الأطباء الفلسطينيون: المهمة الإنسانية والمسؤولية الجماعية

بعيدًا عن عقدة الدونية أمام المستعمر، ما العلاقة بين رفض العنصريّة البنيويّة ضدنا وبين كثرة الأطباء والطبيبات الفلسطينيين؟ هل هذه العنصريّة، مثلا، مبررة ضد الفلّاحين والعمّال؟

الأطباء الفلسطينيون: المهمة الإنسانية والمسؤولية الجماعية

طاقم طبي عربي في حيفا (أ ف ب)

في يوم الخميس الرابع من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر في كلّ سنة، يحتفل الأميركيون بعيد الشّكر (Thanksgiving)، وهو تقليد متجذر في التقاليد الإنجليزية وإجازة وطنية في الولايات المتّحدة، حمدًا للنِعم وشكرًا لحصاد العام الذي قد شارف على الانتهاء، وتعود جذوره إلى بداية الاستعمار البريطاني للعالم الجديد، حين أغاث الأصلانيون من سكان البلاد المهاجرين الجدد ومدّوهم بالغذاء، لمساعدتهم على تخطي المجاعة والمرض اللذين فتكا بهم. ومن طقوس هذا العيد، احتفال يقام في البيت الأبيض يبارك فيه الرئيس الأميركي شعبه. ومن طقوسه أيضًا، تقليد "العفو الرئاسي"، حينما يمنح الرئيس الأميركي العفو لديكٍ روميّ ينضم بعدها لمن سبقه من الديوك المحظوظة بمزرعة في فيرجينيا. تربّى هذه الديوك هناك على كفّوف الراحة، وتدرّب لتتآلف مع الأطفال كما الشخصيات المرموقة والصحافة. غير أنّه في الوقت ذاته، يلقى 50 مليونًا منها، أي الديوك الروميّة الأقل حظًا، حتفها في مطابخ البيت الأبيض، كما في غيرها من المطابخ الأميركية ليملأ الأميركيون بطونهم حتى التخمة، ويزينوا موائدهم في ليلة العيد هذه (1).

وقد يكون هذا من أصدق وأبلغ ما يصف العنصريّة البنيويّة في هذا الوقت والزمان. تقوم المجموعة القامعة بتبني قصص نجاح فرديّة لأبناء "الصفوة" من المجموعة المقموعة لتحتفل وتحتفي بهم. وخلف وميض الكاميرات الذي يعمي العيون وصوت الموسيقى الذي يصمّ الآذان، تواصل المجموعة القامعة قمعها من تهجير للناس ومصادرة للأرض، واستهداف للصحة وسلب للحقوق ونهب للثروات.

أمّا في أيامنا هذه، فبعد انقضاء عيد الشكر في الولايات المتحدة، هبّت رياح من الشرق حاملة فيروس باسم COVID-19، لتكشف عن المشهد ذاته في بلادنا. منذ الأسابيع الأولى، أغدقتنا الصحافة الإسرائيلية بالإطراءات مشيدةً بدور الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات الفلسطينيين (والتي تصرّ الصحافة الإسرائيلية على تسميتهم "عرب إسرائيل")، وتفانيهم في مواجهة هذه الأزمة. وانتشرت الحملات التي تطالب بحقنا في مشاركة الحكم بعد أن تشاركنا المصير في زمن كورونا هذا.

بعد هدم قرية أم الحيران في النقب

هنا، لا بدّ لنا من التأكيد أن العنصريّة هي مشكلة العنصري حصرًا، نظامًا كان أو فردًا، ومن يعينه في ذلك، لا مشكلة الضحيّة. ليس من واجب الضحية أن تثبت شيئًا للعنصريّ حتى يكفّ أذاه عنها. إضافة لذلك، وفي سياق "وحدة المصير" أمام كورونا، صحيحٌ أيضًا أنّ فيروسات كورونا لا تميّز في عدواها الفلسطينيّ عن غيره، غير أنه من السذاجة إيهام أنفسنا بأننا سواسية أمام تهديداتها وأثرها على صحتنا العامّة.

في المقام الأوّل، فإن من أهم الخطوات لاحتواء الوباء وحصر تبعاته، هو تشخيص الأفراد الحاملين للفيروس وعزلهم عن بيئتهم في أسرع وقت. وهذا يتطلب إجراء فحوصات مخبريّة عامّة للكشف عنه، إذ إن الغالبية ممن يحملون الفيروس لا يبدون أيّة عوارض. ويعتبر الكشف الواسع والمبكر في الأسابيع الأولى من انتشار الوباء مصيريًا، لأن الوباء ينتشر في متوالية هندسيّة. بيد أنه لا يخفى على أحد أن الفحوصات التي أجريت في البلدات العربية لا ترقى لأقل المطلوب، بل وهي قليلة جدًا مقارنة بالفحوصات التي أجريت في غيرها من البلدان. وفي هذا قد تكون أهدرت فرصة لا تعوّض لحصر انتشار الوباء. أضف إلى ذلك، فإنّ مناليّة الخدمات الصحيّة العامة والخاصّة بكورونا في البلدات العربيّة سيئة جدًا، ولا تلبي الاحتياجات الأساسيّة مما يفاقم الأزمة ويؤججها.

