليها، المحرّك الرئيسيّ للاحتجاجات الّتي بدأت من "المدن المختلطة" التاريخيّة الفلسطينيّة، وعمّت البلاد خلال أسابيع، الّتي خرجت للتنديد بسياسات الاحتلال في القدس الشرقيّة، وانفلات إرهاب المستوطنين على جانبي الخطّ الأخضر.

لم يقتصر دور الشباب في الخروج للشارع فقط، فقد ساهم أيضًا في صياغة الخطاب العامّ، ونقل الرواية الفلسطينيّة لمن هم في الداخل والخارج على حدّ سواء من خلال صناعة المحتوى الداعم للقضيّة على شبكات التواصل الاجتماعيّ. وعلى الرغم من انعدام تنظيم مركزيّ استطاع الشباب الفلسطينيّ القفز فوق حاجز الخطاب الإعلاميّ المركزيّ الداعم لسياسات إسرائيل والمتستّر على جرائمها، ليخاطب الشارع مباشرة من خلال إتقان تقنيّات العمل على الشبكات والتلاعب على الخوارزميّات الّتي تحارب المحتوى الداعم للقضيّة، وفهم طرق التأثير في الرأي العامّ العالميّ بخطاب مبتكر يرتكز على الحقائق التاريخيّة.

لعب طلّاب الجامعات والمثقّفين الفلسطينيّين دورًا مهمًّا في صياغة المفاهيم الّتي تحكم الواقع الفلسطينيّ، وتعميمها، من خلال عمليّة تثقيف جماهيريّة عن طريق التوثيق للهبة في وسائل المكتوبة والرقميّة. ساهمت هذه العمليّة في تبنّي الشارع للمصطلحات الّتي صيغت على يد الإنتلجنسيا الفلسطينيّة، وربّما يكون أهمّها تبنّي التسمية "هبة الكرامة" في الإشارة إلى محصّل.

إن تكبّد إسرائيل خسائر كبيرة على مستوى الرأي العامّ خلال هبة الكرامة والعدوان الّذي تلاها على غزّة، هو ما دفعها بعد ذلك بأن تخرج بخطّة انتقاميّة تستهدف الشباب الفلسطينيّ المثقّف خاصّة. على مستوى الداخل أقرّت الشرطة الإسرائيليّة خطّة "قانون ونظام" الّتي بموجبها تمّ اعتقال أكثر من 2500 شابّ فلسطينيّ شاركوا في الهبة من خلال منشورات على الشبكة أو الخروج إلى الشارع، معظم هذه الاعتقالات انتهت دون محاكمة، أمّا الجزء الآخر يخضع لأحكام قاسية تبرز البعد الانتقاميّ للعمليّة الشرطيّة الّتي هدفت إلى إنزال عقاب جماعيّ على الشباب الفلسطينيّ في محاولة بائسة لاسترداد قوّة الردع. أمّا على صعيد الضفّة الغربيّة فمنذ الهبة وحتّى هذه الأيّام نشهد استعمالًا واسعًا للاعتقالات الإداريّة؛ إذ وصل عدد المعتقلين الإداريّين إلى عدد قياسيّ في تاريخ الصراع أغلبهم من الشباب، إضافة إلى انتهاك حرمة الجامعات الفلسطينيّة في الضفّة لتنفيذ اعتقالات في حقّ القيادات الطلّابيّة.

على الرغم من مساعي الدمج شكّلت هبة الكرامة وما تلاها من أحداث لحظة اشتباك لجيل كامل ولد مع بدء مفاوضات "سيرورة السلام"، وكبر على تعثّرها المستمرّ، وشهد ارتطامها على أرضيّة الأمر الواقع الّذي تشكّله إسرائيل لخدمة المشروع الاستيطانيّ، والقضاء على أيّ حلّ ممكن للصراع. تحوّلت هذه اللحظة فيما بعد إلى لحظة فارقة في تشكيل الوعي الجمعيّ للشباب الفلسطينيّ، خصوصًا لهؤلاء الشاهدين على عمليّة تشكيل الوعي الاستيطانيّ في الجامعات والمجتمع الإسرائيليّ.

القوّة الفائقة

مع بدء العدوان على غزّة الّذي بات يأخذ شكل حرب إبادة انتقاميّة منذ الأسبوع الأوّل، بعد أحداث السابع من أكتوبر قامت إسرائيل في استحداث آليّات الرقابة والسيطرة الّتي تشكّلت وتمّ بناؤها على أساس أيديولوجيّ على يد مؤسّسي الحركة الصهيونيّة في سنوات الحكم العسكريّ. وفق هذه السياسة، فإنّ الإنتلجنسيا الفلسطينيّة، وخصوصًا الشباب الجامعيّين منها يشكّلون خطرًا أمنيًّا استراتيجيًّا، يستوجب تفعيل منظومات الرقابة الشاملة.

