31/10/2010 - 11:02

«حق العودة» في «مجالس الصبيان» الأميركية!../ محمود مبارك*

«حق العودة» في «مجالس الصبيان» الأميركية!../ محمود مبارك*
الآن الآن وليس غداً... أجراس العودة فلتقرع»! بهذه السيمفونية الجميلة افتتح الكونغرس الأميركي جلسته يوم الثلاثاء الماضي، ليدافع وينافح - كعادته - عن حقوق اللاجئين المستضعفين في العالم. وبخلاف عادته في الصراعات الحزبية بين أعضائه، التي عادةً ما تعرقل إصدار القرارات التشريعية المهمة، تمكن مجلس النواب الأميركي من إصدار قرار غير مسبوق بإعطاء ما سماه «حق العودة للاجئين اليهود»، بإجماع يندر مثيله للدلالة على أهمية أولويات الكونغرس غير الموقر.

ففي الوقت الذي كان حرياً بالكونغرس الأميركي أن يطرح حلولاً لانخفاض معدل الجريمة داخل الولايات المتحدة التي بلغت مستويات غير مسبوقة، وعوضاً عن بحث طرق خفض نسبة البطالة، أو تحقيق ضمانات صحية للمواطن الأميركي شبيهة بتلك المتوافرة لشعوب العالم الثالث، وبدلاً من أن تتهيأ سلطة الحكومة التشريعية لمناقشة الحلول الكفيلة بإخراج الأمة الأميركية من ورطة حربها في العراق وأفغانستان التي قتلت آلاف المواطنين الأميركيين، الذين زجت بهم حكومة بلادهم في حرب كلفت الخزانة الأميركية أكثر من أربعة تريليونات دولار، قد أذنت اليوم ببدء مرحلة كساد اقتصادي بدت آثاره في أزمة عجز الموازنة الحكومية وعجز الميزان التجاري غير المسبوقين، كما بدت آثار الكساد الاقتصادي ظاهرةً في تدهور العملة الأميركية أمام العملات الأخرى التي أدت إلى هروب الاستثمارات الخارجية، بدلاً من ذلك كله، يتحفنا الشق الأصغر من الكونغرس الأميركي برغبته الجامحة في تقديم حل لمشكلة أبعد ما تكون عن حدوده الجغرافية والاقتصادية والسياسية.

ويبدو أن الكونغرس الأميركي قد خلق عرفاً غير شريف، حين وجد في أكثر من مناسبة أخيراً، ملاذاً للهروب من إخفاقاته الداخلية والانشغال بمعمعة مشكلات الشرق الأوسط، تارةً في زج نفسه بمسألة تقسيم العراق، وثانيةً بإثارة مسألة إبادة الأرمن قبل مئة عام، ثم بمسائل دارفور و «حماس» وهلم جرّا، تماماً كما فعل رئيسه طوال سبعة أعوام.

وعلى رغم ما في تدخلات الكونغرس الأميركي في شؤون الدول الأخرى من تعارض صريح وواضح مع ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص في المادة 2(7) على أنه لا يجوز للدول «أن تتدخل في الشؤون التي هي من صميم السلطان الداخلي لدولة ما»، إلا أنه من الواضح أن أعضاء الكونغرس لم يعودوا يكترثون أي طريق يسلكون، ما دام أن في ذلك سبيلاً لاسترضاء الناخب الأميركي المخدوع، ليتمكنوا من إعادة انتخابهم. فالكونغرس الذي يخوض سنة انتخابية قد لا يرى بداً من خطب وُدِّ اللوبي الصهيوني في داخل الولايات المتحدة الذي يملك الخيوط الاقتصادية والإعلامية والقانونية فضلاً عن الخيوط السياسية، عند أمة لم تعد ترى شؤونها السياسية إلا من خلال منظار صنع في إسرائيل.

وسط هذا كله، يأتي قرار مجلس النواب الأميركي يوم الثلاثاء الماضي، الذي أشار إلى أمور عدة لعل أهمها دعوة الرئيس الأميركي إلى اعتبار اليهود الذين أُجبِروا على ترك البلاد العربية، «لاجئين» وأنه يتحتم على أي إدارة أميركية حالية أو مستقبلية أن تضع ذلك في كل قرار دولي يأخذ على عاتقه حل مسألة اللاجئين الفلسطينيين.

إضافةً إلى ذلك، يشير القرار إلى حق هؤلاء «اللاجئين الجدد» - الذين تجاوز عددهم في تقدير الكونغرس 850 ألف لاجئ يهودي بعد عام 1948 - في الحصول على تعويض مادي، جراء ما تعرضوا له إبان طردهم أو هروبهم الاضطراري من الدول العربية، في استهتار من الكونغرس الأميركي بأمة العرب، ربما ليقدم شرحاً جديداً لمعنى «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»!

