31/12/2023 - 19:19

مشارف عام جديد: ملفّات لا ينتظرها الحسم

إنّ العام الجديد (2024) لن يختلف عن سابقه إسرائيليًّا. الملفّ الفلسطينيّ لن يحسم، فأهالي غزّة صمدوا طيلة ثلاثة شهور رغم القتل الجماعيّ والعشوائيّ، ولن يغادروا غزّة رغم حجم الكارثة؛ وكذلك الملفّ الداخليّ لن يحسم...

مشارف عام جديد: ملفّات لا ينتظرها الحسم

(تصميم: عرب٤٨)

ينتهي العام 2023 في ظلّ كارثة إنسانيّة غير مسبوقة يعيشها الفلسطينيّون في قطاع غزّة المحاصر بفعل الحرب الإسرائيليّة، وكنّا قد كتبنا هنا في ذكرى النكبة في أيّار/ مايو الماضي، أنّ "75 عامًا على تأسيسها: إسرائيل عالقة في ذروة قوّتها"، وأنّ "وهي في ذروة قوّتها، لم تتمكّن إسرائيل من حسم ملفّين مصيرين بالنسبة لها، الأوّل الملفّ الفلسطينيّ، والثاني الملفّ الداخليّ أو التناقض والشرخ الداخليّ".

وقد نشر ذلك الموقف بعد أيّام من جولة عدوانيّة على قطاع غزّة، لم تتمكّن فيها إسرائيل من حسم المواجهة. وكتبنا حينها أنّه "لم تحسم إسرائيل وهي في ذروة قوّتها الملفّ الفلسطينيّ من خلال ’حربها الديمغرافيّة’، ولم تحسمه سياسيًّا؛ وقد خاضت قبل أيّام عدوانًا على غزّة بدا أنّها علّقت فيه لعدّة أيّام، ولم تنجح في حسمه، على الرغم من تفوّها العسكريّ والتقنيّ".

رغم كلّ الدماء الفلسطينيّة الّتي سفكت في قطاع غزّة طيلة ثلاثة شهور، لم تستطع إسرائيل الحسم وتحقيق أيّ مكسب إستراتيجيّ، أي أنّها ما زالت "عالقة في ذروة قوّتها". ولكن خلافًا للمواجهات العسكريّة السابقة مع الفصائل في قطاع غزّة، فإنّها هذه المرّة، تعرّضت لهجوم استباقيّ واسع تسبّب باهتزاز صورتها ومكانتها السياسيّة والعسكريّة والاستخباريّة في المنطقة تحديدًا، ويبدو أنّ كلّ الدمار والدماء الّتي سفكت لن تتمكّن من تقليل أثره، خصوصا أن قيادتها السياسيّة الحاليّة تصرّ على رفض طرح أيّ أفق سياسيّ أمام الفلسطينيّين للخروج من النفق التاريخيّ المظلم الّذي دخلت إليه نتيجة سياساتها، بل ترفض حتّى الاعتراف بوجود قيادة سياسيّة فلسطينيّة تكون عنوانًا لترتيب، ولو مرحليّ ما بعد الحرب، وتصرّ على فصل الضفّة الغربيّة المحتلّة عن قطاع غزّة المحاصر.

أمّا داخليًّا، فحتّى السابع من أكتوبر الماضي، عاش المجتمع الإسرائيليّ انقسامًا سياسيًّا واجتماعيًّا وحركة احتجاجيّة غير مسبوقة في أعقاب خطّة الحكومة لتقويض القضاء. ورغم حالة الوحدة الوطنيّة الحاليّة والإجماع على الحرب في إسرائيل، فإنّها لم تدمل الشروخ الداخليّة الّتي تراكمت طيلة عقود بفعل التحوّلات الفكريّة والسياسيّة والديمغرافيّة، وصعود قوى سياسيّة وشرائح مجتمعيّة جديدة ترى أنّ الوجود اليهوديّ في البلاد يقوم على الاستيطان وتهويد الأرض والتهجير، وعلى "حدّ السيف"، أي الحرب المفتوحة مع العرب والفلسطينيّين.

نتيجة لذلك، لا تجرؤ القيادة السياسيّة في إسرائيل على طرح تصوّر سياسيّ، ولو بالحدود الدنيا أمام الفلسطينيّين، وتختلط الحسابات السياسيّة الشخصيّة والحزبيّة مع الحسابات الإستراتيجيّة، لتبقى إسرائيل "عالقة في ذروة قوّتها"، ولكنّ هذه المرّة بعدما اهتزّت صورتها في المنطقة العربيّة.

