تونس: حكومة المشيشي... سياقات تشكّلها والتحديات أمامها

صوّت مجلس النواب التونسي، في الأول من أيلول/ سبتمبر 2020، بالموافقة على منح الثقة لحكومة رئيس الحكومة المكلف، هشام المشيشي، بأغلبية مريحة. وذلك بعد أسابيع من استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، في خضم خلافات بين مؤسستَي البرلمان ورئاسة الجمهورية، وتحولات في

تونس: حكومة المشيشي... سياقات تشكّلها والتحديات أمامها

رئيس الحكومة المكلف، هشام المشيشي خلال كلمة عقب منحه الثقة (أ ب)

صوّت مجلس النواب التونسي، في الأول من أيلول/ سبتمبر 2020، بالموافقة على منح الثقة لحكومة رئيس الحكومة المكلف، هشام المشيشي، بأغلبية مريحة. وذلك بعد أسابيع من استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، في خضم خلافات بين مؤسستَي البرلمان ورئاسة الجمهورية، وتحولات في التحالفات الهشة التي تشكلت عقب انتخابات 2019.

سياقات تشكيل الحكومة
منذ استقالة رئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، على خلفية اتهامات بالتورّط في ملفات تضارب مصالح واستغلال الصفة لعقد صفقات "غير مشروعة"، طلب الرئيس قيس سعيّد من الكتل البرلمانية والأحزاب تقديم اقتراحات مكتوبة بخصوص الشخصية الأقدر على رئاسة الحكومة الجديدة، متجاوزًا التقاليد التي جرت عليها العادة مع الرئيسين السابقين، الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي، والمتمثلة بإجراء مشاورات ولقاءات مباشرة. وعلى الرغم من أن معظم الكتل سارعت إلى تقديم مقترحاتها مكتوبةً، باستثناء كتلة ائتلاف الكرامة التي رفضت الطريقة التي لجأ إليها سعيّد، وطالبت بمشاورات سياسية، فإن ذلك لم يخف عدم رضا حركة النهضة، أيضًا، صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان.

أعلن المشيشي، منذ تكليفه، الشروع في تشكيل حكومة "كفاءات"، خالية من أي ممثلين عن الأحزاب. وعلى الرغم من أنه لم يعلن، صراحةً، أن خيار المضي في تحضير فريقه الحكومي من خارج الأحزاب كان بطلب من سعيّد، فقد بدا واضحًا أن هذا مطلب الرئيس الذي أعلن، في أكثر من مناسبة، رغبته في صياغة مشهد سياسي من دون أحزاب، وفي إدخال تعديلاتٍ على الدستور للانتقال من النظام البرلماني الذي تحظى فيه الأغلبيات البرلمانية بالدور الرئيس في تشكيل الحكومة ومنحها الثقة أو حجبها عنها، إلى نظام رئاسي يتحوّل فيه رئيس الحكومة إلى وزير أول ينفذ سياسات رئيس الجمهورية، مستغلًا صلاحيات رئيس الجمهورية التونسي المنتخب مباشرة من الشعب، والأوسع من تلك المعروفة في الأنظمة البرلمانية.

واجه خيار المشيشي، ومن ورائه الرئيس سعيّد، تشكيل حكومة "كفاءات" مستقلة، وتهميش دور الأحزاب، معارضة جلّ المكونات الحزبية الفاعلة في البرلمان، فقد أعلنت كل من حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة والتيار الديمقراطي رفضها هذا الخيار، وطالبت بحكومة سياسية تأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات والتوازنات البرلمانية، في حين عبرت حركة الشعب عن عزمها التصويت لصالح حكومة المشيشي التي وصفها قادة الحركة بـ "حكومة الرئيس". وتصاعدت معارضة بعض الكتل والأحزاب خيار "حكومة الكفاءات"، خلال الأيام الأخيرة التي سبقت إعلان الفريق الحكومي الجديد، بعد تواتر أنباء عن ضغوط مارسها مسؤولون من الفريق المحيط بالرئيس، لفرض أسماء مقرّبة منهم على المشيشي، ما اعتبر تدخلًا من جهاتٍ لا صفة دستورية لها في تشكيل الحكومة.