ثانيًا، إن هذه الجائحة ما زالت في أيامها الأولى، والتقديرات تقول إنّها ستمتد إلى أشهر عديدة قبل أن تمرّ هذه الغمامة الراقدة - حرفيًا - على صدورنا، وإنه لمن المبكّر التنبؤ بآثارها الصحيّة. لن يكون من المفاجئ إن كان نصيبنا من تبعات الجائحة هو الأكبر، إذ إن كل التقارير التي تردنا من بؤر انتشار المرض في العالم، تشير إلى كون الأمراض المزمنة الموجودة عند المصاب قبل انتقال الفيروس إليه، هي أهم عوامل الخطر التي تسبب الوفاة على إثر الإصابة بالفيروس (مثل: السكري، ارتفاع ضغط الدم، الداء الرئوي المسدّ المزمن وغيرها). وقد أصدرت وزارة الصحة الإسرائيلية قبل أسابيع قليلة تقريرًا عن الفروقات الصحية في البلاد. يظهر هذا التقرير بشكل مفزع، أنّ نصيب الفلسطينيين في إسرائيل هو الأكبر من هذه الأمراض جميعها، مما يجعل هذا الفيروس يشكّل تهديدًا أكبر علينا (2). هذه الفروقات ليست وليدة اليوم ولا البارحة، بل هي نتاج سنين عديدة من سياسات الإهمال والتهميش لاحتياجاتنا. وفي ظل هذه الأزمة، علينا أن نذكّر ونتذكر أن هذه السياسات ليست بحدثِ عابر، فالفكر العنصري بنيويّ في كلّ نظام استعماريّ بجميع منظوماته ومؤسساته، من ضمنها المنظومة الصحيّة. وتحجيم العنصريّة التي نشهدها في هذه الأيام "كخطاب مسيء للجمهور العربي"، بدلا من قراءتها كامتداد لبنية استعمارية كاملة قامت بتهجير شعبنا وتعريتنا، حقيقة ومجازًا، من كل ما نملك، هو تغيير للوقائع ورضوخ لخطاب المحتل.

علاوةً على كلّ هذا، فبينما يطالب أطباء أن يكونوا شركاء في نظام الحكم، فإن النظام ذاته لا ينفكّ عن البطش في الناس في القدس ويافا، وهدم البيوت في كفر قاسم، وحرق المحاصيل الزراعية في القرى مسلوبة الاعتراف في النقب، وبناء المستوطنات في الضفة الغربية، ومنع الأدوية والمعدات الطبيّة عن أهل غزّة ومشافيها.

وبعيدًا عن عقدة الدونية أمام المستعمر، ما العلاقة بين رفض العنصريّة البنيويّة ضدنا وبين كثرة الأطباء والطبيبات الفلسطينيين؟ هل هذه العنصريّة، مثلا، مبررة ضد الفلّاحين والعمّال؟ إن المعاملة الخاصة مع الأطباء قد تميط اللثام عن بعد طبقيّ سيء تغذيه عقدة الدونية هذه (للتذكير فقط، مسار القبول لدراسة الطب في البلاد يتطلّب امتيازات طبقيّة معينة، من بيئة داعمة، مدارس على مستوى جيد وعائلة مقتدرة ماليًا).

أطفال في النقب.. إهمال صحي وبيئي ممنهج منذ عقود (أ ف ب)

لقد بزغَ مصطلح المثقفين (intellectuals) في العصر الحديث عام 1898 مع نشر “Manifesto of intellectuals”، حين قام الكاتب الفرنسي، إيميل زولا، بإبراق رسالة مفتوحة إلى الرئيس الفرنسي يعترض فيها على اتهام الضابط بالجيش الفرنسي، ألفريد درايفوس، بالخيانة زورًا وبهتانًا، وتستّر قيادة الجيش على الجاني الحقيقي. وخلافًا لمقالة قدري طوقان الساذجة، فإن قضية درايفوس تصوّر المثقف (intellectual) كَمُحِقٍ للحق، محارب للظلم، مجابه للسلطة دون وجل أو مساومة. لذا، فإن وصف المثقف في معناه هذا لا ينحصر على فئة دون أخرى، ولا يشترط المعرفة الرحبة أو الحيطان المزخرفة بالشهادات، بل بضع خصال في الذات، أهمّها نفسٌ لا تقبل الضّيم. (3)