وبغض النظر عن انعدام أهمية القرار القانونية كونه مجرد توصية، إلا أنه من الأهمية بمكان بحيث انه قد وضع الأساس القانوني لما يمكن أن يبنى عليه تشريع مستقبلي قد يعود ليكون ملزماً في المستقبل.

ليس ذلك فحسب، بل إن القرار وإن كان غير ملزم، إلا أنه من الخطورة بمكان حيث سمح بإعادة تفسير عبارة «اللاجئين» في قرار مجلس الأمن 242(1967) ليشمل اللاجئين الفلسطينيين واليهود على حد سواء، وأشار إلى وثائق أميركية وإسرائيلية ودولية تؤكد قبول هذا التأويل، ليتم الربط بين الأمرين في أي حل سياسي مستقبلي، ولكي لا يستأثر الفلسطينيون بأي تسوية مادية وحدهم.

ولعل هذا القرار الجديد، يثير عند كل متابع عربي أسئلةً حائرةً لا تزال تبحث عن إجابات. لماذا تتلاعب بنا «مجالس الصبيان» الأميركية قبل شيوخها من دون أي سؤال من حكوماتنا العربية، فضلاً عن رفض لقراراتها؟ لماذا هذا الجبن والخور من أمة العرب عن مجرد التعبير عن رفض تعريض مصالحنا القومية والمستقبلية تحت إمرة «اللاجئين اليهود»؟ ترى هل تجرؤ البرلمانات العربية المنتخبة وغير المنتخبة على إصدار قرار تعلن فيه مطالبة إسرائيل بإعادة «اللاجئين اليهود» إلى أصولهم الحقيقية، فيعود إسحاق شامير وشمعون بيريز إلى بولندا، ويعود إيهود باراك إلى تشيكوسلوفاكيا وكذلك بقية الركب؟

متى يأتي اليوم الذي يجرؤ فيه برلمان عربي أو إسلامي واحد على مجرد المطالبة بمحاسبة الأمة الأميركية على جرائمها في فلسطين وأفغانستان والعراق والصومال وبقية الدول التي دمرتها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً؟

لماذا هذه السلبية الجامدة من الحكومات المسلمة تجاه تدخلات الكونغرس الأميركي الذي لم يكتف بلعب البيت الأبيض بنا، وإنما أراد هو أيضاً أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا الماضية والحالية والمستقبلية؟ من يدري ماذا يطرأ على بال الأفاضل من أعضاء الكونغرس في جلسته غداً حيالنا؟

هل نأمن أن يصدر أبطال «الكاوبوي» في الكونغرس عما قريب قراراً يعتبرون فيه عائدات النفط حقاً حصرياً لليهود، الذين سكن أجدادهم الجزيرة العربية قبل آلاف السنوات وتسببت مخلفات بقايا أجسادهم في تكوّن النفط؟!

المثير للسخرية، هو أن ديباجة القرار السالف الذكر، نصت على أن وجود اليهود «في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج الفارسي»، كان سابقاً لظهور الإسلام بأكثر من ألف عام!

وغني عن القول إن ربط وجود اليهود في المنطقة العربية بفترة ما قبل ظهور الإسلام فيه دلالة يغني التلميح فيها عن التصريح، والإشارة عن العبارة لما يحف بها من مطالبة مستقبلية!

وتبعاً لذلك، فإنه لا غرابة إذا جاء اليوم الذي يطالب فيه أحفاد أولئك، ليس فقط بـ «حق العودة» الى بلادهم القديمة التي سكنوها قبل 2500 عام، وإنما بالمطالبة بكل الثروات التي خسروها منذ ذلك الوقت!

ولكن، للحق فإنني أود أن أشكر الكونغرس على هذا القرار وأعرب عن ترحيبي به. ومن هذا الباب، أود أن أدعو الحكومات العربية إلى قبول قرار الكونغرس رغبةً لا رهبةً، وأن نسمح لجميع اللاجئين اليهود بمن في ذلك كبار المسؤولين الإسرائيليين، بالعودة إلى مقر آبائهم وأجدادهم الغابرين اليوم وليس غداً، وأن نعطيهم حقوق المواطنة العربية كاملة غير منقوصة، بحيث يكون لهم ما للمواطنين وعليهم ما عليهم.

وتبعاً لذلك فإن من أبجديات المواطنة في الدول العربية محاكمة هؤلاء «المواطنين الجدد»، كما تتم محاكمة المواطنين العرب في بلادهم على جرائمهم التي ارتكبوها في السابق! وإذا كان الأمر كذلك، فلنقرع أجراس العودة للاجئين اليهود الآن الآن وليس غداً!
"الحياة"

التعليقات