لسنا جميعًا سواسية أمام "نظريات المؤامرة"

نظريات المؤامرة تتمتع بأسلوب خطابي "برانوييدي"، فيه شيء من الصحة، وليس من حيث وصم الناس بالجنون وإنما بالخوف، ذلك الخوف الذي ينزع مسؤوليتنا عن مصائرنا لوجود عدو نفترض أنه يملك من الجبروت ما لن يمكننا على المستوى الفردي أو الجماعي

لسنا جميعًا سواسية أمام

كان عقلي يلهو متذاكيا بجملة "كان ذلك مسألة وقت لا أكثر"، بعدما راسلني والدي مستفسرًا عمّا أعلمه عن فيديو يُفترض أنه مُدبلج للّغة العربية، شكك بصحّة ترجمته، والذي يُظهر الرئيس الصيني أثناء إلقاء خطاب لشعبه على ما يبدو، وكُتب في أسفل الشاشة: "عاجل؛ الرئيس الصيني: كورونا ليس فيروسا بل هو غاز السيرين وترامب المسؤول عن ما حدث في العالم". لم أكن بحاجة حتى لأن أشاهد المقطع، فالأخطاء اللغوية في العنوان كانت كفيلة بأن أتخذ موقفي من ركاكة الخرافة المؤامراتية التي يروج لها الفيديو، فقد كنت محظوظًا هذه الفترة بالتعرّف على نظريات مؤامرة أعقد وأكثر قدرة على الإقناع.

ولن أحاول، بالطبع، أن أستفيض في توضيح الفرق بين السلاح الكيماوي والبيولوجي، هذا في حال افترضنا أن الفيروس "سلاحٌ"، لكن اللافت في الموضوع، هو أن الصين، هذه الدولة "الشمولية الاستبدادية"، والتي عادة ما تتميز "عائلتها" من الدول بتوجيه تهمة المؤامرة لكل ما هو خارجي، أو من تعتبره أنه قد "يخلخل" قيم الداخل، لم تبدِ، هذه المرّة على الأٌقل، حزمًا باتهام منافستِها الأكبر عالميا، أي الولايات المتحدة، بنشر فيروس كورونا لديها، كما جاء على لسان بعض مسؤوليها الصغار مع بداية انتشار الوباء. بل جاءت الاتهامات الحادة من منارة "المنطق" و"التحليل السليم"، الإدارة الأميركية التي يرأسها غوغائي يُمكن اعتباره بمثابة التجلي الأبهى لـ"الاستثنائية الأميركية" البيضاء، إذ اتهم ترامب الصين بتطوير الفيروس مخبريَا ليتفشى قصدًا أو بغير قصد من أحد مختبراتها في مدينة ووهان، في مسرحية إعلامية نفى صحتها علماء أوبئة كُثر، ونسبوا دوافعها إلى فشله الشخصي في إدارة الأزمة التي حلت على بلاده، بل وعلى ثروته التي فقد ثلثها منذ انتشار الوباء، بحسب تقديرات وتقارير صحافية عديدة.

ولن يكون الخوض في النقاش حول مصداقية هذه المزاعم مجديًا هنا أيضًا، ففي غمرة محاولات ترامب لإبعاد اللوم عنه، ربما يكون الأمر الأكثر طرافة أنه قد يكون بالفعل مؤمنًا بوجود "نظرية مؤامرة" خلف انتشار الفيروس، وليست تصريحاته أو تغريداته محض مناورة سياسية لكسب المؤيدين، فهو يثبت مرارًا وتكرارًا أنه يمثل قاعدته الاجتماعية الأكثر إخلاصًا، تلك المؤمنة بـ"فوقية العرق الأبيض"، وتملك مواقع وقنوات للترويج لمختلف أنواع "نظريات المؤامرة" التي يُفترض أنها تُحاك ضد "عرقهم"، بدءًا من تآمر الأجهزة الإعلامية ضدهم، و"بخطة المسلمين للقضاء على البيض"، وصولا لسيطرة اليهود على العالم، وليس انتهاءً بابتكار "ناسا" لوهم اسمه "كروية الأرض".