ظلت المواقف المعلنة من حكومة المشيشي قائمة إلى حدود الأيام الثلاثة الأخيرة من المهلة التي منحها له الدستور، غير أنها تغيّرت بسرعة كبيرة بعد تقديم التشكيلة الحكومية إلى الرئيس سعيّد، ليوجهها، بدوره، إلى رئيس البرلمان، لتعيين جلسة لمنحها الثقة، حيث تواترت أنباء عن تراجع الرئيس عن دعم رئيس الحكومة المكلف، وعن خلافات متصاعدة بينهما؛ وهو ما تأكّد حين دعا الرئيس سعيّد ممثلي أحزاب النهضة والتيار الديمقراطي والشعب وتحيا تونس إلى اجتماع مفاجئ في القصر الرئاسي في قرطاج، للتشاور بشأن الحكومة، على الرغم من رفضه السابق أي تشاور مباشر معها في هذا الشأن، وتسرّب خبر مفاده أن الرئيس طالب الحاضرين بعدم منح الثقة لحكومة المشيشي، والإبقاء على حكومة تصريف الأعمال وتعويض رئيسها الفخفاخ برئيس آخر. وحرصت رئاسة الجمهورية، عقب الاجتماع، على بث مقاطع من الخطاب الذي وجهه سعيّد إلى الحاضرين، بلهجةٍ متوترة، وأكد فيه على أنه "لا مجال لتمریر الحكومة ثم إدخال تحویرات علیها بعد مدة وجیزة"، وأن "للشعب التونسي فكرًا سياسيًا جديدًا، يجب أن يوازيه تصور جديد للعمل السیاسي".

أثار تخلّي الرئيس سعيّد المفاجئ عن رئيس الحكومة الذي اختاره بنفسه، واضطراره إلى قبول إجراء مشاوراتٍ مباشرة مع الأحزاب بعدما كان يرفض ذلك، ثم محاولته توجيه الأحزاب لتنفيذ رغبته حين غير رأيه في المشيشي، ردود أفعال متباينة. ففي حين تبنى التيار الديمقراطي وحركة الشعب خيار عدم منح الثقة للحكومة، عقدت حركة النهضة جلسة لمجلس الشورى فيها، ليلة التصويت على الحكومة، وأقرّت منحها الثقة؛ وهو الخيار الذي اتخذه حزب قلب تونس، أيضًا. وهكذا توجّه المشيشي وفريقه، في الأول من أيلول/ سبتمبر الجاري، إلى قاعة البرلمان واثقًا بحصوله على الثقة. وعرف الحزبان الكبيران كيف يقلبان رغبة الرئيس الشديدة في التفرد بالحكم عليه، ويعيدان الاعتبار للأغلبية البرلمانية.

تجاذبات ما بعد منح الحكومة الثقة

صوّت البرلمان على منح الثقة لحكومة المشيشي بـِ134 صوتًا، مقابل اعتراض 67 نائبًا، في حين اختار بعض النواب التغيّب عن الجلسة. ويبدو من نتيجة التصويت أن نوابًا من خارج كتل النهضة وقلب تونس والمستقبل قد صوتوا لصالح منح الثقة للحكومة، ما سمح بمرورها بأغلبية مريحة.

عزّز نجاح حكومة المشيشي في نيل ثقة البرلمان بأغلبية مريحة موقف حركة النهضة وحزب قلب تونس، وبنسبة أقل ائتلاف الكرامة الذي انقسمت أصوات نوابه بين الموافقة والرفض، في معركتهم مع الرئيس سعيّد، غير أن ذلك لم يُنه التجاذب بين الطرفين، ففي مراسم أداء الفريق الحكومي الجديد القسم، ألقى الرئيس سعيّد كلمة شنّ فيها هجومًا على "أطرافٍ" لم يكشف عن هويتها، وإن بدا سياق حديثه موجهًا، بجلاء، إلى حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة والنواب الذين انتقدوا خياراته خلال جلسة منح الثقة. بدا الرئيس سعيّد في كلمته في غاية التوتر، ولم يُخف شعوره بالخذلان من المشيشي الذي اختار نيل ثقة الصف المعارض للرئيس، وهاجم خصومه بحدّة، متوعدًا بمحاسبتهم وكشف "مؤامراتهم" يومًا ما.