وممن قد جسّدوا دور المثقف هذا، كان الطبيب الألماني رودولف فيركوف. في أواسط القرن التاسع عشر أصاب الناس من سكان مقاطعة سيليسيا في بروسيا وباء شديد يسمى التيفوئيد. وقد ابتعث فيركوف من برلين إلى المقاطعة الموبوءة ليعالج ما تيسّر له من المرضى. ومن الجدير ذكره أن مقاطعة سيليسيا كانت من المقاطعات الفقيرة في بروسيا، وعانت من شحٍ في الخدمات وبنية تحتيّة سيئة. عاد فيركوف من مهمّته هذه مصدومًا وكتب في ذلك مقالا نشر عام 1848، وفيه وصف ما رآه وتوصّل إليه. وقد قال في وصف الوباء إنه "وباء مصطنع"، ومنه (أي من الوباء) يستدل على عيوب في التنظيم السياسي والاجتماعي في بروسيا.

فيركوف كان مصدومًا من البؤس الذي رآه في سيليسيا، ومن الفروقات في الخدمات والبنى التحتية بين مركز الدولة والأرياف. وأردف قائلا إن انتشار الوباء هذا (أي التيفوئيد) ما كان ليكون ممكنًا إلا في ظروف كهذه من الفقر وانعدام التعليم والثقافة. وقد لخّص ما توصّل إليه بأن "علينا أن نفهم، القضية لم تعد معالجة مريض تلو آخر عن طريق تزويده بالأدوية، الغذاء.... مهمتنا الآن إعادة تثقيف 1.5 مليون إنسان الذين يقبعون، نفسيًا وجسديًا، في الحضيض". وقد لخّص استنتاجاته قائلا "إن الحل لتفادي وباء آخر كهذا هو ببساطة: تعليم، حرية ورفاه". من المهم التأكيد على أن فيركوف لم يقصد في هذا أن السلطة أو الدولة ساهمت بنشر الوباء عمدًا، غير أنّ سياسات السلطة من تهميش للأرياف وإفقار للناس وإهمال لاحتياجاتهم الأساسية، ساهمت في خلق وترسيخ الفروقات هذه، مما شكّل بيئة حاضنة للمرض بصورته الكارثية (4).

يجسّد المقال المذكور دور المثقف في أبهى صورته، "المثقف المشتبك" الذي يرفض أن ينصاع لحدود "مهمته" كما تحددها المنظومة (الطبيّة في الحالة هذه)، والذي يرفض أن يغمض عينيه أمام ظلم فادح. يسأل الأسئلة التي ما أراد لها أن تُسأل، ويفتش عن الأجوبة، حتى وإن وجدت خارج صفحات المجلدات (الطبية) على وسعها.

وبالتطرق إلى فيركوف ودور الطبيب المثقف فإنه لا بدّ أن نسأل أنفسنا، عاملو ودارسو المواضيع الطبيّة، عن ماهيّة الدور الذي علينا أن نؤدّيه كمؤتمنين على صحة مجتمعنا. هل يقتصر دورنا على تأديّة الواجبات "الطبية" الملقاة على أكتافنا في العيادات والمشافي؟ أليس من واجبنا أن ننقب ونبحث عن أسباب الفروقات الصحيّة هذه؟ السياسات التي أدّت إليها وكيف بإمكاننا تغييرها؟ وأن نسأل أنفسنا كيف، ونحن كثرة، آل بنا الحال إلى ما نحن عليه؟ كيف، رغم قوافل الأطباء التي تحط من مطارات العالم سنويًا، لم نتنظم لجسم مستقل يُسلّط الضوء على مشاكلنا ويحارب من أجل قضايانا المهمشة؟ وغيرها من الأسئلة التي لا بدّ لها أن تؤرقنا، وأن تفرض علينا أن نتحرك ضد هذا الواقع.

إن كان لا بدّ لنا أن نتعلم درسًا من دراسة تاريخ الصحة، هو أن الكوارث الطبيعية والطبيّة تعرّي بنى القوّة التي تتحكم بالمجتمع، تكشف عن الفجوات الطبية القائمة وتذكيها. في موجات الأعاصير والحرائق التي ضربت أميركا، كان للسود والفقراء والمهمشين النصيب الأكبر من الضرّر في الأملاك، كما في الصحة والأرواح. لهذه الفئة كذلك النصيب الأكبر من ضحايا العنف، الجريمة والأمراض كالسرطان، السكري، ضغط الدم وغيرها. وفي سياق الاستعمار الإحلالي في البلاد، هذه الفئة هي نحن.


هيثم حجو، طالب طب في معهد التخنيون - حيفا؛ د. أسامة طنوس، طبيب أطفال.

المصادر:

1. ?Do Turkeys Enjoy Thanksgiving

2. تقرير وزارة الصحة الإسرائيلية عن اللا مساواة في الصحة (باللغة العبرية)

3. عن المثقّف والثّورة/ عزمي بشارة

4. Virhow, R. C. Report on the typhus epidemic in Upper Silesia. 1848

التعليقات