إنّ الصدمة الإسرائيليّة الّتي ولدتها أحداث السابع من أكتوبر، دفعت الكثير من المؤسّسات الإسرائيليّة أن تأخذ دورًا في عمليّة الرقابة بشكل تطوّعيّ، في محاولة منها لاستعادة الكرامة الوطنيّة والمساهمة في العمليّة العسكريّة عن طريق كشف "العملاء من الداخل". كانت الجامعات والكلّيّات الإسرائيليّة أوّل من انضمّ إلى هذه المؤسّسات ضاربة بعرض الحائط مبادئ الحرّيّة الأكاديميّة والتفكير النقديّ وحرّيّة الرأي.

تشير المعطيات إلى أنّه في كثير من الحالات عملت الجامعات على نقل العديد من الشكاوى المقدّمة ضدّ الطلّاب العرب لمعالجة الشرطة؛ ممّا أدّى إلى اعتقال بعض الطلّاب في كثير من الحالات. يضاف هذا إلى أنّ جزءًا من الجامعات والكلّيّات قامت برعاية حملات طلّابيّة من قبل رابطة الطلّاب أو جمعيّات يمينيّة تنادي في تقديم الشكاوى ضدّ الطلّاب العرب ومراقبة زملاء الدراسة الفلسطينيّين على شبكات التواصل الاجتماعيّ وصل حدّ المكارثيّة المهووسة في كثير من الحالات.

في المقابل قامت الشرطة الإسرائيليّة تحت قيادة الوزير العنصريّ إيتمار بن غفير ومفوّض الشرطة شبتاي، في البدء في حملة ملاحقة شرسة طالت كلّ شابّ أو شابّة فلسطينيّة عبّر عن تضامنه مع القضيّة الفلسطينيّة أو غضبه من الحرب الانتقاميّة الّتي تستهدف المدنيّين كسياسيّة رسميّة. ما زالت هذه الحملة مستمرّة، تدفعها رغبة الدفينة في الانتقام، وتحريض مستمرّ على المجتمع العربيّ لتحقيق مكاسب سياسيّة، وتلميع صورة الشرطة أمام المجتمع الإسرائيليّ.

مع بدء السنة الجامعيّة في الأسبوع المقبل في ظلّ استمرار العدوان الشرس، لا بدّ من التفكير في آليّات عمل من شأنها أنّ توفّر الحماية اللازمة للطلّاب الفلسطينيّين في الجامعات الإسرائيليّة، وتضمن لهم استمرارهم في القيام في دورهم الأكاديميّ، وتطوير فكر نقديّ يدفع للاشتباك مع قضايا المجتمع. جميع المؤسّرات تشير إلى احتماليّة ازدياد وتيرة وشراسة الملاحقة مع عودة الطلّاب إلى الصفوف، إضافة إلى الأجواء المشحونة الّتي ستسود الجامعة الناجمة عن اللقاء المباشر بعد فترة طويلة من القطيعة في ظلّ الحرب.

هذا الأمر يحتّم علينا البدء في بناء شبكات مترابطة بين الطلّاب والمثقّفين العرب في الداخل تتيح لهم التعلّم عن طريق خلق مساحات بديلة للتفكير وتبادل الآراء، والاستفادة من الخبرات المتعدّدة. تكبر هذه الشبكات في ما بعد لتشكّل شبكة حماية مجتمعيّة ترتبط بشرائح أوسع من المجتمع، وتعيد للشريحة المثقّفة دورها في تشكيل وتصويب الرأي العامّ والخطاب الجماهيريّ، بعدما تمّ الاستيلاء عليه من قبل نجوم الشبكات وصائدي اللايكات على أنواعهم في السنوات الأخيرة.

ستحمل الحرب انعكاسات خطيرة على الفلسطينيّين أجمع، ولكن فيما يتعلّق في المجتمع العربيّ في الداخل، فإنّ استهداف الطبقات المثقّفة من مجتمعنا والطلّاب الجامعيّين، خصوصًا عن طريق الرقابة الشاملة أو الدمج والفصل عن المجتمع، ربّما يكون الأهمّ والأخطر لما يحمله من أبعاد استراتيجيّة على مستقبل المجتمع العربيّ في إسرائيل في ظلّ ضعف الفعل السياسيّ والشعبيّ. إنّ تعزيز الحماية لهذه الشرائح من شأنه أن يضمن استمرار جريان الوعي السياسيّ في المجتمع، في ظلّ المحاولات المستمرّة لصهر الوعي الفلسطينيّ وتشكيلة بما يخدم المشروع الاستعماريّ عن طريق صنع نماذج من أنصاف المثقّفين وإسقاطهم على المجتمع.


إحالات:

(1)- بروتوكولات الهيئة الحكوميّة لمتابعة شؤون العرب 1958، أحمد سعدي، الرقابة الشاملة، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2020.

(2) - برامج المرافقة الأكاديميّة الإسرائيليّة... أيّ طالب فلسطينيّ تريد؟، آلاء حاج يحيى، فسحة، 2020.

* أمل عرابي، محام وناشط حقوق إنسان، حاصل على الماجستير في تخطيط المدن من الجامعة العبريّة، وشهادة في الإدارة العامّة من جامعة ديوك في الولايات المتّحدة.

التعليقات