يشير حصول المشيشي على أغلبيةٍ مريحةٍ في جلسة منح الثقة في البرلمان واللهجة الحادّة غير المسبوقة التي تحدّث بها الرئيس سعيّد إلى تعمق الخلافات بينه وبين الأغلبية البرلمانية. وتمثّل حيازة التحالف الجديد أغلبية برلمانية تمكّنه من التحكّم في مصير الحكومة وفي مشاريع القوانين أحد العوامل الممكنة لتصاعد الصراع بين الطرفين، فرئيس الحكومة هشام المشيشي يدرك أن استقرار حكومته ومضيّها في تنفيذ برامجها لن يتحقق ما لم يحافظ على ثقة حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة وكتلة المستقبل. وهذا طبيعي في نظام برلماني. في المقابل، يدرك المشيشي أن الرئيس والحزام البرلماني المقرّب منه، والمشكّل، أساسًا، من حركة الشعب والتيار الديمقراطي وكتل أخرى صغيرة، وإنْ لم يكن بمقدورهم تغيير التوازنات الحالية، فإن بمقدورهم التشويش عليه وتعطيله.

وفي السياق ذاته، من غير المستبعد أن تدفع التوازنات والتحالفات الجديدة والشرخ الذي أصاب علاقة المشيشي بالرئيس سعيّد إلى إجراء تعديلاتٍ تشمل أعضاء في الحكومة من المحسوبين على الرئيس وفريقه، واستبدالهم بآخرين من الأحزاب الداعمة للمشيشي، وتحويل طبيعة الحكومة من حكومة "كفاءات" إلى حكومةٍ سياسيةٍ تستعين بالكفاءات، كما في الأنظمة البرلمانية؛ وهو الخيار الذي يبدو أنه لن يتأخر طويلًا، وفق تصريحات قياديين في الأحزاب الداعمة لحكومة المشيشي. ومن المتوقع أن يؤدّي هذا التعديل، في حال اللجوء إليه، إلى مزيد انحسار نفوذ الرئيس داخل الحكومة.

لم تقتصر تداعيات استقالة حكومة الفخفاخ، وتولّي حكومة المشيشي وانقلاب المواقف بشأنها، على تصاعد التجاذبات بين معسكر الرئيس والصف المعارض له، بل شملت بعض الأحزاب أيضًا. فإثر منح حكومة المشيشي الثقة، مباشرة، أعلن الأمين العام للتيار الديمقراطي، محمد عبو، والذي ظل داعمًا للرئيس سعيّد ورئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ، استقالته من مسؤولياته الحزبية واعتزال النشاط السياسي؛ وهي الاستقالة التي يُتوقع أن يكون لها تأثير في تماسك حزب التيار الديمقراطي وحضوره في المشهد السياسي وحظوظه في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، مع إمكانية انتقال عدوى التشظي إلى أحزابٍ وكتل أخرى.

حظوظ الإنجاز في سياق صعب

أسهب المشيشي في جلسة منح الثقة في استعراض التحدّيات التي تنتظر حكومته، والمتمثلة، أساسًا، بارتفاع قيمة الدَّين العام إلى حدود 80 مليار دينار تونسي (29 مليار دولار، أي نحو 70% من الناتج الإجمالي المحلي)، وبلوغ خدمة الدين العمومي ضعف نفقات التنمية، وتراجع الإقبال على الاستهلاك مع تراجع كبير للادخار، وهبوط نسبة الاستثمار إلى 13% مقابل تجاوز البطالة حاجز 15%، وتراجع إنتاج الفوسفات والنفط بفعل الاحتجاجات الاجتماعية، وتدنّي جودة التعليم، وضعف الخدمات الصحية. وللتعاطي مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، تعهّد المشيشي بأن تكون حكومته "حكومة عملٍ وإنجاز، من خلال برنامج يقوم على خمس أولويات ملحّة؛ "إيقاف نزيف المالية العمومية"، و"إصلاح القطاع العمومي"، و"استعادة الثقة ودعم الاستثمار"، و"المحافظة على القدرة الشرائية للمواطن"، و"حماية الفئات الهشة".

