لعلّ أهم إنجازات صعود العصر النفطي في التاريخ العربي الحديث هو القضاء على كل ما هو يساري وثوري في الفكر والسياسة، ودفن أي محاولة مهما كانت ضعيفة لتحدي أنظمة النفط أو الانقلاب عليها. فقد أسّس التمويل النفطي للمشروع الوهّابي عبر إنتاج الكتب المدرسية والمناهج المستخدمة عبر البلاد العربية، والتي تطرح الإسلام الحق على أنه الإسلام الوهّابي، وعبر إنتاج أو (في حال وجودها المسبق) تحويل الحركات الدينية للإصلاح لحركات وهّابية.
وبما أن هذه الاستراتيجية النفطية تمت بالتخطيط المشترك مع الولايات المتحدة للقضاء على اليسار العربي أثناء الحرب الباردة وتشجيع اليمين الوهّابي كمنافس له، اعتقدت سلطات النفط بأنها سيطرت على البيئة العربية السياسية تماماً. ولكن سرعان ما فلتت زمام الأمور من السلطات النفطية وشرعت الحركات الوهّابية بتهديد اليد التي غذّتها وأنشأتها.
فإن كان الاقتصاد والسياسة النفطية بمثابة الأب الروحي للحركات الوهّابية عبر العالم الإسلامي، لم يستطع هذا الأب السيطرة على زخم حركتها وتوسعها وتقلباتها الاستراتيجية، ولا سيّما انقلابها في حالات معينة على الأب المموِّل. لم يتم القضاء على الحركات اليسارية الثورية العربية بالضرورة عبر القمع والإقصاء فحسب (على الرغم من أن الكثير من القمع استخدم للوصول إلى الهدف المنشود)، بل عبر التمويل الموجَّه أيضاً.
في السياق الفلسطيني، تمّ وأْد الثورة الفلسطينية مبكراً باتباع عملية مبرمجة أدت إلى إقصاء منظمة التحرير طوعاً وإخضاعها للمخطط الأميركي راضية مرضية. فإن كان خطر منظمة التحرير الفلسطينية على الأنظمة العربية الحاكمة قد بدا واضحاً أثناء مواجهتها مع النظام الأردني عام 1970، جاء التمويل النفطي للمنظمة منذ عام 1973 والدعم النفطي السياسي لها في عام 1974 في قمة الرباط ليؤدّي الدور الأكبر في إقصاء المنظمة عن أي عمل يمكن أن يهدد الأنظمة العربية القائمة.
كانت التحالفات التي قامت بها المنظمة في لبنان في منتصف السبعينيات استثناءً لسياساتها التحالفية مع كل الأنظمة العربية في تلك الحقبة، لدرجة أن المنظمة المتحالفة مع النظام المغربي رفضت الاعتراف باستقلال الجمهورية الصحراوية بقيادة «بوليساريو» التي كانت قد استلهمت برنامجها الثوري من الثورة الفلسطينية نفسها. فإن كان شرط التمويل النفطي في السبعينيات هو كفّ يد المنظمة عن الأنظمة العربية، اختلفت الأمور في الثمانينيات عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان وهزيمة المنظمة عسكرياً ونفي قياداتها إلى تونس.
فلم يكن شرط استمرار التمويل النفطي بعد عام 1982 الذي أصرَّ على عدم إشهار أسلحة المنظمة في وجه الأنظمة العربية كافياً، بل أضيف إليه شرط عدم إشهار أسلحة المنظمة في وجه إسرائيل وإنهاء المقاومة المسلحة تمهيداً للحل الدبلوماسي.
في هذه الفترة، وفور هزيمة لبنان، توجه ياسر عرفات إلى مصر لتوسيع تحالفاته مع الأنظمة العربية القائمة وأعاد تحالفه مع النظام المصري إلى ما كان عليه قبل «كامب ديفيد».
أما التحوّل الثالث في رحلة منظمة التحرير من الثورية إلى قمع الثورة، فكان في التسعينيات عقب الحرب الأميركية الأولى على العراق وانتهاء التمويل النفطي للمنظمة. هنا، وفي سياق انهيار المنظمة لانعدام التمويل، دخل التمويل الأميركي ومعه الأوروبي والياباني وأصرّوا على إضافة شرطٍ جديدٍ على الشرطين السابقين. فإن اشترط التمويل النفطي في السبعينيات عدم التعرض للأنظمة العربية وفي الثمانينيات عدم التعرض لإسرائيل، فقد اشترط التمويل الأميركي الإبقاء على سلاح المنظمة وإشهاره حصرياً، لا في وجه أعدائها التاريخيين، بل في وجه الشعب الفلسطيني نفسه إن رفض الاستسلام واستمر في ثوريته.