وتكمن الطرافة هنا، بأن النخب السياسية والثقافية والإعلامية الغربية، لطالما اعتبرت مثل هذه النظريات أمرًا "شائنًا"، إذ يُفترض بالمواطن الغربي، كونه "نخبة الشعوب"، أن يحتكم للمناهج العلمية التحليلية وأن يثق بمؤسساته الديمقراطية، وأن ينأى بنفسه عن أنماط التفكير المشابهة، رغم أن السينما الأميركية ربما تكون من الأكثر ترديدًا لمثل هذه السيناريوهات التي تتطلب "بطلا أميركيًا أبيض" للقضاء على محاولات التآمر والمتآمرين.

وببحث بسيط في الإنترنت، بالإمكان رؤية العدد الهائل للأبحاث النفسية والاجتماعية التي أُجريت عن "الظاهرة"؛ ويظهر شبه إجماع بين الباحثين النفسيين على اعتبار الإيمان بنظريات المؤامرة نمطًا سلوكيًا يميز أفرادًا يندفعون نحوه انطلاقا من عقدة نقص شخصية تدفعهم نحو الحياد عن التفكير "التقليدي"، والتفرد والبروز، عبر ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة التي لم يستطع التوصل إليها سوى قلّة مُصطفاة من البشر.

أما الأبحاث الاجتماعية السياسية، فتتطرق لنظريات المؤامرة غالبًا، كـ"آفة" جماعية تميّز المجموعات المستضعفة، إذ إن تصديقها يشذ عن القاعدة "المنطقية" لنمط التفكير الإنساني "السليم"، أي ذلك الذي تمليه مؤسساتية وبيروقراطية الدولة.

وفي بحث صدر عام 1994 فحص مدى نزوع شرائح مجتمع جنوبي مدينة نيو جيرسي للإيمان بنظريات المؤامرة، استنادًا إلى إجابات نحو 400 شخص عن مجموعة من الأسئلة، بيّن أن أصحاب الأصول الأفريقية واللاتينية في المدينة، أبدوا ميلا أكبر لتصديق نظريات المؤامرة من نظرائهم البيض، وخلص إلى أن الإيمان بهذه النظريات في مثل هذه الحالة، يرتبط بإحساس الناس بالاغتراب وانعدام الأمان والإحباط من النظام. إذ توفر فكرة المؤامرة عدوًا "وهميًا" لكنه ملموس في الوقت ذاته، من حيث بساطة إمكانية تحديده وإلقاء اللوم عليه في كل شيء، انطلاقا من "منظومة إيمان أحادية" تقدم تفسيرات سهلة لأمور قد تهدد معتقدات هؤلاء الأفراد.

وسُئل المشاركون بالبحث عن موقفهم تجاه قائمة من "نظريات المؤامرة" التي كانت الأكثر انتشارا في الولايات المتحدة في تلك الفترة. وأجمع معظم السود في الدراسة على أن الحكومة الأميركية نشرت المخدرات متعمدة في أحياء السود، وهو ادعاء صنفه معدو الدراسة في خانة "نظرية المؤامرة". وفي العام ذاته لنشر الدراسة، ودون علاقة بها، أقر مستشار الشؤون الداخلية للرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، جون إيرليتشمان، أن "الحرب على المخدرات" التي شنتها الإدارة الأميركية في مطلع السبعينيات، كانت محض محاولة لتجريم حركة الحقوق المدنية السوداء والحركة اليسارية التقدمية المناهضة للحرب على فيتنام. وتسببت الحملة الأمنية الشرسة بحبس كل من يستخدم أي نوع من أنواع المخدرات، حتى وإن كان للاستهلاك الشخصي، ما أدى إلى حبس أعداد هائلة من السود، خصوصًا أن أحياءهم كانت مستهدفة عرقيًا قبل شن هذه الحملة الأمنية.

