24/04/2010 - 16:39

صراع المكان والنفوذ بين مصر و"إسرائيل"../ د.محمد السعيد إدريس

صراع المكان والنفوذ بين مصر و
عادة ما تواجه الدول في تخطيطها لاستراتيجياتها العليا تحديات كثيرة أولها وضع تراتبية لأولوية أهدافها الحيوية والاستراتيجية العليا، أي ترتيب هذه الأهداف وفق أولوياتها، وثانيها تحديد الأدوات والوسائل التي تتبع لتحقيق هذه الأهداف والدفاع عنها.

فالأهداف الحيوية التي يجب أن تحتل المراتب الاولى في ترتيب الاهداف هي تلك الأهداف التي لها علاقة مباشرة بحياة الدولة وأمنها الوطني، ولذلك يجب أن تكون الدولة مستعدة للدفاع عنها بكل الوسائل بما فيها الوسائل العسكرية، ثم تندرج الأدوات وتتنوع بتدرج أولوية الأهداف سواء بالمزج بين استخدام القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، أم الاكتفاء بالقوة الاقتصادية وأدوات القوة المعنوية وخاصة الثقافية والدبلوماسية والعلمية، التي تسمى الآن بالقوة الناعمة.

المهم في هذه العملية المهمة والمعقدة أن تكون الدولة قادرة أولاً على الوعي بهذه الاهداف وأهميتها، أو أن تكون قادرة على فرز هذه الاهداف والتمييز بينها ثانياً، وأن تمتلك وسائل القوة بكافة أنواعها، وتكون قادرة ثالثاً على استخدام هذه الوسائل في الوقت اللازم والمناسب، وقبل هذا كله أن تمتلك الارادة الوطنية المستقلة للدفاع عن أهدافها ومصالحها الوطنية والا ترهن هذه الارادة لأي طرف أو قوة خارجية، وأن تكون قادرة وبكفاءة على إدراك التهديد ومصادر الخطر التي تتهدد أهدافها ومصالحها الوطنية.

فالقدرة على ادراك التهديد لا تقل أهمية عن مواجهته وتتوقف قدرة ادراك التهديد على نوعية النخبة الحاكمة، ومصادر ثقافتها (عسكرية مدنية)، وأيديولوجية نظام الحكم (ديمقراطي شمولي) وغيرها من المهددات الشديدة الاهمية التي تختلف أولوياتها من دولة إلى أخرى. فالتهديد قد يكون موجوداً وحقيقياً لكن النخبة الحاكمة لا تملك القدرة على إدراكه، وقد تكون غير مستعدة لإدراكه أو مجبرة على تجاهله إما لضغوط خارجية، أو لمصالح تربط هذه النخبة بأطراف خارجية، وهنا يكون المأزق الوطني الذي يتهدد مباشرة مكانة الدولة ونفوذها.

وتعتبر مكانة الدولة ونفوذها الخارجي والأدوار الخارجية التي تقوم بها، وادراك الأطراف الخارجية لأهمية هذه الأدوار، كما تعتبر الشرعية الوطنية للنظام أي مدى الرضا الوطني عن النظام الحاكم وقدرته على إشباع الحاجات الاقتصادية والسياسية والثقافية للمواطنين، من أهم عوامل اكتساب المكانة والنفوذ في الخارج وإكساب الدولة الهيبة وسط البيئة الاقليمية والاحترام من جانب القوى الدولية.

نقول هذا ونحن نتابع بحسرة شديدة تلك التعديات والإهانات البالغة التي تتعرض لها كل من مصر والسودان من جانب دول حوض النيل في مسائل تخص واحدة من الاهداف والمصالح الحيوية ذات الاولوية العليا وهي الأمن المائي لمصر والسودان المرتبط بحصة البلدين من مياه نهر النيل.