لا يختلف البرنامج الحكومي الذي طرحه المشيشي في جلسة منح الثقة، كثيرًا، عن البرامج التي طرحتها الحكومات السابقة منذ 2011، حيث يحتل البعد الاقتصادي والاجتماعي الحيز الأكبر منه، ما يمنح الشرعية للتساؤل عن قدرة فريقه على تجاوز السياقات التي حالت دون تحقيق الحكومات السابقة برامجها، في ظل المؤشّرات الاقتصادية السلبية التي تعمّقت، أكثر، في الأشهر الأخيرة، بفعل تداعيات جائحة كورونا وتأزّم الوضع في الجوار الليبي. والأرجح أن يذهب المشيشي في إطار ما أسماها "الإصلاحات الكبرى"، ودعوته إلى "تقاسم الأعباء في انتظار تحسّن الأوضاع"، إلى اتخاذ إجراءاتٍ لا تحظى بقبول شعبي؛ على غرار الرفع التدريجي للدعم عن المواد التموينية الذي يثقل كاهل موازنة الدولة، ووقف التوظيف في القطاع العام، وتقليص الخدمات، وفرض ضرائب جديدة، وخصخصة الشركات الحكومية الفاشلة، وهي إجراءاتٌ أثبتت التجارب السابقة أن من شأنها أن تثير التحرّكات والاحتجاجات الاجتماعية.

لا تمثل المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والتداعيات السلبية الممكنة لأي إجراءاتٍ تقشفية الصعوبات الوحيدة التي تنتظر حكومة المشيشي، فالمشهد السياسي المحكوم بالتجاذب والتنافر بين الكتل والأحزاب، وبين مؤسسات الحكم، يمثل تحديًا آخرَ أمام الفريق الحكومي الجديد الذي سيجد نفسه بين تحالف برلماني يمتلك الأغلبية ورئيسٍ يخوض معركة معلَنة مع البرلمان، ويمنحه الدستور صلاحياتٍ واسعة في العلاقات الخارجية، بما فيها الاقتصادية، كما يمنحه صلاحية توقيع القوانين التي تتقدّم بها الحكومة ويصدّق عليها البرلمان. وهي صلاحية شكلية؛ فالبرلمان هو السلطة التشريعية.

خاتمة

بحصول حكومة المشيشي على ثقة البرلمان، يدخل المشهد السياسي والمؤسساتي في تونس طورًا جديدًا يتوقع أن تسيطر عليه الخلافات والتجاذبات. وعلى الرغم من أن المشيشي تعهّد، في برنامجه الحكومي، بالشروع في حزمة إجراءاتٍ لمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها البلاد، فإنّ المؤشرات السلبية المتفاقمة والأزمات البنيوية التي يعانيها النموذج الاقتصادي التنموي التونسي، إضافة إلى الصعوبات التي أفرزتها جائحة كورونا وفوضى المشهد الليبي، تدفع إلى استبعاد حصول تغييراتٍ جذريةٍ في المدى المنظور. ولكي تتمكّن أيّ حكومة تونسية من القيام بالإصلاحات والتنمية في الوقت ذاته، يجب أن يفسح لها المجال لذلك، وأن يدرك الرئيس والبرلمان أنّ هذه مهمتها، وأنّ مهمتهما هي مراقبتها وضبطها وليس عرقلتها، ويجب أن تدرك ذلك المؤسسات النقابية وغيرها.

التعليقات