ولاحقًا، في عام 1996، ادّعت سلسلة تقارير صحافية استقصائية أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي كانت تدعم ما يعرف بـ"فرق الموت" في أنحاء أميركا اللاتينية في تلك الفترة لتقويض حركات التحرر الوطني، أو تلك المناوئة للسياسات الأميركية، موّلت دعمها لجماعات "كونترا" الإرهابية في نيكاراغوا، عبر زرع مخدر الكراك الذي يسبب الإدمان الشديد، في الأحياء الفقيرة في مدينة لوس أنجلس، وتحديدًا في أحياء السود واللاتينيين. ورغم أن عدة تقارير وأبحاث أُجريت عن هذا الموضوع، معظمها أشار إلى استحالته، إلا أن الحقيقة غير مهمة في هذا السياق، فالواقع يظهر أن المخيّلة الجماعية للسود لا بد أنها نتاج تجربتهم الطويلة والمريرة مع الاستهداف الأمني والاقتصادي والسياسي لمجتمعاتهم، والذي يُضاف إلى معانتهم مع انتشار المخدرات والجريمة في أحيائهم الفقيرة، ليتشكل بالتالي، ما يشبه وعيًا جمعيًا ينظر بعين الريبة للسلطات ويتهمها بزرع المخدرات في مجتمعاتهم للقضاء على أملها في التغيير، حتى يومنا هذا.

وفي حين أنه ما من تقرير حكومي يؤكد ذلك، إلا أن الأهوال الموثقة والمعترف بها التي ارتكبها النظام الأميركي الذي تأسس على الفوقية العرقية والعبودية أصلا، بحق السود على مدار القرون الأخيرة، أسوأ بكثير من مجرد نشر المخدرات في أحيائهم. لذا، فالمبالغة هنا، هي وصف إيمانهم بجهوزية "حكومتهم" لارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم بـ"نظرية المؤامرة"، لا العكس.

ويقول كثرٌ على سبيل المثال، إن السلطات الإسرائيلية نشرت مخدّر الهيروين في القرى العربية الفلسطينية في الداخل في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لضرب المجتمع وللقضاء على "الجدعان" الذين ظنوا أن هذا المخدر غير مسبب للإدمان، شأنه شأن الحشيش، في محاولة لتفسير "تراجع" المد الوطني في تلك الفترة، وتحديدًا بعد انتفاضة يوم الأرض. وليس مهمًا حقًا بالفعل مدى مصداقية الادعاء هذا، أيضًا، لكن المهم في هذا السياق أن احتمالية اتخاذ سلطات احتلال لمثل هذا الإجراء لمحاربة أي تحرك ضدها، ليست غريبة على عقولنا وأذهاننا كمجموعة مستضعفة تميّز قامعها بوضوح، شأننا شأن السود في الولايات المتحدة، بعكس العنصريين البيض الأميركيين الذين تبدو نظريات المؤامرة لديهم ضربًا من الجنون بالفعل.

وعند الحديث عن فلسطين، نعود إلى والدي مرّة أخرى، الذي وإن كان يميل إلى إبداء إعجابه بنظريات المؤامرة عمومًا، إلا أن ما يمّزه في هذه النقطة عن أبناء جيله، هو أنه يشكك في مصداقيتها (ما عدا ما يتعلق بـ"المؤامرة الكونية" على سورية طبعًا)، وهو ما دفعه إلى محاولة فحص "مؤامرة غاز السارين" معي، والتي لا بد أنها وصلته من إحدى المجموعات في "واتساب". وهذه النزعة نحو استهلاك مثل هذه النظريات المنتشرة على مدار السنة بيننا، وإن كانت لافتة لدى من نطلق عليهم وصف الجيل الثاني بعد النكبة، نسبة لنا نحن كفلسطينيين (ويرتبط ذلك بالعلاقة مع التكنولوجيا الحديثة أيضًا)، إلا أن نمط التفكير هذا في غاية الانتشار لدى جميع الشرائح العمرية لدينا، ولدى العرب عمومًا. فمن منا لم يتساءل مثلا إن كان جورج بوش تآمر في تفجير البرجين التوأمين في نيويورك عام 2001، ليبرر اجتياح واستباحة بلادنا (وكأنها لم تكن مستباحة أصلا). شخصيًا، لم استبعد ذاك التساؤل حتى قرأت ما ينفيها لغرض هذا المقال، لتبقى الأسئلة المفتوحة أكثر من الأجوبة بنظر كثر.