قبِل عرفات التمويل المشروط وأثبت جديته في قمع «حماس» فوراً بعيد اعتلائه عرش رئاسة بلدية غزة وأريحا في عام 1994. هذا الدور المنوط بمنظمة التحرير وباستمرارية تمويلها أميركياً وأوروبياً هو الحال القائمة منذ التسعينيات. أما حركة «حماس» التي مُوّلت نفطياً في التسعينيات كبديلٍ للمنظمة، فكان مموّلوها يراهنون على مقدرتها في القضاء على اليسار الفلسطيني وتقويضها لسلطة المنظمة كي تستطيع إسرائيل الجزم بأنه ليس هنالك قيادة فلسطينية موحّدة أو قائد فلسطيني لكل الفلسطينيين.
نتيجة تعدد المصادر النفطية وأيديولوجيات سلطاتها المختلفة، استطاعت «حماس» أن تخطّ خطاً مستقلاً عن مموّليها في نواحٍ جمَّة، أهمها ديموقراطيتها الداخلية ورفضها نهج الفساد المالي الذي كان قد أصبح وباءً ينخر عظام منظمة التحرير. يمكن تحليل الاستقطابات الأيديولوجية داخل «حماس» اليوم ما بين من تسميهم أميركا وإسرائيل والليبراليون العرب الجدد بـ«المعتدلين» و«المتطرفين»، عبر تتبّع المصادر التمويلية المتعددة الأيديولوجيات التي تدعم «حماس».
للسياق النفطي أهمية قصوى في الأحداث الأخيرة التي أعقبت انقلاب «فتح» على الديموقراطية ودفاع «حماس» عنها. فقد رفضت السعودية، التي تدعم الطرفين سياسياً (وإن كانت تدعم طرفاً أكثر بكثير من الثاني) والتي لم تعد المموّل الرئيسي لأي منهما، اتخاذ موقف واضح من هذه الأحداث، على رغم اعتقاد محمود عباس أنها ستقف بجانبه مثلها مثل الولايات المتحدة وإسرائيل. فقد كان رفض ملك السعودية الاجتماع مع عباس أثناء زيارة الأول للأردن إشارة واضحة لعباس أن السعودية وتمويلها لن يحرقا أي جسرٍ مع أي طرف فلسطيني، وذلك لأهداف استراتيجية، أولها مقدرة السعودية على التأثير على كل أطراف الصراع داخل فلسطين، وآخرها أن النظام السعودي هو النظام العربي الوحيد التابع للولايات المتحدة الذي يستطيع أن يعبّر عن رأي مخالف لبعض الأوامر الأميركية التي تنصاع لمجملها كل الأنظمة العربية الأخرى التابعة لأميركا. وقد كانت الاستقلالية المحدودة جداً للاستراتيجية السعودية في فلسطين هي التي حفّزت النظام المصري على التراجع عن مساندته الأولية المطلقة للانقلاب «الفتحاوي». بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن حجم المناورة الفلسطينية السياسية اليوم محصور ما بين سندان السعودية ومطرقة الولايات المتحدة. إن بقيت كل الأطراف الفلسطينية المتنازعة رهينة التمويل النفطي، فلا فرار إذاً من تحديد النفط وراعيه الأميركي لمستقبل فلسطين، كما حدّدا ماضيها منذ السبعينيات. فهل يعي ديموقراطيّو فلسطين من كوادر المنظمة (ولا نقول قادتها أو مثقّفيها اللامعين غربياً) وكوادر وقيادات «حماس» الثمن الباهظ الذي دفعه وسيدفعه الفلسطينيون مقابل التمويل النفطي؟
يجب التذكير هنا بأن «منظمة التحرير الفلسطينية» هي حركة التحرر الوحيدة في العالم الثالث التي كانت تُموَّل من أكثر الأنظمة رجعية وقمعاً. فلم نسمع يوماً بأنّ «المؤتمر الوطني الإفريقي» كان يُموَّل مثلاً من نظام قمعي مثل نظام «موبوتو» السابق في زائير أثناء نضاله ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. فالحركات التحرّرية في العالم لم تموّل ولم تصبُ إلى أن تموّل من دول إقطاعية وفاشية كي تنجز مشروعها التحرري. هذه الاستثنائية في الوضع الفلسطيني هي التي حوّلت «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى منظمة فاسدة وقمعية تموِّلها اليوم الإمبريالية العالمية في خدمة إسرائيل. فإن اعتقدت «حماس» أن بمقدورها خطّ طريق مستقل يخالف مصالح مموّليها، يجب عليها أن تعي أنها تعيش في وهم. فإن أرادت «حماس» الصراع على السلطة في ظل الاحتلال، يجب عليها أن تضع انهيار «منظمة التحرير» ومشروعها التحرّري نصب أعينها كعبرة لمن يعتبر، وإلا فسنشهد معها انهيار مشروعها التحرّري كما شهدنا انهيار مشروع «المنظمة» من قبلها.
"الأخبار"
التعليقات