فمنذ سنوات طويلة وبعض دول حوض النيل خاصة اثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وكينيا تسعى للنيل من الحقوق الثابتة في اتفاقات دولية المقررة للبلدين في مياه النيل وبالتحديد اتفاقية عام 1929 الموقعة بين مصر وبريطانيا نيابة عن دول حوض النيل باعتبار بريطانيا الدولة المستعمرة لهذه الدول والتي كانت تعقد الاتفاقيات باسمها.

هذه الاتفاقية تعطي لمصر 55،5 مليار متر مكعب سنوياً من مياه النيل، وتعطي للسودان 18،5 مليار متر مكعب سنوياً من مجموع إيراد مياه النهر التي تبلغ 1660 مليار متر مكعب سنوياً، ما يعني أن مصر تحصل فقط على ما يقارب 3% فقط من ايرادات النيل المائية، ولا تعتدي بذلك على حقوق الدول الأخرى سواء دول المنبع أم دول المصب، لكن الأمر يتعلق بأسباب سياسية مرتبطة بدول من خارج القارة.

فالكيان الصهيوني المعرض لندرة مائية وشح كبير في المياه خلال السنوات المقبلة بات مستعداً لشن حرب مياه من أجل مواجهة هذا الخطر، ونهر النيل يعتبر من أهم مصادر معالجة هذا الخطر، ولذلك يكثف “الإسرائيليون” علاقاتهم مع دول حوض النيل، كما يكثفون استثماراتهم ونفوذهم في هذه الدول لتأليبها ضد مصر من أجل إجبارها على تقديم جزء من حصتها المائية للكيان.

التغلغل “الإسرائيلي” في دول حوض النيل، المدعوم أمريكياً استطاع في غيبة الدور العربي والمصري خاصة منذ أن قررت مصر الانكماش في سياستها الخارجية وبالذات مع إفريقيا التي كانت صاحبة الكلمة العليا والاولى فيها خلال سنوات، أن يسرق وهج قيادة مصر لحركة التحرر العربية والعالمية، ولقد استطاعت “إسرائيل” والولايات المتحدة إقامة مشروعات مائية (سدود وقناطر واستصلاح أراضٍ) جعلت منها قوة لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة لتلك الدول.

وإلى جانب “إسرائيل” والولايات المتحدة فإن دولاً أوروبية وغربية أقدمت على شراء مساحات شاسعة من الأراضي في أثيوبيا وأوغندا وكينيا وفي طريقها لاستصلاحها وزراعتها بمياه النيل.

لهذه الاسباب ترفع الدول مطلبها بتعديل حصة مصر والسودان وتريد تجاوز اتفاقية عام 1929 باعتبارها إرثاً استعمارياً، في الوقت الذي تدنى فيه نصيب الفرد في مصر من المياه وفي السنوات القليلة القادمة ستكون في حاجة إلى حصة إضافية لا تقل عن 17 ملياراً متر مكعب.

فقد افشلت إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وكينيا اجتماع دول حوض النيل الذي اختتم اعماله في شرم الشيخ يوم 13 ابريل/نيسان الجاري معلنة انها ستوقع اتفاقية اطار بمفردها من دون مصر والسودان اعتباراً من 14 مايو/أيار المقبل، ما يعني ان هذه الدول قررت ان تضرب بالموقفين المصري والسوداني عرض الحائط في تحد غير مسبوق للمكانة والنفوذ المصري والسوداني في القارة الإفريقية الذي تقوده “إسرائيل” بشكل أساسي كواحد من أهم مجالات الصراع الجديدة التي يخوضها الكيان الصهيوني.

كيف سترد مصر على هذا التحدي، وأي وسائل سوف تلجأ إليها، وما هي فعالية هذه الوسائل، وهل يمكن أن تكون القوة العسكرية إحدى هذه الوسائل؟

أسئلة مهمة ومحرجة كان يمكن تجنبها منذ سنوات لولا العزوف المبالغ فيه عن القيام بالأدوار الواجبة على مصر في إفريقيا، عزوف استنزف النفوذ وهدد المكانة لحساب العدو الحقيقي.
"الخليج"

التعليقات