ولا يجعلنا ذلك مجانين، أو أقل "عقلانية" من نظرائنا الغربيين، فبالإضافة إلى بروباغندا أنظمتنا العربية التي لا تنفك عن استخدام وصف "المؤامرة" على كل ما حولها، ما ساهم في ترسيخ نمط التفكير هذا لدينا، فإن تاريخنا الحديث شهد بالفعل سلسلة من المؤامرات الغربية التي هدفت إلى احتلالنا وغزونا وقمعنا وغدرنا، بدءا من "خيانة" الإنجليز للشريف حسين، وليس انتهاء بتآمر فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على الإطاحة بنظام جمال عبد الناصر.

وهذا يعني أن بعض ادعاءات الباحثين بوجود تشابه بين الطرق التي يفسّر بها "المؤمنون بنظريات المؤامرة" الواقع، قد لا يكون صحيحًا أيضًا في سياقنا العربي، فما من "مجموعة" ينتمي لها جميع هؤلاء أولا، ناهيك عن أن أُسس نمط التفكير هذا غير متطابقة في ما بيننا كشعوب أو قُل كمجموعات بشرية، فبعكس إيمان العنصريين البيض، لم تأت فكرة "سيطرة اليهود على العالم" إلى الوطن العربي من فراغ أو عنصرية، فليست لدينا عداوة تاريخية مع اليهود، وإنما بدأنا نرى العالم بهذه الطريقة لأن إسرائيل تساهم يوميا بالتحكم بمصائرنا بعد احتلالنا والمساهمة في تخريب أي محاولة للتغيير في عالمنا العربي.

هناك توجس وريبة تجاه كل محاولة للتغيير تحدث حولنا، فكوننا مقهورين وخاضعين أمام تسلط الاستعمار أو الرأسمالية أو كلاهما، يجعلنا نرى هذه القوى التي تنجح بعلمية طمسنا المستمرة، وكأنها خارقة إلى حد يمنعنا من مجابهتها، لنجد أنفسنا عاجزين أمامها، فيبقى الاستسلام أمام الماورائيات ملجأ محببًا. أما التوق إلى التغيير، فيتملك عليه طابع انتظار مخلص يملك ذات القدرة الفوق الطبيعية التي يملكها القامع، لانتشالنا من هذا الضعف.

وربما يكون ادعاء المؤرخ الأميركي، ريتشارد هوستفادتر، بأن نظريات المؤامرة تتمتع بأسلوب خطابي "برانوييدي"، فيه شيء من الصحة، وليس من حيث وصم الناس بالجنون وإنما بالخوف، ذلك الخوف الذي ينزع مسؤوليتنا عن مصائرنا لوجود عدو نفترض أنه يملك من الجبروت ما لن يمكننا على المستوى الفردي أو الجماعي أن نحاربه.

أما بالنسبة لفيروس كورونا، فربما يكون من الجميل أن نرى أن نظريات المؤامرة تجتاح العالم كلّه اليوم، إذ إن الضعف أمامه كمرض هو الأمر الوحيد الذي نتساوى به كبشر، فتبعاته لن تكون متساوية البتّة. ولكن حتى ذلك أيضًا، لا يبرر شطحة "دكتور في العلاقات الدولية"، خرج على منصة إعلامية عربية، مشددًا على أن الفيروس نشأ كـ"رد فعل أميركي على التطور الاقتصادي الصيني الهائل، والصفعة التي وجهتها الجمهورية الإسلامية للقوات الأميركية في العراق".

التعليقات