لذا، فإنّ العام الجديد (2024) لن يختلف بشكل جوهريّ عن سابقه إسرائيليًّا (مع إدراك أنّ إسرائيل ما بعد السابع من أكتوبر ستختلف عمّا قبله)؛ فالملفّ الفلسطينيّ لن يحسم، فأهالي غزّة صمدوا طيلة ثلاثة شهور رغم القتل الجماعيّ والعشوائيّ، ولن يغادروا غزّة رغم حجم الكارثة؛ وكذلك الملفّ الداخليّ لن يحسم، بل يتوقّع أنّ الخلافات الداخليّة ستتصاعد في أعقاب الحرب والإخفاق العسكريّ والاستخباريّ في السابع من أكتوبر.

بل أكثر من ذلك، فإنّ أكثر من 70 ألفاً من سكّان الشمال، ونحو 150 - 200 ألف من سكّان بلدات الجنوب أو ما يسمّى "غلاف غزّة"، يرفضون العودة إلى منازلهم وبلداتهم دون تغيير "الواقع الأمنيّ" عند الحدود مع جنوبيّ لبنان، أي إبعاد قوّات حزب اللّه إلى شماليّ نهر الليطاني، والقضاء على فصائل المقاومة في قطاع غزّة، الّذي يبدو أنّه هدف يستعصي الجيش الإسرائيليّ على تحقيقه.

أمّا على صعيد الضفّة الغربيّة والقدس، فإنّ إسرائيل استغلّت وستستغلّ الحرب وعمليّة السابع من أكتوبر لتصعيد الاعتداءات والاعتقالات، وعادت إلى الاغتيالات بواسطة الطائرات، المسيرة هذه المرّة، ودمّرت بنى تحتيّة ومنازل في جنين وشماليّ الضفّة الغربيّة.

أمّا بما يخصّ المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل، فإنّ العام المنتهي كان عامًا غير مسبوق لجهة فرض حالة الطوارئ القانونيّة والسياسيّة، والتحريض والملاحقة وقمع أيّ تحرّك سياسيّ، ولو وقفة احتجاجيّة من عدّة أشخاص رفضًا للحرب. وهذا يعني أنّ مكانة المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل، سياسيًّا وقانونيًّا، ستكون عرضة في العام الجديد لمحاولة الزعزعة والترويض والسيطرة والرقابة، وهذا ما يستدعي أوّلًا وقبل أيّ شيء، التمسّك بالموقف الضميريّ الإنسانيّ، برفض القتل والدمار، والإصرار على الحرّيّة في التعبير عن الرأي والمواقف الإنسانيّة والسياسيّة والوطنيّة، فأيّ تنازل في ذلك، يعني تحوّل المواطنين الفلسطينيّين إلى "حاضرين غائبين"، لا همّ مواطنون ولا هم فلسطينيون، بل رعايا وقوى عاملة أو ما سمّي مرّة "حطّابون وسقاة ماء"، والحرّيّة الوحيدة المتاحة لهم هي حرّيّة التنقّل أو السفر، أي حرّيّة الوصول إلى مكان العمل.

إذا كان هدف اليمين الحاكم في العام المنتهي تقويض القضاء وتعزيز "المركّب اليهوديّ" على حساب "المركّب الديمقراطيّ"، فإنّ هدفه بعد الحرب الجارية سيكون تقويض مكانة المواطنين الفلسطينيّين، باعتبارهم "أعداء من الداخل"، للتعويض عن فشله في حسم أيّ من الملفّات، سواء أمام الفلسطينيّين أو داخليًّا. وهذا يتطلّب مستوى آخر من الأداء والخطاب السياسيّ، لا يتنازل أو يقلّل من المواقف السياسيّة الوطنيّة مقابل نيل رضا اليمين الاستيطانيّ كما حصل في العامين الأخيرين (فقد تثبّت فشل هذا النهج، وثبت أنّ السكوت على اقتحامات الأقصى وقانون منع لمّ الشمل، نتيجته الصمت على ما يحصل من مجازر في غزّة)؛ ولا يقلّل من سؤال المواطنة وجوهرها وطابعها الكولونياليّ. فالخطاب الوطنيّ (الهويّة الجماعيّة) والديمقراطيّ (المكانة السياسيّة والمواطنة) هو الأفق لئلّا نتحوّل إلى مقيمين أو قوى عاملة رخيصة، أو حطّابين وسقاة ماء.

التعليقات